دراساتٌ موجزةٌ في الخيارات والشروط ::: 46 ـ 60
(46)
    هذا كلّه إذا أسقط بلا عوض ، وأمّا إذا أسقط بعوض ، بمعنى انّه صالح الغبن بشيء ، فلا إشكال في سقوط الخيار مع العلم بمرتبة الغبن أو مع الجهل به لكن مع التصريح بعموم المراتب.
    و أمّا لو أطلق مع الجهل بمرتبة الغبن ، فإن كان للإطلاق انصراف إلى مرتبة خاصّة من الغبن كما لو صالح على الغبن المحقّق في المتاع المشترى بعشرين ، بدرهم ، فإنّ المتعارف في مثل هذه المعاملة هو كون التفاوت أربعة أو خمسة في العشرين فيصالح عن هذا المحتمل بدرهم فظهر أنّ التفاوت على خلاف المنصرف بأن كان ثمانية عشر ، فيجري فيه ما ذكرناه في البحث السابق من انّه لو كان الغبن المتعارف ( أربعة في العشرين ) داعياً ، تكون المصالحة صحيحة وإلا فتبطل.

    الثاني : الإسقاط بعد العقد وقبل ظهور الغبن
    إذا أسقط بعد العقد وقبل ظهور الغبن ، فربما يقال بعدم صحّته وذلك لوجهين :
    1. إنّ إسقاط الخيار على وجه التنجيز يتوقّف على العلم به ، وهو بعدُ مشكوك ، سواء أقلنا بأنّ ظهور الغبن كاشف عنه عقلاً أو محدث وشرط شرعاً ، وإسقاطه على وجه التعليق ينافي الجزم في العقود والإيقاع.
    يلاحظ عليه : بأنّا نختار الشقّ الثاني ونقول : إنّ التعليق على ما لا يكون الإنشاء معلّقاً عليه في الواقع كقدوم الحاج ودخول الشهر يوجب البطلان على المشهور ، وأمّا تعليق العقد على ما هو معلّق عليه واقعاً فليس بمضر ، سواء أتكلّم به أو لا ، وهذا نظير طلاق مشكوك الزوجية ، وإعتاق مشكوك الرقية ، وإبراء ما احتمل الاشتغال به ، أو الإبراء عن العيوب المحتملة ، فانشاء الإسقاط في الجميع


(47)
صحيح ، سواء أكان المنشأ منجّزاً أم معلّقاً ، وعلى ذلك فلا إشكال إذا قال : أسقطت خيار الغبن لو كان هنا غبن أو ظهر.
    2. انّه إسقاط ما لم يجب حيث إنّه لم يظهر الغبن حتّى يثبت الخيار ، فيكون إسقاطه لما لم يجب.
    يلاحظ عليه ـ بعد تسليم كون ظهور الغبن محدثاً للخيار لا كاشفاً عنه ـ : أنّه يكفي في صحّة الإسقاط الاعتباري وجود المقتضي ـ يعني العقود ـ ووجود الأثر ولو بعد تبيّن الخيار ، فيكفي في نظر العقلاء وجود المقتضي والأثر المترقب. (1)

    الثالث : الإسقاط في متن العقد
    من مسقطات خيار الغبن اشتراط سقوطه في نفس العقد ، ويرد على هذا النوع من الإسقاط ما تقدّم من الإشكالات المذكورة في القسمين السابقين والجواب نفس الجواب.
    نعم هنا إشكال خاص يختص بهذا النوع وهو لزوم الغرر من اشتراط إسقاطه الموجب للغرر.
    قال الشهيد في « الدروس » : ولو اشترطا رفعه ( خيار الغبن ) أو رفع خيار الرؤية ، فالظاهر بطلان العقد للغرر.
    يلاحظ عليه : بأنّ الغرر في الحديث المروي : « نهى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن بيع الغرر » يحتمل أحد معنيين :
    1. الغرر بمعنى الخدعة والحيلة كالتدليس في المبيع.
    2. الغرر بمعنى الخطر كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ، واشتراء
1. وكم له في الفقه من نظير : مثل ضمان الدرك حيث يضمن الأجنبيّ للمشتري ثمن العين إذا ظهرت مستحقة للغير ، مع عدم ثبوت الاستحقاق ، فيقال : إنّ المقتضي للضمان وهو العقد كاف.

(48)
صبرة مردّدة بين طن أو أطنان.
    وإسقاط الخيار في متن العقد ليس من مصاديق القسم الأوّل ، إنّما الكلام في كونه من مصاديق القسم الثاني ، فنقول :
    إنّ البيع المخطور عبارة عن ما إذا كان مجهول الذات كبيع ما في قبضة اليد المردّد بين كونه حجراً أو ذهباً ، أو مجهول الصفات كما إذا علم أنّه ذهب مردد بين عيارات مختلفة ، أو مجهول المقدار كما في مورد الصبرة.
    و أمّا البيع مع الجهل بالقيمة الواقعية كما هو الحال في المقام ، فهو على قسمين :
    تارة يكون السعر مجهولاً بتاتاً ، كما إذا اشترى شيئاً وأسقط خياره في متن العقد وتردد قيمة الشيء بين دينار وألف دينار فاشتراه بألف دينار.
    و أُخرى يكون معلوماً في الجملة ، لكن يكون محتمل الزيادة كما في المقام ويسقط خياره مع الجهل بالقيمة على وجه دقيق ، لكن شمول النبوي لهذا القسم مورد تأمّل ، بل منع ، وإلا يلزم بطلان أكثر المعاملات التي يحتمل فيها الغبن ، إذ يكون عندئذ محكوماً بالبطلان لكونه غرريّاً ولا يصحّحه الخيار ، وإلا يلزم تجويز كلّ معاملة غررية بالخيار.
    إلى هنا تمّ الكلام في الأقسام الثلاثة التي يجمعها كون المسقط أمراً لفظيّاً إمّا في العقد ، أو بعده وقبل ظهوره أو بعده.
    بقي الكلام في القسم الرابع الذي يكون المسقط فعلاً من أفعال المغبون ، فهذا هو الذي نتلوه عليك.

    الرابع : تصرّف المغبون فيما اشترى بعد علمه بالغبن
    قد اشتهر بينهم أنّ تصرّف ذي الخيار فيما انتقل إليه إجازة ، وفيما انتقل


(49)
عنه فسخ ، وهذه القاعدة معقد الإجماع ، ولو قلنا بحجّيته في المقام يكون تصرّف المغبون مسقطاً للخيار.
    لكن المتيقّن منه هو ما إذا تصرّف في المبيع تصرّفاً كاشفاً عن رضاه الشخصي بالمبيع ، أو تصرّف فيه تصرّفاً يدلّ بنوعه على رضا المتصرّف نوعاً بالبيع وإن لم يعلم التزامه الفعلي به.
    والدليل على السقوط في هاتين الصورتين عموم التعليل في صحيحة علي بن رئاب ، قال : « فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيّام ، فذلك رضا منه فلا شرط ( أي لا خيار ) ». (1)
    والمراد من إحداث الحدث هو التصرّف الكاشف عن الرضا الشخصي أو النوعي ، وأمّا إذا تصرّف فيه بعد العلم بالغبن تصرّفاً لا يكشف عن الالتزام الشخصي ولا النوعي ، فالظاهر بقاء الخيار لوجود المقتضي وهو إطلاق أدلّة الخيار ، وعدم المقيّد ، لما عرفت من أنّ التعليل في صحيحة علي بن رئاب منصرف إلى القسمين الأوّلين ، وهذا كما إذا لبس الثوب أو طالع الكتاب ونحو ذلك.

    هل خيار الغبن فوري أم لا ؟
    نسب إلى المشهور (2) انّ خيار الغبن فوري ، فلو أهمل في الإعمال بعد الوقوف على الغبن يسقط.
    استدلّ له بأنّ الخيار على خلاف الأصل وهو اللزوم ويقتصر فيه على المتيقّن.
1. الوسائل : 12 ، الباب 4 من أبواب الخيار ، الحديث 1.
2. الحدائق : 19/43.


(50)
    كما استدلّ على عدم الفورية بأنّ الأصل بقاء الخيار حتّى بعد التساهل في الاعمال.
    و كلا الاستدلالين يعربان عن عدم وجود إطلاق في دليل الخيار ، ولأجل ذلك التجأ الأوّل بالأخذ بالقدر المتيقّن ، والثاني إلى استصحاب الخيار ، ولكن الظاهر وجود الإطلاق في بعض أدلّته.
    و تكفي في المقام قاعدة لا ضرر ، فانّ ظاهر « لا ضرر ولا ضرار » هو الإخبار عن عدم وجود أيِّ ضرر وضرار في الخارج ، ومن المعلوم أنّ الإخبار ليس على وفق الواقع ، إذ ما أكثرَ الضررَ والضرارَ فيه ، غير أنّ المسوّغ لهذا الإخبار هو عدم تشريع أيّ حكم ضرري في الإسلام بحيث صار ذلك سبباً للإخبار عن عدم أيّ ضرر فيه.
    فإذاً الحديث يشير إلى خلو صفحة التشريع من الحكم الضرري ، ومقتضى نفيه على وجه الإطلاق هو نفيه في جميع الأزمنة من غير فرق بين الزمان الأوّل والثاني.
    و لازم ذلك بقاء الخيار في الزمان الثاني ، وإلا لم يصحّ نفي الضرر على وجه الإطلاق.

    عدم اختصاص خيار الغبن بالبيع
    لا إشكال في عدم اختصاص خيار الغبن بالبيع ، بل هو ثابت في كلّ معاملة غير مبنيّة على التسامح ، والإجماع وإن كان قاصراً عن إثبات العموم لكن قاعدة لا ضرر وبناء العقلاء غير قاصرين.
    نعم لا غبن في الصلح لأجل رفع النزاع أو احتمال الشغل ، لأنّ بناء


(51)
الصلح على المحاباة وعدم المداقّة ، اللّهمّ إلا إذا كان الاحتمال دائراً بين العشرة والعشرين فيصالح بالأوّل فبان أنّه ألف ، فعند ذلك يتعلّق به الخيار.
التحقيق
    هل ظهور الغبن شرط شرعي كحدوث الخيار ، أو كاشف عقلي عن ثبوته حين العقد ؟ حقّق لنا هذا الموضوع ولاحظ المتاجر قسم الخيارات ، ص 237 وتعليق السيد الطباطبائي ، ص 40.


(52)
    الفصل الرابع
خيار العيب
    « العيب » من المفاهيم العرفية التي يقف عليها العرف بصفاء ذهنه ولا يحتاج إلى تعريف ، قال سبحانه حاكياً عن مصاحب موسى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَساكِين يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكَانَ وَراءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفينَة غَصْباً ) (1) ولا نحتاج في تفسير الآية إلى تعريف العيب ، وإن أردت صياغة تعريف له ، فلك أن تقول :
    إنّ لكلّ شيء حسب الخلقة أو حسب موازين الصنعة ، مقياساً طبيعياً أو صناعياً يشارك فيه أغلب الأفراد ، ويعدُّ فقدان ذلك عيباً ، فالخروج عن المقياس الطبيعي أو الصناعي في الأُمور الطبيعية والصناعية على وجه يوجب رغبة الناس عنه ، عيب ؛ فخرج ما يوجب كثرة الرغبة فيه كالحدة في البصر في العبد ، والإتقان البالغ في المصنوع ، والعبد المختون بين المسلمين.
    هذا ما لدينا.

    مفهوم « العيب » عند المشهور
    عرّفه المشهور بقولهم : كلّما زاد عن الخلقة الأصلية أو نقص عنها ؛ عيناً كان
1. الكهف : 79.

(53)
الزائد أو الناقص ، كالإصبع الزائد على الخمس أو الناقصة منها ؛ أو صفة ، فهو عيب.
    يلاحظ عليه : بأنّه لا يمكن عدّ كلّ ما كان على خلاف مقتضى الخلقة الطبيعية عيباً ، وإنّما يعدّ عيباً إذا كان سبباً لرغبة الناس عنه كالثيبوبة ، لا لرغبتهم فيه كالختان بين المسلمين ، فانّ غير المختون معرّض للخطر فكيف يعدّ الختان عيباً ؟!
    فبإضافة ما ذكرنا من القيد ( ما يوجب قلّة الرغبة ) يتقوّم تعريف العيب ـ عند المشهور ـ بأمرين :
    1. خروجه عن مقتضى الخلقة الأصلية.
    2. كونه سبباً لرغبة الناس عنه.
    و هل يشترط ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ أن يكون النقص الخلقي سبباً للنقص المالي ؟ كما عليه الشيخ الأنصاري ; وعلى ذلك فالنقص الخلقي غير الموجب للنقص المالي كالخصاء ونحوه لا يعدّ عيباً.
    و لمّا كان مقتضى ذلك عدم الخيار فيما إذا ظهر انّ المبيع خصيّ لكثرة الرغبة فيه لأغراض خاصّة ، حاول الإجابة عنه ، بقوله : إنّ الغالب في أفراد الحيوان لما كان عدمه ، كان إطلاق العقد منزلاً على إقدام المشتري على الشراء مع عدم هذا النقص ، فتكون السلامة عنه بمنزلة شرط اشترط في العقد ، ولا يوجب تخلّفه إلا خيار تخلّف الشرط لا خيار العيب. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه لا يشترط في صدق العيب استلزامه النقصَ المالي وإن كان الغالب كذلك ، لما عرفت من أنّ العيب مفهوم عرفي يوصف به الشيء عند
1. المتاجر : قسم الخيارات ، ص 266.

(54)
التخلّف عن المقياس المقرّر له حسب الخلقة أو الصناعة ، فإذا تخلّف عنه تخلّفاً موجباً لرغبة الناس عنه ، يعدّ عيباً. وإقبال بعض الأثرياء على شراء ذلك المعيب لغرض خاص لا يخرجه عن كونه معيباً ، فلو اشترى عبداً فبان خصيّاً فللمشتري خيار العيب ، لا خيار الاشتراط.

    اقتضاء العقد السلامةَ
    ثمّ إنّ الدليل الواضح على الخيار في هذا النوع من العقد هو اقتضاء العقد السلامةَ من غير فرق بين عقد وعقد ، فمقتضى العقد في البيع هو سلامة المبيع ، كما أنّ مقتضاه في الإجارة سلامة العين المستأجرة ، إلى غير ذلك من العقود.
    استدلّ على ذلك بالأُمور التالية :
    1. انصراف المطلق إلى الفرد الصحيح.
    يلاحظ عليه : أوّلاً : بمنع الانصراف ، ولذلك لا يجري في الأيمان والنذور والوصايا.
    وثانياً : عدم جريانه فيما إذا كان المبيع أو العين المستأجرة أمراً جزئياً خارجيّاً ، لأنّ مجرى الانصراف فيما إذا كان المبيع كلّياً ، والمفروض انّه جزئي.
    2. إنّ وصف الصحّة قد أخذ شرطاً في العين الخارجية نظير وصف الكمال كمعرفة الكتابة أو غيرها من الصفات الكمالية المشروطة في العين الخارجية ، وإنّما استغني عن ذكر وصف الصحّة لاعتماد المشتري أو المستأجر في وجودها على الأصل ؛ كالعين المرئية سابقاً حيث يعتمد في وجود أصلها وصفاتها على الأصل.
    والحاصل : إنّ وزان صفات الصحّة ، كوزان صفات الكمال ، ولما كانت أصالة الصحة أمراً مسلّماً بين المتعاقدين فلا تُذكر في العقد ، بخلاف صفات الكمال فانّها بحاجة إلى الذكر فيه.


(55)
    يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ هذا الوجه يعود خيار العيب إلى خيار تخلّف شرط الصحّة ويعدّ من أقسامه ، مع أنّه أمر مستقل عند الفقهاء.
    3. إنّ أصالة الصحّة في الأشياء الطبيعية أصل مسلّم بين العقلاء ، التي أخبر عنها الوحي ، كما في قوله : ( الَّذِى أَحسنَ كُلَّ شَىء خَلَقَه ). (1)
    و قد اتّفق عليها العقلاء من طريق التجربة ، فصارت أصلاً معتمداً بين العقلاء في معاملاتهم وعقودهم ، ومرتكزة للأذهان في مبادلاتهم ومعاوضاتهم ، وإن لم يكن كذلك في غير ذلك المجال كالوصايا والأيمان والنذور ، فلو تخلّف ، لا يُلزم المتخلّف عليه بالوفاء بعهده ( كدفع الثمن ) ، لأنّ الموجود غير المعهود عليه إلا إذا سمح ورضي بالفاقد واكتفى من المطلوب بالدرجة الوسطى لا القصوى.
    وبذلك يظهر الفرق بين خيار شرط الصحّة ، وخيار العيب ، فالأوّل مستند إلى ذكرها في متن العقد ، بخلاف الثاني فهو مستند إلى أصل عقلائي معتبر في المعاوضات.
    كما يظهر انّ ذكر شرط الصحّة في متن العقد يحدث خياراً مستقلاً لو بان الخلاف ، لما عرفت من تغاير الملاكين. (2)
    و هذا الوجه من أوضح الأدلّة على وجود الخيار في أمثال هذه العقود.

    حكم ظهور العيب
    إذا ظهر العيب فالرائج بين العقلاء هو أنّه ليس للمشتري ولا غيره إلا أمر
1. السجدة : 7.
2. وأمّا ما روي عن يونس الدالّ على أنّ شرط الصحّة لا يفيد سوى التأكيد فليس بحجّة ، لأنّه لم يُسند الرواية إلى المعصوم ، ولعلّه من آرائه الخاصة به. ( لاحظ : الوسائل : 12 ، الباب 6 من أبواب أحكام العيوب ، الحديث 1 ).


(56)
واحد وهو كونه مستحقاً للردّ وأخذ الثمن فقط وليس عندهم وراء ذلك شيء آخر.
    و أمّا كونه مخيّراً بين الردّ وأخذ الثمن والإمساك مع الأرش فليس بينهم عنه أثر.
    نعم لو لم يتمكن من ردّ المعيب كان له عليه الأرش ، فليس أخذ الأرش في عرض جواز الرد.
    نعم لو تراضيا على أخذ الأرش حتّى في صورة التمكّن من الردّ فهو أمر آخر ، إنّما الكلام في أنّه هل للمشتري من بدء ظهور العيب أحد الأمرين بحيث يتمكّن من إجبار البائع على واحد منهما : الردّ وأخذ الثمن ، أو إمساكه وأخذ الأرش ، وانّ زمام الأمر في تعيين أحد الأمرين بيد المشتري ، فهذا ما ليس منه بين العقلاء عين ولا أثر.
    ويظهر من الشيخ الطوسي في « المبسوط » أنّ الأرش ليس في عرض الردّ وإنّما يُلتجأ إليه عند عدم التمكّن ، قال : ـ « فيما إذا باع المشتري ، المعيبَ قبل علمه بالعيب » ـ : وأمّا لو باعه قبل العلم بالعيب ثمّ علمه فانّه لايمكنه الردّ ، لزوال ملكه ولا يجب أيضاً له الأرش ، لأنّه لم ييأس من ردّه ( المشتري الثاني ) على البائع ( المشتري الأوّل ) ، فإن ردّه على المشتري الأوّل واسترجع الثمن فانّ المشتري الأوّل يردّه على البائع أيضاً. (1)
    ترى أنّ العبارة ظاهرة في أنّ الأرش يتعيّن حين اليأس من إمكان الردّ لا مطلقاً.
    و ربّما يظهر ذلك أيضاً من ابن البرّاج فيما اشترى دنانير بدراهم معيّنة : فإذا كان العيب من جنسه مثل أن يكون فضة خشنة أو ذهباً خشناً أو تكون
1. المبسوط : 2/131.

(57)
السكة فيه مضطربة مخالفة لسكة السلطان ، فذلك عيب ، وهو مخيّر بين الرد واسترجاع الثمن ، وبين الرضا به ، وليس له المطالبة ببدل ، لأنّ العقد تناول عينه ووقع عليها ولا يجوز له إبداله. (1)
    ترى أنّه ذكر حكم الإبدال ولم يذكر الأرش.
    ويظهر ذلك القول من فقهاء السنّة ، فليس عندهم إلا الردّ وأخذ الثمن ، قال ابن قدامة : إنّه متى علم بالمبيع عيباً ، لم يكن عالماً به ، فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء أكان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم ، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً ، وإثبات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) خيار التصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ، ولأنّ مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب. (2)

    ما هو المشهور عند الأصحاب ؟
    قد عرفت ما هو الرائج عند العقلاء وبعض الأصحاب ، غير أنّ المشهور عند أصحابنا هو التخيير بين الردّ وأخذ الأرش ، وانّهما في عرض واحد ، وإليك بعض نصوصهم :
    قال المفيد : فإن كان المبيع جملة وظهر العيب في بعضه ، كان للمبتاع أرش العيب في البعض الذي وجده فيه ، وإن شاء ردّ جميع المتاع واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب دون سواه. (3)
    و تبعه الشيخ في « النهاية » (4) ، وسـلاّر في « المراسم » (5) وابن حمزة في « الوسيلة » (6) ، وابن إدريس في « السرائر ». (7)
1. المهذّب : 1/366.
2. المغني : 4/179.
3. المقنعة : 597.
4. النهاية : 392.
5. المراسم : 175.
6. الوسيلة : 256.
7. السرائر : 2/296.


(58)
    و على رأيهم جرى الأصحاب في العصور المتأخرة وهو غير خفيّ على من راجع الشرائع وكتب العلاّمة والشهيدين قدّس اللّه أسرارهم.

    الاستدلال على قول المشهور
    استدلّ على القول المشهور بوجوه قاصرة نشير إليها :
    الأوّل : قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا ضرر ولا ضرار » فإنّ الحكم بلزوم العقد مع العيب ضرر بلا كلام ; فدفعه يتحقّق بأحد الأمرين : الردّ وأخذ الثمن ، والإمساك مع الأرش.
    يلاحظ عليه : أنّ الحديث لا يثبت تمام المقصود ، لأنّ الضرر ـ كما قال : ـ وإن كان يندفع بأخذ الأرش ، يندفع بالردّ وأخذ الثمن ، وأمّا كون الاختيار بيد المشتري في تعيين أحد الأمرين مع عدم رضى البائع إلا بالردّ فلا يدلّ عليه.
    الثاني : ما ورد في الفقه الرضوي ، قال : « فإن خرج في السلعة عيب وعلم المشتري فالخيار إليه ، إن شاء ردّها وإن شاء أخذها ، أو ردّعليه القيمة مع أرش العيب ». (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الفقه الرضوي لا يصلح للاحتجاج ، لأنّه إمّا رسالة علي بن بابويه إلى ولده الصدوق ، أو كتاب الشلمغاني المسمّى باسم « التكليف » ، وإن كان الأظهر هو الأولى ، على أنّ العبارة ليست صريحة فيما عليه المشهور.
    الثالث : الروايات الواردة في المقام ، وإليك بيانها :
    1. مرسلة جميل ، عن أحدهما ( عليه السَّلام ) في الرجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد فيه عيباً ؟ فقال : « إن كان الشيء قائماً بعينه ردّه على صاحبه وأخذ الثمن ، وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب ». (2)
1. مستدرك الوسائل : 13 ، الباب 12 من أبواب الخيار ، الحديث 3.
2. الوسائل : 12 ، الباب 16 من أبواب الخيار ، الحديث 3.


(59)
    يلاحظ على الاستدلال بالحديث بأنّه بصدد التفصيل بين بقاء المبيع على ما هو عليه وعدمه ، فالردّ في الأوّل والأرش في الثاني ، ولا يدلّ على أنّ الإمساك مع الأرش في عرض الردّ وأخذ الثمن مطلقاً ، بل يدلّ على أنّ الأرش عند عدم بقاء العين على ما هو عليها.
    2. صحيحة ابن سنان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في حديث قال علي ( عليه السَّلام ) : « لا تردّ التي ليست بحبلى إذا وطأها صاحبها ، ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها ». (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه يدلّ على أنّ التصرّف مانع عن الردّ ويتعيّن الإمساك وأخذ الأرش ، وأين هذا من كون أخذ الأرش في عرض الردّ وأخذ الثمن مطلقاً حتّى فيما إذا لم يكن هنا تصرّف مانع من الردّ ؟!
    3. صحيح ميسر ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قلت له : رجل اشترى زقّ زيت فوجد فيه درديّاً ، قال : فقال : « إن كان يعلم أنّ ذلك يكون في الزيت لم يردّه ، وإن لم يكن يعلم أنّ ذلك يكون في الزيت ردّه على صاحبه ». (2)
    يلاحظ عليه : أنّه بصدد التفصيل بين علم المشتري بالعين وجهله ، فيردّ في الثاني دون الأوّل ، فأين هذا من الإمساك وأخذ الأرش ، فضلاً عن كونه في عرض الردّ وأخذ الثمن ؟!
    4. ما رواه السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه أنّ علياً ( عليه السَّلام ) قضى في رجل اشترى من رجل عكة فيها سمن ، احتكرها حكرة فوجد فيها ربّاً ، فخاصمه إلى علي ( عليه السَّلام ) ، فقال له علي ( عليه السَّلام ) : « لك بكيل الرب سمناً » ، فقال له الرجل : إنّما بعته
1. الوسائل : 12 ، الباب 4 من أبواب أحكام العيوب ، الحديث 1.
2. الوسائل : 12 ، الباب 7 من أبواب أحكام العيوب ، الحديث 1.


(60)
منك حكرة ، فقال له علي ( عليه السَّلام ) : « إنّما اشترى منك سمناً ولم يشتر منك ربّاً ». (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه يدلّ على لزوم تبديل الرب الموجود بالسمن ، وأين هذا من أخذ الأرش ؟!
    5. ما رواه عمر بن يزيد ، قال : كنت أنا وعمر بالمدينة ، فباع عمر جراباً هروياً كلّ ثوب بكذا وكذا ، فأخذوه فاقتسموه فوجدوا ثوباً فيه عيب ، فقال لهم عمر : أعطيكم ثمنه الذي بعتكم به ، قالوا : لا ولكنّا نأخذ منك قيمة الثوب ، فذكر ذلك عمر لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) ، فقال : « يلزمه ذلك ». (2)
    يلاحظ عليه : بأنّه أجنبي عن المطلوب ، لأنّ البائع كان مستعدّاً لأن يقبل خصوص الثوب المعيب ويدفع الثمن الذي باع به ، ولكن المشتري كان مصرّاً على دفع القيمة السوقية له إن كان صحيحاً.
    فأجاب الإمام ( عليه السَّلام ) بأنّه يلزم المشتري ما اقترحه البائع ( عمر ) من أخذ الثمن لا القيمة ، لأنّ مقتضى الفسخ ولو في بعض المبيع أخذ الثمن لا القيمة ، وتظهر الفائدة فيما إذا كان الثمن أقلّ من القيمة ، وأين هذا من مسألة أخذ الأرش ؟!
    إلى هنا تبيّن عدم دليل واضح على أنّ أخذ الأرش في عرض الردّ وأخذ الثمن ، وأوّل من تنبّه لذلك المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد ثمّ صاحب الحدائق. (3)
    وبذلك تبيّن أنّ ذا الخيار ليس له إلا الردّ وأخذ الثمن.
    نعم فيما لا يتمكّن من الردّ ينتقل الأمر إلى الأرش.
1. الوسائل : 12 ، الباب 7 من أبواب أحكام العيوب ، الحديث 3.
العكّة بالضم : آنية السمن ؛ حكرة : جملة.
2. الوسائل : 12 ، الباب 16 من أبواب الخيار ، الحديث 1.
3. الحدائق : 19/36 ؛ نقله عن الأردبيلي أيضاً.
دراساتٌ موجزةٌ في الخيارات والشروط ::: فهرس