دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: 91 ـ 105
(91)
    الدرس الثامن عشر
ما وقع في أسناد كتاب « كامل الزيارات »
    إنّ مؤلف كتاب « كامل الزيارات » هو الشيخ الأقدم والفقيه المقدّم أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ( المتوفّى عام 367 أو 369 هـ ) من أجلاّء الأصحاب في الحديث والفقه ، ووصفه النجاشي بقوله بأنّه من ثقات أصحابنا وأجلاّئهم في الفقه والحديث ، وتوارد عليه النصّ بالوثاقة في « فهرست » الشيخ ، و « الوجيزة » و « البحار » للعلاّمة المجلسي ، و « بلغة الرجال » للشيخ سليمان الماحوزي ، و « المشتركات » للشيخ فخرالدين الطريحي ، و « المشتركات » للكاظمي ، و « الوسائل » للحرّ العاملي ، و « منتهى المقال » للشيخ أبي علي في ترجمة أخيه ، والسيد رضي الدين بن طاووس ، وغيرهم من الأعلام. (1)
    وكتابه هذا من أهمّ كتب الطائفة وأُصولها المعتمد عليها في الحديث ، وقد ذكر هو ( قدَّس سرَّه ) في مقدّمة كتابه ما دعاه إلى تصنيفه ، ثمّ قال : ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم إذا كان فيما روينا عنهم من حديثهم ـ صلوات اللّه عليهم ـ كفاية عن حديث غيرهم ، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره ، و لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا ـ رحمهم اللّه برحمته ـ ولا
1. لاحظ : مقدّمة كامل الزيارات ، بقلم المحقّق الاردو بادي.

(92)
أخرجت فيه حديثاً روي عن الشُّذاذ من الرجال يؤثّر ذلك عنهمعليهم السَّلام المذكورين ، غير المعروفين بالرواية ، المشهورين بالحديث والعلم ، وسمّيته كتاب « كامل الزيارات » وفضلها وثواب ذلك. (1)
    وقد استظهر الشيخ الحر العاملي (2) ( المتوفّـى 1104 هـ ) وغيره من تلك العبارة أنّ جميع الرواة المذكورين في اسناد أحاديث ذلك الكتاب من روي عنهم إلى أن ينتهي إلى الإمام ، من الثقات عند المؤلف ، فلو اكتفينا بشهادة الواحد في الموضوعات يعدّ كلّ من جاء في أسناد ذلك الكتاب من الثقات بشهادة الثقة العدل ، أعني : ابن قولويه ، وقد استخرج بعض الأفاضل أسماء الواردين في أسناد ذلك الكتاب فبلغوا 380 شخصاً.
    وممّن أصرّ على هذا القول السيد المحقّق الخوئي ، فقال بعد نقل ما حكيناه عن كتاب كامل الزيارات : انّ هذه العبارة واضحة الدلالة على أنّه لا يروي في كتابه رواية عن المعصوم إلاّوقد وصلت إليه من جهة الثقات من أصحابنا ، ثمّ أيّد كلامه بما نقلناه عن صاحب الوسائل ، ثمّ قال : ما ذكره صاحب الوسائل متين ، فيحكم بوثاقة من شهد جعفر بن محمد بن قولويه بوثاقته ، اللّهم إلاّأن يبتلى بمعارض. (3)
    ولكن الحقّ ما استظهره المحدّث النوري حيث قال : بأنّ العبارة المذكورة تدلّ على توثيق كلّ من صُدِّر بهم سندُ أحاديث كتابه لا كلّ من ورد في أسناد الروايات.
    وبعبارة أُخرى تدلّ على توثيق كلّ مشايخه لا توثيق كلّ من ورد في أسناد
1. مقدّمة كامل الزيارات : ص 4.
2. الوسائل : 20/68.
3. معجم رجال الحديث : 1/50. وسيوافيك انّه ( قدَّس سرَّه ) عدل عنه.


(93)
ذلك الكتاب. (1)
    ويدلّ على ما ذكرنا أُمور :
    1. انّه استرحم لجميع مشايخه حيث قال : من أصحابنا ـ رحمهم اللّه برحمته ـ و مع ذلك نرى أنّه روى فيه عمّن لا يستحقّ ذلك الاسترحام ، فقد روى في هذا الكتاب عن عشرات من الواقفة والفطحية ، وهل يصحّ لشيخ مثل ابن قولويه أن يسترحم لهم ؟
    2. روى في الباب الثامن في فضل الصلاة في مسجد الكوفة عن ليث بن أبي سليم وهو عامي بلا إشكال. (2)
    كما روى عن علي بن أبي حمزة البطائني المختلف فيه ، فقد روى عنه في هذا الكتاب في الصفحات : 63 ، 84 ، 108 ، 119 ، 246 ، 248 ، 294.
    كما روى عن حسن بن علي بن أبي حمزة البطائني في الصفحات : 49 ، 100.
    كما روى عن عمر بن سعد الذي هو من مشايخ نصر بن مزاحم مؤلف كتاب « صفين » المتوفّى عام 212 هـ في الصفحات : 71 ، 72 ، 90 ، 93.
    كما روى فيه عن بعض أُمهات المؤمنين التي لا يركن إلى حديثها ( الصفحة 31 ، الباب الثامن ، الحديث 16 ).
    3. كان القدماء من المشايخ ملتزمين بعدم أخذ الحديث إلاّ ممّن صلحت حاله وثبتت وثاقته ، والعناية بحال الشيخ كانت أكثر من عنايتهم بمن يروي عنه الشيخ ، وقد عرفت التزام النجاشي بأن لا يروي إلاّ عن شيخ ثقة ، ولم يلتزم بكون
1. لاحظ مستدرك الوسائل : 21/252 ، الفائدة الثالثة ؛ وج : 25/109 ، الفائدة العاشرة.
2. كامل الزيارات : 31 ، الباب 8.


(94)
جميع من ورد في سند الرواية ثقات.
    ولأجل ذلك كانت الرواية بلا واسطة عن المجاهيل والضعفاء عيباً ، وكانت من أسباب الجرح ، ولم يكن نقل الرواية المشتملة على المجهول والضعيف من أسباب الطعن.
    كلّ ذلك يؤيد ما استظهره المحدّث النوري.
    ثمّ إنّ السيد الخوئي ( قدَّس سرَّه ) ممّن كان يعتمد على رأيه طوال سنين لكنّه عدل عمّا بنى عليه ، وصرّح برأيه في ورقة خاصة ونشرت.
    فالحقّ ما استظهره المحدّث النوري وانّ العبارة لا تدلّ إلاّ على وثاقة مشايخه ، وأمّا أسماؤهم فهي لا تتجاوز عن اثنين وثلاثين شخصاً حسب ما أنهاهم ذلك المحدِّث. (1)

    1. من هو مؤلّف « كامل الزيارات » ؟ وما هي عبارته في ديباجة الكتاب ؟
    2. بيّن كيفية استظهار الشيخ الحرّ العاملي من هذه العبارة ؟
    3. ما هو موقف المحدّث النوري من العبارة المذكورة ؟
    4. ما هو المختار من القولين ؟ و ما هي أدلّته ؟
1. مستدرك الوسائل : 21/252 ، الفائدة الثالثة.

(95)
    الدرس التاسع عشر
ما ورد في أسناد تفسير القمي
« علي بن إبراهيم »
    إنّ علي بن إبراهيم بن هاشم القمي أحد مشايخ الحديث في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع ، وكفى في عظمته انّه من مشايخ الكليني وقد أكثر في « الكافي » الرواية عنه حتى بلغت رواياته سبعة آلاف وثمانية وستين مورداً. (1)
    وقد وقع في أسناد كثير من الروايات تبلغ سبعة آلاف ومائة وأربعين مورداً. (2)
    وعرّفه النجاشي بقوله : علي بن إبراهيم ، أبو الحسن القمي ، ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد ، صحيح المذهب ، سمع فأكثر ، وصنّف كتباً. (3)
    وقال الشيخ الطوسي في « الفهرست » : علي بن إبراهيم بن هاشم القمي ، له كتب : منها كتاب التفسير ، و كتاب الناسخ والمنسوخ. (4)
1. معجم رجال الحديث : 18/54 ، برقم 12038.
2. معجم رجال الحديث : 11/194 ، برقم 7816.
3. رجال النجاشي : 2/86 ، برقم 678.
4. الفهرست : 115 ، برقم 382.


(96)
    ثمّ إنّه استظهر بعضهم ممّا ذكره في مقدّمة التفسير انّ كلّ من ورد في أسناده ثقة ، حيث قال : نحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم ، وأوجب رعايتهم ، ولا يقبل العمل إلاّ بهم. (1)
    وقال صاحب الوسائل : قد شهد علي بن إبراهيم أيضاً بثبوت أحاديث تفسيره ، وانّها مروية عن الثقات عن الأئمّة. (2)
    وقال صاحب معجم رجال الحديث معترفاً بصحّة ما ذهب إليه صاحب الوسائل : إنّ علي بن إبراهيم يريد بما ذكره ، إثبات صحّة تفسيره وأنّ رواياته ثابتة وصادرة من المعصومين ( عليهم السَّلام ) وانّها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة ، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم بلا واسطة ، كما زعمه بعضهم. (3)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : بالمناقشة في دلالة العبارة على ما يتبنّاه ، فإنّ الظاهر انّ مراده هو خصوص مشايخه بلا واسطة ، ويؤيده عطف « وثقاتنا » على « مشايخنا » الظاهر في نقله عن الأساتذة بلا واسطة ، ولمّا كان النقل عن الضعيف بلا واسطة من وجوه الضعف ، دون النقل عن الثقة ، إذا روى عن غيره خصّ مشايخه بالوثاقة ليدفع عن نفسه تهمة النقد والاعتراض ، كما ذكرنا مثله في مشايخ ابن قولويه.
    وثانياً : المناقشة في نسبة التفسير المذكور إلى علي بن إبراهيم فانّ تفسيره ملفّق من إملاءين :
    الأوّل : ما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر.
1. تفسير علي بن إبراهيم القمي : 1/4.
2. الوسائل : 20/68 ، الفائدة السادسة.
3. معجم رجال الحديث : 1/49 ـ 50 ، المقدمة الثالثة.


(97)
    الثاني : ما أملاه الإمام الباقر لتلميذه أبي الجارود ونقله أبو الفضل العباس ابن محمد بسنده المنتهي إلى أبي الجارود.
    وإليك البيان :
    أمّا الأوّل : فقد ابتدأ علي بن إبراهيم بسورة الفاتحة والبقرة وشطراً قليلاً من سورة آل عمران إلى الآية 45.
    فقد ورد في مفتتح سورة الفاتحة هكذا : حدّثني أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي رحمه اللّه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن حماد بن عيسى ، عن حريث ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) وساق الكلام بهذا الوصف إلى الآية 45 من سورة آل عمران.
    وأمّا الثاني : فهو لمّا وصل إلى قوله سبحانه : ( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّركِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسيحُ عيسى ابنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبين ) (1) أدخل في التفسير ما أملاه الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) لزياد بن منذر أبي الجارود في تفسير القرآن ، حيث قال بعد نقل تفسير لغاتها : حدّثنا أحمد الهمداني ، قال : حدثني جعفر بن عبد اللّه ، قال : حدّثنا كثير بن غياث ، عن زياد بن المنذر أبي الجارود ، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السَّلام. (2)
    ثمّ إنّه في ثنايا الكتاب تارة ينقل عن علي بن إبراهيم وأُخرى عن أبي
1. آل عمران : 45.
2. تفسير علي بن إبراهيم : 1/102 ، فلو كان الجامع للتفسير هو العباس بن محمد ، فلم يعلم من هو الراوي عنه حيث قال : حدّثني أبو الفضل العباس بن محمد ... وهذا يورث غموضاً في صحّة التفسير المنسوب إلى القمّي.


(98)
الجارود على نحو يظهر انّ الكتاب مؤلّف من إملاءين على ما عرفت ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما ورد في أسانيد أحاديث ذلك التفسير ، فإنّ قسماً من الأحاديث يرجع إلى علي بن إبراهيم و مشايخه ، وقسماً آخر يرجع إلى مشايخ جامع التفسير حتى ينتهي إلى الإمام الباقر ( عليه السَّلام ).
    وثالثاً : انّ أقصى ما يمكن أن يقال انّه يجب التفريق بين ما روى جامع التفسير عن نفس علي بن إبراهيم إلى أن ينتهي إلى الإمام ، وما رواه جامع التفسير عن غيره من المشايخ فانّ شهادة القمّي تكون حجّة فيما يرويه نفسه عن مشايخه لا فيما يرويه تلميذه من مشايخه إلى أن ينتهي إلى الإمام. وقد روى جامع التفسير عن عدّة من الأعلام وليس لعلي بن إبراهيم أيّ رواية عنهم وقد ذكرنا أسماءهم في كتابنا « كليّات في علم الرجال ». (1)
    ورابعاً : انّ جامع التفسير ـ أعني : أبا الفضل العباس بن محمد ـ مجهول الحال ولا ذكر له في الأُصول الرجاليّة ، بل المذكور فيها ترجمة والده المعروف بـ « محمد الاعرابي » وجدّه « القاسم » فقد ترجم والده الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الهادي ( عليه السَّلام ) تحت عنوان محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى العلوي. (2)
    نعم ، ترجم العباس في كتب الأنساب ، فقد ذكر المحقّق الطهراني في ذريعته انّه رأى ترجمته في كتب الأنساب مثل « عمدة الطالب » و « بحر الأنساب » وغيرهما. (3)
1. كليات في علم الرجال : 317 ـ 319.
2. رجال الطوسي : 424 في أصحاب الهادي ( عليه السَّلام ) برقم 41.
3. الذريعة : 4/308.


(99)
    إكمال
    إنّ جامع التفسير ذكر بعد خطبة الكتاب قوله : قال أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي ، فالقرآن منه ناسخ و منه منسوخ ، ومنه محكم و منه متشابه ... واستغرق هذا النوع من التقسيم و الذي يرجع إلى علوم القرآن حوالي 22 صفحة ، وظاهر العبارة يعرب انّ ما جاء في تلك الصحائف يرجع إلى نفس علي بن إبراهيم مع أنّ محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني تلميذ الكليني مؤلّف كتاب « الغيبة » رواها باسناده عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) عن جدّه أمير المؤمنين ، وجعلها مقدّمة لتفسيره.
    ومن العجب انّ تلك المقدّمة مفردة مع خطبة مختصرة طبعت باسم « المحكم والمتشابه » ونسب إلى السيد المرتضى ، والحقّ انّها من العلوم العلوية التي رواها الإمام الصادق عليه السَّلام ووصلت إلينا عن المشايخ.

    1. بيّن مكانة « علي بن إبراهيم » في الحديث ؟ واذكر نصّ عبارته في ديباجة الكتاب.
    2. ما هو مختارنا في تفسير هذه العبارة ؟
    3. اذكر كيفية تأليف التفسير المسمّى بـ « تفسير القمّي ».
    4. من هو جامع هذا التفسير ؟


(100)

(101)
    الدرس العشـرون
مشايخ الثقات
(1)
محمد بن أبي عمير ومشايخه
    يطلق مشايخ الثقات على مشايخ : محمد بن أبي عمير ، و صفوان بن يحيى ، و أحمد بن أبي نصر البزنطي ، وقد اشتهر انّ مشايخ هؤلاء ثقات أيضاً ، وانّهم لا يروون ولايرسلون إلاّ عن ثقة ، ويترتب على ذلك أمران :
    1. انّ كلّ من روى عنه هؤلاء ، فهو محكوم بالوثاقة.
    2. انّه يؤخذ بمراسيلهم كما يؤخذ بمسانيدهم ، وإن كانت الواسطة مجهولة أو مهملة أو محذوفة.
    والأصل في ذلك ما ذكره الشيخ في « العدّة » حيث قال : وإذا كان أحد الراويين مُسْنِداً والآخر مرسِلاً ، نُظِر في حال المرسِل ، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يُرسِل إلاّ عن ثقة موثوق به ، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولايرسلون إلاّ عمّن يوثق به ، وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم ، فأمّا


(102)
إذا لم يكن كذلك و يكون ممن يُرسِل عن ثقة وعن غير ثقة فانّه يقدّم خبر غيره عليه ، وإذا انفرد وجب التوقّف في خبره إلى أن يدلّ دليل على وجوب العمل به. (1)
    وتحقيق الحال يتوقّف على البحث عن هذه الشخصيات الثلاث واحداً تلو الآخر ، وإليك البيان :

    ابن أبي عمير ( المتوفّى عام 217 هـ )
    قد يعبّر عنه بابن أبي عمير ، وأُخرى بـ « محمد بن زياد البزاز أو الأزدي » ، وثالثة بمحمد بن أبي عمير. وهو شيخ جليل لقي أبا الحسن موسيعليه السَّلام وسمع منه أحاديث ، وروى عن الرضا ( عليه السَّلام ) ، قال النجاشي : جليل القدر ، عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين. وقد حبس أيّام الرشيد ليدلّ على مواضع الشيعة ، وفرّج اللّه عنه ، وقيل : إنّ أُخته دفنت كتبه في حال استتاره أربع سنين ، فهلكت الكتب ; وقيل : بل تركها في غرفة سال عليها المطر فهلكت ، فحدّث من حفظه ، وممّا كان سلف له في أيدي الناس ، ولهذا يسكن أصحابنا إلى مراسيله ، وقد صنّف كتباً كثيرة تبلغ 94 كتاباً ، منها المغازي ... وقد مات 217 هـ. (2)
    قال الشيخ في الفهرست : كان من أوثق الناس عند الخاصّة والعامّة ، أنسكهم نسكاً ، وأورعهم وأعبدهم ، أدرك من الأئمة ثلاثاً : أبا إبراهيم موسى ( عليه السَّلام ) ولم يرو عنه ، و أدرك الرضا ( عليه السَّلام ) و روى عنه ، و الجواد ( عليه السَّلام ). وروى عنه أحمد بن محمد بن عيسى كُتُبَ مائة رجل من رجال الصادق ( عليه السَّلام ). (3)
1. عدّة الأُصول : 1/386.
2. رجال النجاشي : 2/204 برقم 888.
3. الفهرست : 168 برقم 618 ( وفي طبعة أُخرى : 142 برقم 607 ).


(103)
    إذا عرفت ذلك : فاعلم أنّ نسبة ما اشتهر إلى ابن أبي عمير لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به ، ترجع إلى الشيخ كما عرفت.
    ولا تقصر شهادةُ الشيخ على التسوية ، عن شهادة الكشي على إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ، فلو كانت الشهادة الثانية مأخوذاً بها ، فالأُولى مثلها في الحجّية ، وليس التزام هؤلاء بالنقل عن الثقات أمراً غريباً ، إذ لهم نظراء بين الأصحاب ، أمثال : أحمد بن محمد بن عيسى القمي ، ومحمد بن بشير البجلي ، ومحمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني ، وعلي بن الحسن الطاطري ، والرجالي المعروف النجاشي ، الذين اشتهروا بعدم النقل إلاّ عن الثقة ، وقد عرفت أحوالهم كما وقفت على أنظارنا فيهم.
    وأمّا اطّلاع الشيخ على هذه التسوية فلأنّه كان بصيراً بأحوال الرواة وحالات المشايخ ، ويعرب عن ذلك ما ذكره في « العدّة » عند البحث عن حجّية خبر الواحد ، حيث قال :
    إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثّقت الثقات منهم ، وضعّفت الضعفاء ، وفرّقوا بين من يُعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يُعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم ، وقالوا فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلِّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفيّ ، وفلان فطحيّ ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. (1)
    وهذه العبارة ونظائرها ، تعرب عن تبحّر الشيخ في معرفة الرواة و سعة اطّلاعه في ذلك المضمار ، فلا غرو في أن يتفرّد بمثل هذه التسوية ، وإن لم ينقلها أحد من معاصريه ولا المتأخّرون عنه إلى القرن السابع إلاّ النجاشي ، فقد صرّح بما
1. عدّة الأُصول : 1/366.

(104)
ذكره في خصوص ابن أبي عمير من الرجال الثلاثة كما عرفت.
    وعلى هذا فقد اطّلع الشيخ على نظرية مجموعة كبيرة من علماء الطائفة وفقهائهم في مورد هؤلاء الثلاثة وأنّهم كانوا يسوّون بين مسانيدهم و مراسيلهم ، وهذا يكفي في الحجّية ، ومفادها توثيق جميع مشايخ هؤلاء ، وقد عرفت أنّه لايحتاج في التزكية إلى أزيد من واحد ، فالشيخ يحكي اطّلاعه على عدد كبير من العلماء ، يُزكّون عامّة مشايخ ابن أبي عمير ، ولأجل ذلك يسوّون بين مراسيله ومسانيده.
    والسابر في فهرست الشيخ ورجاله يذعن بإحاطته بالفهارس وكتب الرجال ، وأحوال الرواة ، وانّه كانت تحضره مجموعة كبيرة من كتب الرجال والفهارس ، وكان في نقضه وإبرامه وتعديله وجرحه ، يصدر عن الكتب التي كانت تحضره ، أو الآراء والنظريات التي سمعها من مشايخه وأساتذته.
    ونجد التصريح على التسوية من علماء القرن السابع إلى هذه الأعصار نذكر أسماء بعضهم :
    1. السيد علي بن طاووس ( المتوفّى عام 664 هـ ) ، قال : مراسيل محمد بن أبي عمير كالمسانيد عند أهل الوفاق. (1)
    2. المحقّق الحلّي ( المتوفّى عام 676 هـ ) قال : عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير. (2)
1. فلاح السائل : 284 ، وجعله محقّق الكتاب بين المعقوفين وقال : ليس في الأصل ما بين المعقوفين.
2. المعتبر : 1/47.


(105)
    3. الفاضل الآبي ( كان حيّاً عام 672 هـ ) قال : إنّ الأصحاب تعمل بمراسيل ابن أبي عمير. (1)
    4. العلاّمة الحلّي ( المتوفّـى عام 726 هـ ) حيث قال في « النهاية » : ... إلاّ إذا عرف انّ الراوي لا يرسل إلاّ عن عدل ، كمراسيل محمد بن أبي عمير. (2)
    5. عميد الدين الحلّي ابن أُخت العلاّمة وتلميذه ( المتوفّى 754 هـ ) ، قال : المرسَل ليس بحجة ما لم يُعلم أنّه لا يرسل إلاّ عن عدل ، كمراسيل محمد بن أبي عمير. (3)
    6. الشهيد الأوّل ( المتوفّى عام 786 هـ ) قال : قبلت الأصحاب مراسيل ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر البزنطي ؛ لأنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة. (4)
    إلى غير ذلك من أساطين الفقه والرجال إلى أعصارنا ، فقد تلقّوها بالقبول وذكرنا أسماءهم وكلماتهم في « كلّيات في علم الرجال ». (5)
    غير انّه ربّما أُورد على هذه التسوية إشكالات نذكرها في الدرس الآتي.

    1. ما هو المراد من مشايخ الثقات ؟
    2. ما هو الأصل للقول المعروف بأنّ هؤلاء لا يروون إلاّ عن ثقة ؟
    3. اذكر كلمة النجاشي والشيخ في حقّ ابن أبي عمير.
    4. من أين وقف الشيخ على أنّهم لا يروون إلاّ عن ثقة ؟
1. خاتمة مستدرك الوسائل : 23/120 ، الفائدة الخامسة.
2. « النهاية » : مخطوط نحتفظ منه بنسخة في مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام ).
3. « منية اللبيب في شرح التهذيب » مخطوط نحتفظ منه بنسخة في مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام ).
4. ذكرى الشيعة : 4.
5. كلّيات في علم الرجال : 211 ـ 212.
دروس موجزة في علمي الرّجال والدّراية ::: فهرس