دراساتٌ موجزةٌ في الخيارات والشروط ::: 31 ـ 45
(31)
    الفصل الثاني
خيار تخلّف الشرط
    يطلق الشرط ويراد به تارة المعنى الأُصولي ، وهو التعليق في مقابل التنجيز ، بأن يقصد المتعاقدان ، انعقاد المعاملة في صورة وجود ذلك الشيء لا في غيرها ، كما إذا قال : بعت الدار إن قدم الحجّاج اليوم ، أو قال الواقف : إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته ، أو قال : خذ المال قرضا أو قراضاً إن أخذته من زيد ، فمن قال بشرطية التنجيز في صحّة العقود قال ببطلانه في هذه الموارد.
    وقد يطلق ويراد به الشرط الفقهي ، وهو اشتراط عمل على المشروط عليه وطلب شيء منه من خياطة ثوب ، أو تعليم شيء أو غيره.
    والمراد من الشرط في المقام هو هذا المعنى المسمّى بالشرط الفقهي ، أعني : جعل عمل على ذمّة أحد المتعاقدين ، لا الشرط الأُصولي الذي يراد به التعليق.
    إذا علمت ذلك فنقول :
    إذا شرط أحد المتعاقدين شيئاً على الآخر ، ولم يف المشروط عليه (1) ، فللمشروط له ، الخيار بين إمضاء العقد وفسخه ، كما إذا باع داره بشرط كون الثمن
1. سيوافيك حكم تعذر العمل بالشرط في المقصد الرابع ، أحكام الشروط.

(32)
نقداً كلّه ، أو أن يخيط له قميصاً ، أو نحو ذلك ; فإن وفى بالشرط فهو ، وإلا فللمشروط له ، الخيار ، لانّ عدم الوفاء بالشرط يفوِّت غرض الشارط مطلقاً ، مالياً كان أو غيره ، لأنّ إلزامه بلزوم الوفاء بالعقد المجرّد عن الشرط ضرر منفيّ في الشرع ، مضافاً إلى أنّ الموجود ، غير ما عقد عليه ، حيث إنّ المعقود عليه ، تسليم الثمن نقداً أو تسليمه مع خياطة قميص ، والمفروض تخلّفه عمّا التزم به.
    ثمّ إنّ الفرق بين خيار الشرط وخيار تخلّف الشرط واضح ، لأنّ الخيار الأوّل كما تقدّم في الفصل السابق نتيجة اشتراط المتعاقدين أو أحدهما الخيارَ في العقد وقد عُرِّف بالخيار الثابت بالاشتراط ضمن العقد. وقد عرفت أنّ من أقسامه ، شرط فسخ العقد بردّالثمن ؛ وأمّا الخيار في الثاني فهو نتيجة تخلّف المشروط عليه من العمل بما التزم به ، من دون اشتراط في العقد.
    ثمّ إنّه اتّفقت كلمة الفقهاء على صحّة الشرط الفقهي إذا كان الشرط جامعاً لشرائط الصحّة التي هي عبارة عن الشرائط التالية :
    1. أن يكون مقدوراً ، 2. أن يكون سائغاً في نفسه ، 3. أن يكون عقلائياً ، 4. أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ، 5. أن لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد ، 6. أن لايكون مجهولاً ، 7. أن لا يكون مستلزماً للمحال ، 8. أن يكون مذكوراً في العقد ، 9. أن يكون العقد منجّزاً لا معلّقاً.
    و لو قلنا بأنّ الشرط الثاني ـ كونه سائغاً في نفسه ـ يغني عن الرابع ، أعني : كونه مخالفاً للكتاب والسنة ، يرجع عدد شروط صحّة الشرط إلى ثمانية.
    و سيوافيك البحث في هذه الشروط في المقصد الثالث.
    ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري لم يذكر هذا النوع من الخيار مستقلاً استغناء عنه بما ذكره في خيار التدليس ، أو الرؤية ، أو خيار العيب ، إذ الجميع يشارك في عدم


(33)
الوفاء بما عقد عليه ، ولكنّه أفاض الكلام في شروط صحّة هذا النوع من الشرط على وجه يليق أن يعدّ رسالة خاصة في الموضوع.
    وبما انّ رائدنا في هذه المباحث ، هو متاجر الشيخ ، فنحن نقتفيه ، فنبحث في شروط صحّة الشرط في مقصد خاص بعد الفراغ عن أقسام الخيار بعون اللّه سبحانه.
التحقيق
    1. ما هو الدليل على بطلان العقد المعلّق ؟
    2. ما هو الفرق بين تعليق الانشاء وتعليق المنشأ ؟
    3. وهل هناك فرق بين التعليق على الشرط الذي ليس العقد معلّقاً عليه في الواقع ـ كقدوم الحجاج ـ وبين التعليق على الشرط الذي هو معلّق عليه في الواقع وإن لم يذكر في العقد كالزوجية عند الطلاق ، والرقية عند التحرير ، فيقول إن كانت زوجتي فهي طالق ، أو إن كان عبداً فهو حرّ ، فلا يضر التعليق في القسم الأوّل دون الثاني.
    لاحظ : متاجر الشيخ ، قسم البيع ، ص 99 وتعليقة السيد الطباطبائي ، ص 91.


(34)
    الفصل الثالث
خيار الغبن
    الغبن ـ بسكون الباء ـ أصله الخدعة ، والمراد به في المقام هو تمليك ماله ، بما يزيد على قيمته مع جهل الآخر بما لا يتسامح به غالباً ، ولم يرد فيه نصّ بالخصوص كما ورد في خيار المجلس والحيوان ، ولذا لم يذكره الصدوق في « المقنع » ولا المفيد في « المقنعة » ولا الشيخ في « النهاية » من الكتب التي تقتبس فيها الفتاوى من لسان النصوص.
    و مع ذلك كلّه فقد أوعز إليه لفيف من القدماء كالقاضي في « المهذّب » (1) ، وابن حمزة في « الوسيلة » (2) وابن زهرة في « الغنية ». (3) وذلك لأنّ في النصوص إشارات وتلويحات إليه ، مضافاً إلى أنّ الخيار فيه على وفق القواعد العامّة كما سيظهر.
    قال ابن زهرة : السبب الخامس للخيار ظهور غبن لم تجر العادة بمثله ، ويحتج على المخالف بقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا ضرر ولا ضرار » ـ ومن اشترى بمائة ما
1. المهذّب : 1/331.
2. الوسيلة : 237.
3. غنية النزوع : 2/224.


(35)
يساوي عشرة كان غاية من الضرر ـ وبنهيه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن تلقّي الركبان ، وقوله : « فإن تلقّى متلقّ فصاحب السلعة بالخيار إذا دخل السوق ، لأنّه إنّما جعل له الخيار لأجل الغبن ». (1)
    ولأجل ذلك ذكر في الجواهر : أنّه لم يجد خلافاً في المسألة بين من تعرّض له عدا ما يحكى عن المحقّق في حلقة درسه ، واستظهره في « الدروس » من كلام الاسكافي ، ونسبه في « التذكرة » إلى علمائنا. (2)

    أدلّة خيار الغبن
    استدلّ على خيار الغبن في العقود ـ التي يزيد الثمن أو ينقص عمّا هو المتعارف بكثير ـ بوجوه ، نذكر منها ما هو المهم.

    1. بناء العقلاء
    إنّ المبتاع أو الموجر أو غيرهما ، إذا حاول الشراء ـ خصوصاً إذا كان المبيع ذا قيمة باهظة ـ لا يتفق مع البائع على المعاملة إلا وفي ضميره أنّ ما يدفعه من السعر مساو للمبيع على وجه التقريب ، بحيث لو وقف على فقد هذا الوصف وانّ المساواة منتفية لما أقدم على البيع ، وهذا الالتزام وإن كان غير ملفوظ ولا مذكور في العقد لكنّه من القيود المفهومية التي تدلّ عليها القرائن اللفظية أو الحالية ، فانّ المماكسة في البيع أو السؤال من مراكز مختلفة ، أصدق شاهد على أنّه لا يشتري إلا بزعم المساواة والمقابلة ، وعلى ذلك فهي من القيود المفهومية التي لا تحتاج إلى التصريح ، وذلك كقيد وصف الصحّة الذي لا يلزم ذكره في متن العقد ، فلو ظهر
1. الغنية : 2/224.
2. الجواهر : 23/41.


(36)
معيباً يُحكم بجواز الردّ واسترداد الثمن ، وليس لأحد أن يعترض بأنّ وصف الصحّة غير مذكور ولا ملفوظ ، وذلك لأنّ القيود إنّما يلزم ذكرها فيما لا تكون مفهومة من اللفظ أو من القرينة ، وأمّا مثلها فتكفي فيه شهادة الحال أو المقال ، فإذا تخلَّف القيد وفقد المبيعُ الوصفَ الملحوظ ، فللمبتاع الردّ لأجل التخلّف.
    وإلى ذلك الوجه يشير الشيخ الأنصاري عند توجيه كلام العلاّمة بقوله :
    إنّ رضا المغبون لكون ما يأخذه عوضاً عمّا يدفعه مبنيّ على عنوان مفقود وهو عدم نقصه عنه في المالية ، فكأنّه قال : اشتريت هذا الشيء الذي يساوي درهماً بدرهم ، فإذا تبيّن أنّه لا يساوي درهماً تبيَّن انّه لم يكن راضياً به.
    فإن قلت : إنّ تبيّن الخلاف يستلزم بطلان المعاملة لا صحتها وجوازها.
    قلت : قد أجاب عنه الشيخ بقوله :
    لمّا كان المفقود صفة من صفات المبيع لم يكن تبيُّـن فقده كاشفاً عن بطلان البيع ، بل كان كسائر الصفات المقصودة التي لا يوجب تبيّن فقدها إلاّالخيار فراراً عن استلزام لزوم المعاملة ، إلزامه بما لم يلتزم ولم يرض به. (1)
    توضيحه : انّ التخلّف على قسمين :
    تارة يكون المفقود وصف من أوصاف المبيع ، وأُخرى يكون عنوانَه وذاتَه ، فالأوّل كما إذا باع فرساً عربياً فبان خلافه ، فالمعقود عليه هو الفرس وهو موجود ، وإنّما التخلّف في وصفه لا في ذاته ، فلا يقال : « ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد » في نظر العرف.
    وأمّا الثاني : كما إذا باع كومة بما أنّها حديد فبان قطناً ، فيحكم بالبطلان.
    وبذلك يعلم أنّه لو كان التخلّف في المبيع المشخص على وجه التباين
1. المتاجر : قسم الخيارات ، ص 234.

(37)
عرفاً ، يبطل فيه العقد ، وإن كان من قبيل تخلّف الوصف ، ففيه الخيار.
    وقد تقدّم أنّ عدم ذكر المساواة في متن العقد غير ضائر ، لأنّه إنّما يلزم ذكر شيء مقصود إذا لم يفهم من قرينة حال أو مقال ، بخلاف ما إذا فُهم من أحدهما كوصف الصحّة ، فالأوصاف التي لها تأثير في الرغبة ولا يغفل عنها الإنسان لا يلزم ذكرها في متن العقد.
    نعم الأوصاف الكمالية ككون العبد كاتباً ، والأمة خيّاطة ، يجب ذكرها في متن العقد ، وإلا لا يكون التخلّف دليلاً على الخيار.
    و ما ذكرنا من الدليل هو أقوى الأدلة في المقام.

    2. قاعدة لا ضرر
    قد وصف الشيخ الاستدلال بقاعدة لا ضرر من أقوى الأدلة في المقام ، وقال ما هذا نصّه :
    « إنّ لزوم مثل هذا البيع وعدم تسلّط المغبون على فسخه ، ضرر عليه وإضرار به فيكون منفيّاً ، فحاصل الرواية أنّ الشارع لم يحكم بحكم يكون فيه الضرر ، ولم يسوّغ إضرار المسلمين بعضهم بعضاً ، ولم يُمض لهم من التصرّفات ما فيه ضرر على الممضى عليه.
    و منه تظهر صحّة التمسّك بها لتزلزل كلّ عقد يكون لزومه ضرراً على الممضى عليه ، سواء أكان من جهة الغبن أم لا ، وسواء أكان في المبيع أم في غيره ، كالصلح غير المبني على المسامحة ، والإجارة وغيرها من المعاوضات ». (1)
    فإن قلت : إنّ غاية ما تثبته قاعدة « لا ضرر » هو نفي اللزوم ، فوزانها وزان
1. المتاجر : قسم الخيارات ، ص 235.

(38)
حديث الرفع ، فهو حديث رفع لا حديث وضع ، وعلى ذلك فغاية ما تثبته القاعدة هو نفي اللزوم لا إثبات الخيار بين الفسخ والإمضاء.
    قلت : يكفي في إثبات الخيار نفي اللزوم ، فانّ نفيه عبارة أُخرى عن كون المعاملة جائزة ، وجواز المعاملة يساوق كون الخيار بيد المشتري فله الإمضاء كما له الفسخ.

    3. النهي عن أكل المال بالباطل
    استدلّ على ثبوت الخيار في العقود الغبنيّة بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَموالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالباطِل إِلاّأَنْ تَكُونَ تِجارَة عَنْ تَراض مِنْكُمْ ). (1)
    استدلّ الشيخ بهذه الآية على الخيار وقال : إنّ أكل المال على وجه الخدع ببيع ما يسوي درهماً بعشرة ، مع عدم تسلّط المخدوع بعد تبيّن خدعه على ردّ المعاملة وعدم نفوذ ردّه ، أكل المال بالباطل.
    نعم ، مع رضاه بعد التبيّن بذلك لا يعدّ أكلاً بالباطل.
    أقول : قد استدلّ الشيخ بهذه الآية في غير موضع من كتاب البيع والخيارات ، ولكن الدلالة في المقام غير تامة.
    و ذلك لأنّ فساد المعاملة وحرمتها تارة يرجع إلى المسبّب ـ أي نفس المعاملة ـ مع كون السبب ( كالبيع ) جائزاً عارياً من الإشكال ، كما في بيع الملاهي والخمور والتماثيل والدماء وغير ذلك ، وأُخرى يرجع إلى نفس السبب مع كون المسبّب عارياً عن الإشكال ؛ وهذا كما في أكل المال بالرشاء والقمار واليمين الكاذبة وغيره ، فالآية ناظرة إلى القسم الثاني بشهادة لفظ « الباء » في ( بالباطل )
1. النساء : 29.

(39)
الدالة على السببية ، فالآية تدلّ على حرمة الأكل بالأسباب الباطلة في مقابل أكل المال بالأسباب الصحيحة كالتجارة مع الرضا.
    و منه يظهر عدم صحّة الاستدلال بالآية على المقام ، لأنّ الفساد في المقام يرجع إلى المسبّب ( المعاملة الغبنية ) لا السبب ( البيع ) والآية ناظرة إلى الفساد المترشّح من السبب ، والفساد في المقام مترشّح عن نفس المسبّب ( المعاملة ).
    يقول الطبرسي في تفسير الآية :
    « لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والظلم والوجوه التي لا تحل ، وقيل معناه : لا تأكلوا أموالكم باللهو واللعب مثل ما يؤخذ في القمار والملاهي ، لأنّ كلّ ذلك من الباطل ، وروي عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) أنّه يعنى بالباطل : اليمين الكاذبة ، يقتطع به الأموال. وروي عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « كانت قريش تقامر الرجل في أهله وماله فنهاهم اللّه » والأولى حمله على الجميع ، لأنّ الآية تحتمل الكل ». والفساد (1) في الكلّ يرجع إلى فساد السبب لا المسبّب.

    4. الاستدلال بالروايات
    قد عرفت أنّه لم يرد نصّ بالخصوص في خيار الغبن ، ولكن وردت فيها إلماعات إلى خيار الغبن.
    أمّا أهل السنّة فقد رووا الروايتين التاليتين :
    1. روى أبو هريرة : « أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نهى عن تلقّي الجلب ، فإن تلقّى متلقّ فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق ». (2)
1. مجمع البيان : 1/282.
2. سنن أبي داود : 3/299 ، الحديث 3437 ؛ سنن الترمذي : 3/524 ، الحديث 1321 ؛ ونقله الشيخ في الخلاف : 3/173 ، المسألة 282 من كتاب البيوع.


(40)
    2. أخرج البيهقي : « لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ». (1)
    وأمّا من طرقنا :
    1. روى إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « غبن المسترسل سحت ». (2) والاسترسال : الاستئناس إلى الإنسان والثقة بما يحدّثه.
    2. روى ميسر عنه قال : « غبن المؤمن حرام ». (3)
    3. قال الصدوق : قال الصادق ( عليه السَّلام ) : « غبن المسترسل سحت ، وغبن المؤمن حرام ». (4)
    4. حديث تلقّي الركبان ، فقد ورد فيه انّ صاحب السلعة بالخيار وقد تقدّم.
    لكن الاستدلال بما ورد من طرقنا على صحّة البيع مع الخيار غير تامّ ، لأنّ الغبن إمّا يراد منه المعنى المصدري ، أو الزيادة الحاصلة بالبيع الغبني ; فعلى الأوّل تدلّ على حرمة نفس العمل ، وعلى الثاني تدلّ على حرمة الزيادة ، وعلى كلّ تقدير لا تدلّ على صحّة المعاملة وجوازها.

    شرائط خيار الغبن
    يشترط في خيار الغبن أمران :

    الأوّل : عدم علم المغبون بالقيمة
    إنّ المغبون إمّا أن يكون جاهلاً بالقيمة ، أو غافلاً عنها ، أو عالماً بغبنه ، أو
1. سنن البيهقي : 5/348.
2. الوسائل : 12 ، الباب 17 من أبواب الخيار ، الحديث 1 و2.
3. الوسائل : 12 ، الباب 17 من أبواب الخيار ، الحديث 1 و2.
4. الوسائل : 12 ، الباب 9 من أبواب آداب التجارة ، الحديث 4.


(41)
مطمئنّاً ، أو ظانّاً ، أو شاكّاً.
    لا شكّ في ثبوت الخيار في الصورتين الأُوليين ، فالمبتاع فيها ذو خيار بين الفسخ والإمضاء.
    كما أنّه لا شكّ في عدم الخيار في الصورة الثالثة والرابعة ، لأنّ المتبادر من حديث « تلقّي الركبان » هو عدم العلم بشهادة قوله : « فإذا أتى السوق فهو بالخيار » كما أنّ المتيقّن من حديث « لا ضرر » هو الضرر الناشئ من جانب الغير لا الناشئ من إقدام المكلّف نفسه على المعاملة الغبنية مع علمه بها.
    و مثلهما بناء العقلاء ، لأنّه عندئذ أقدم مع العلم بعدم المساواة فلم يكن القيد ( المساواة ) مأخوذاً في المعاملة ، ولا موجوداً في ضميره ، ولا مبنيّاً عليه العقد ، وقد عرفت أنّ أساس الحكم بالخيار هو تقيّد المعاملة لبّاً بالمساواة.
    نعم يثبت الخيار في صورة الظنّ بالغبن والشكّ فيه ، لأنّه لم يقدم على المعاملة على وجه الإطلاق ، ولم يرفع يده عن قيد المساواة كما رفع عنه في صورة العلم والاطمئنان ، ولأجل ذلك لو تبيّنت الحال يندم على الإقدام ، بخلاف صورتي العلم والاطمئنان.

    ما هو الملاك في القيمة ؟
    إذا كان الغبن هو تمليك مال بما يزيد على قيمته مع جهل الآخر ، يقع الكلام فيما هو الملاك في القيمة ، فهل الملاك هو القيمة حال العقد مطلقاً ، ارتفعت قيمته بعده أم نزلت أو ثبتت ، أو الميزان هو القيمة حال العلم أو الفسخ ؟
    والظاهر انّ الميزان هو قيمة زمان العقد ، لما عرفت من أنّ مبنى الخيار هو


(42)
إقدام المشتري على المعاملة مبنيّاً على وجود المساواة بين المثمن والثمن ، والمفروض فقدانه في هذا الظرف ، فيثبت الخيار فيه سواء ارتفع السعر بعده أم لا ، وعلى ذلك بناء العقلاء.

    الثاني : كون التفاوت فاحشاً
    وهذا هو الذي اتّفقت عليه كلمة الفقهاء ، قال المحقّق : من اشترى شيئاً ولم يكن من أهل الخبرة وظهر فيه غبن لم تجر العادة بالتغابن به ، كان له الفسخ إذا شاء. (1)
    وقال ابن قدامة : المسترسل إذا غبن غبناً يخرج عن العادة ، فله الخيار بين الفسخ والإمضاء ، ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد ، وحدّه أبوبكر في التنبيه ، وابن أبي موسى في الإرشاد ، بالثلث ، وهو قول مالك ، لأنّ الثلث كثير ، بدليل قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « والثلث كثير » وقيل : بالسدس ، وقيل : ما لا يتغابن الناس به في العادة ، لأنّ ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف. (2)
    و دليل هذا الشرط واضح ، لأنّا لو قلنا بأنّ مدرك الخيار هو حديث « تلقّي الركبان » ، فهو منصرف عن الضرر اليسير بحيث لا يطلق عليه انّه غبن وتضرر ، كما أنّه لو كان المدرك للخيار قاعدة « لا ضرر » فهو مثله ، فلا يطلق على الضرر اليسير ، نعم هو ضرر عقلي وليس بضرر عرفي.
    و أمّا إذا قلنا بأنّ مدرك الخيار هو الشرط الضمني وتعاهد المتعاقدين على أنّ الثمن يساوي المثمن في القيمة ، فمن المعلوم أنّ المراد من المساواة هي المساواة
1. الجواهر : 23/44 ، قسم المتن.
2. ابن قدامة : المغني : 3/523.والمراد من « أحمد » إمام مذهبه أحمد بن حنبل ، كما أنّ المقصود من أبي بكر ، هو الخلاّل ( المتوفّى313هـ ) الذي جمع فتاوى « أحمد » من هنا وهناك ، بعد ما لم يكن له فقه مدوَّّن.


(43)
العرفية لا الحقيقية ، فلو كان التفاوت يسيراً فلا يعدّ نقضاً للشرط بخلاف ما إذا كان فاحشاً.
    و أمّا ما هو المعيار في القلة والكثرة ، فلا شكّ أنّ المرجع هو العرف ، ولا يمكن إعطاء ضابطة كلّية في المقام ، لأنّه يختلف نظر العرف من حيث اختلاف المبيع من جهة العزّة والندرة ، أو الكثرة والوفرة ، ومن حيث الزمان والمكان ، فربما يعدّ التفاوت في عام الجدب والغلاء تفاوتاً يسيراً ، بخلافه في زمان الخصب والرخاء ، كما أنّ ندرة الشيء وعزّته يؤثّر في قضاء العرف في كون التفاوت فاحشاً أو غير فاحش ، فالأولى إرجاع التقدير إلى العرف.

    مسقطات خيار الغبن
    البحث عن المسقطات فرع كون الخيار من الحقوق القابلة للإسقاط ، فنقول :
    إنّ الحقوق على أقسام :
    1. ما لا يصحّ إسقاطه ولا نقله ، كحقّ الأُبوّة ، وحقّ الولاية للحاكم.
    2. ما يصحّ إسقاطه ، ولا يصحّ نقله ، كحقّ الغيبة ، أو الشجب ، أو الإهانة ، أو الضرب ، بناء على وجوب إرضاء صاحبه وعدم كفاية التوبة.
    3. ما يصحّ إسقاطه ونقله ، وينتقل بالموت كحقّ القصاص وحقّ التحجير.
    4. ما يشكّ في صحّة الإسقاط والنقل ، كحقّ النفقة في الأقارب كالأبوين والأولاد. (1)
1. لاحظ للوقوف على الفرق بين الحكم والحق وأقسامه متاجر الشيخ ، قسم البيع ، ص 79 مع تعليقات السيد الطباطبائي ، ص 55 ، فإنّ هذا المبحث من المسائل المهمّة في الفقه الإسلامي ، وقد أُلّف في هذا المضمار رسائل.

(44)
    ثمّ إنّ المقام من قبيل القسم الثالث ، أي يصحّ نقله وإسقاطه ، وذلك لأنّ طبع الحقّ يقتضي جواز الإسقاط والنقل ، لأنّ ذا الحقّ مالك للأمر ومتسلّط عليه ، وهذا يقتضي كون زمام الأمر بيده من الإبقاء والإسقاط ، ولو منع مورد من الإسقاط فلأحد أمرين :
    أ. ورود دليل شرعي مانع عن الإسقاط كما في حقّ الحضانة.
    ب. قصور في كيفية الجعل ، كما هو الحال في حقّ التولية في الوقف ، وحقّ الوصاية في الوصية ، فانّ الواقف أو الموصي جعل شخصاً خاصّاً مورداً للحقّ فلا يتعدّى عنه ، وهكذا الولاية فإنّها ثابتة لشخص خاص لأجل مؤهّلات خاصّة توفّرت فيه دون سائر الناس فلا يتعدّى عنه.
    وأمّا المقام فالأمران منتفيان فيه ، فليس هناك منع شرعي من الإسقاط والنقل ، كما أنّه ليس هناك قصور في الجعل ، إذ لا يشترط في ثبوت الخيار خصوصية في ذي الخيار سوى الشروط العامة.
    وبذلك يُصبح خيار الغبن من الحقوق القابلة للإسقاط.
    فإذا ثبت أنّ خيار الغبن من الحقوق القابلة للإسقاط ، يقع الكلام في أنواع مسقطاته ، وهي على أقسام نشير إلى ثلاثة منها عاجلاً ، ثمّ نشير إلى القسم الرابع بعد الفراغ عنها :
    الأوّل : الإسقاط في متن العقد.
    الثاني : الإسقاط بعد العقد وقبل ظهور الغبن.
    الثالث : الإسقاط بعد العقد وبعد ظهور الغبن.
    و طبيعة الحال تقتضي البحث فيها بالترتيب ، إلا انّا آثرنا تقديم البحث في الصورة الثالثة باعتبارها أوضح من الصورة الثانية ، وهي بدورها أوضح من الصورة الأُولى.


(45)
    الأوّل : الإسقاط بعد العقد وبعد ظهور الغبن
    إسقاط الخيار بعد العقد وبعد ظهور الغبن على وجوه :
    أ. إسقاط الخيار مع العلم بمقدار الغبن.
    ب. إسقاط الخيار مع الجهل بمقدار الغبن ، بأيّ مرتبة كان ، فاحشاً أو أفحش.
    ج. إسقاط الخيار بزعم أنّ التفاوت عشرة فظهر مائة.
    لا كلام في صحّة الإسقاط في الصورتين الأُوليين ، إنّما الكلام في الصورة الثالثة ، ففي السقوط وجهان :
    1. عدم طيب نفسه بسقوط هذا المقدار من الحقّ كما لو أسقط حقّ عرض ، زعم انّه شتم لا يبلغ القذف فتبيّن كونه قذفاً.
    2. انّ الخيار أمر واحد مسبّب عن مطلق التفاوت الذي لا يُتسامح به ولا تعدّد فيه فيسقط بمجرّد الإسقاط ، وأمّا القذف وما دونه من الشتم فهما حقّان مختلفان ، فلا يكون أحدهما دليلاً على إسقاط الآخر. (1)
    والأولى التفصيل بين كون التفاوت داعياً وكونه قيداً ، فإن أسقط الخيار بداعي أنّ التفاوت ربع على وجه لو كان التفاوت أكثر أيضاً لما توقف في الإسقاط ، فحينئذ فقد أسقط مطلق الخيار لعدم كون الداعي قيداً ، بخلاف ما لو أسقط الخيار المقيد بكون سببه الربع ، فلا يعدّ دليلاً على سقوط مطلق الخيار ، لأنّ الساقط غير الواقع ، وما ذكر من أنّ الخيار واحد لا يتعدّد وإن كان صحيحاً ، لكن لا يكون دليلاً على صحّة الإسقاط ـ كما عليه المستدلّ ـ بل يجتمع مع بطلانه.
1. المتاجر : قسم الخيارات ، ص 238.
دراساتٌ موجزةٌ في الخيارات والشروط ::: فهرس