إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 271 ـ 285
(271)
    فإن استظهر العرف حسب المناسبات المغروسة في ذهنه انّ الموضوع هو الماء ، والتغيّر علة لعروض النجاسة عليه ، ويكفي في السببية وجوده آناً ما ، يكون المورد صالحاً للاستصحاب ، أخذاً بوحدة القضيتين.
    وإن استظهر كون الموضوع هو الماء المقيّد بالتغيّر ، فلايكون صالحاً له ، وعلى ضوء ذلك فليس ظاهر الدليل مقياساً للوحدة وخلافها ، بل ما يفهمه العرف منه حسب ارتكازه.
    وعلى ذلك تستطيع أن تميّز بقاء الموضوع وعدم بقائه في الأمثلة التالية :
    1. إذا صار الخشب النجس رماداً.
    2. إذا صار الخمر خلاً.
    3. إذا باع الفرس فبان بغلاً.
    4. إذا باع الفرس الأصيل فبان غير أصيل.
    فالعرف يتلقّى الأمثلة الثلاثة الأوّلية انّه من قبيل انتفاء الموضوع واختلاف القضيتين ، لأنّ الصورة الجسمية وإن كانت مشتركة لكن المهم هو الصورة النوعية ، وأين هي في الرماد والخل والبغل ؟ ولكن العقل يقضي في المثال الرابع بخلاف ذلك فيرى الصورة النوعية محفوظة وإنّما الاختلاف في الشرط ، وهو كونه أصيلاً.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني صحّح استصحاب الأحكام الكلية ، من عنوان إلى عنوان آخر ، وقال : إذا ورد : العنب إذا غلى يحرم ، كان الموضوع هو خصوص العنب ، لكن العرف حسب مرتكزاته وما يتخيل من المناسبات بين الحكم والموضوع يتلقّى الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ، ويرى العنبية والزبيبية من حالات الموضوع المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بحكم العنب كان من قبيل ارتفاع الحكم بموضوعه.


(272)
    أقول : ما ذكره من المناسبات والارتكازات صحيح ، لكن ظرف اعمالها إنّما هوبعد عروض الحكم على العنب الخارجي وحكم عليه بأنّه إذا غلى يحرم ، فعندئذ يشير إليه ويقول :
    هذا ما إذا غلى يحرم ، والأصل بقاؤه على ما كانت على النحو الذي أوضحناه عند البحث في استصحاب الأحكام التعليقية.
    وأمّا اعمال المناسبات قبل تطبيق الحكم على الخارج فممّا لايقبله فهم العرف ، إذ كيف يتحد مفهوم العنب مع مفهوم الزبيب. فانّهما مفهومان متغايران لايكون واحد منهما نفس الآخر ؟
    والحاصل : انّه لا شكّ أنّ العرف يتلقّى الموضوع أعمّ من العنب والزبيب ، لكن لا في مجال الأحكام الكلية ، فانّ العناوين الكلية مثار الكثرة ، بل يتلقّى بعد تطبيقه على الخارج على وجه تدعوه المناسبات إلى الغاء الخصوصيات ، ومن تلك المناسبات هي أنّ الحامل للحكم هو الصورة النوعية المحفوظة في العنب والزبيب ، وإنّما اختلفا في الرطوبة والجفاف ، نظير ما قلناه في الماء المتغيّر.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أسقط الشرط الثاني والثالث لجريان الاستصحاب واكتفى بذكر الشرط الرابع ، كما أنّ الشيخ الأعظم أسقط الشرط الثاني فقط ، ونحن نذكرمجموع الشروط الثلاثة الباقية لجريان الاستصحاب.

    الشرط الثاني : وحدة متعلّق الشك واليقين
    يفترق الاستصحاب عن قاعدة المقتضي والمانع بوحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب ، فالرجل يكون على يقين من وضوئه فيشكّ في نفس الوضوء بقاءً كما هو المتبادر من قوله ( عليه السلام ) في صحيحة زرارة : « فانّه على يقين من


(273)
وضوئه ولاتنقض اليقين أبداً بالشك » أي بالشك فيما تعلّق به اليقين.
    بخلاف قاعدة المقتضي والمانع التي ابتكرها المحقّق الشيخ محمد هادي الطهراني ( قدَّس سرَّه ) ، فانّ متعلّق اليقين فيها ، غير متعلّق الشكّ ، فالأوّل يتعلّق بالسبب الذي يُعبِّر عنه بالمقتضي ، والثاني بالمانع عن تأثيره ، كما إذا صبّ الماء على البشرة ويعد صبّ الماء سبباً لغسلها ، لولا المانع ، وتعلّق الشك بوجود المانع فيها ، فالقائل بحجية هذه القاعدة يقول المقتضي محرز بالوجدان وعدم المانع بالأصل فيثبت غَسْل البشرة.
    ونظيره إذا رمى إنساناً بالسهم ، على وجه لولا المانع لقتله ، فاليقين تعلّق بالسبب وهو الرمي ، والشكّ بالمانع ، فيقال المقتضي محرز بالوجدان وعدم المانع بالأصل فيثبت كونه مقتولاً.
    وعلى كلّ تقدير سواء أقلنا بحجية تلك القاعدة أم لا ، فلا صلة لها بالاستصحاب لوحدة المتعلّقين فيه وتغايرهما في القاعدة ، وقد اهمل الشيخ الأعظم هذا الشرط ، ووجهه واضح ، لأنّ القاعدة من إبداعات تلميذه الطهراني ولم يكن منها أي أثر في عصره. وأمّا المحقّق الخراساني فقد أهمله في المقام ، لكنّه طرحه في تعليقته على الفرائد وأدّى حقّ المقال. (1)
1. درر الفوائد في شرح الفرائد : 195 ، ط عام 1318 هـ. وأقصى ما عنده من الدليل على تطبيق روايات الاستصحاب على قاعدة المقتضي والمانع ، جعل غاية عدم الوضوء في الصحيحة الأُولى ، الاستيقان بالنوم الّذي يكون رافعاً له.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه من خصوصيات المورد ، وهو لايلازم كونها بصدد جعل القاعدة.
    وثانياً : أنّ نفي إيجاب الوضوء مع الشكّ في النوم إنّما هو لتحقيق الشكّ في الوضوء وارتفاعه الّذي يكون صغرى لقوله : « لاتنقض » .
    وثالثاً : أنّ الظاهر وحدة متعلّق اليقين والشكّ : لاتنقض اليقين بشيء بالشك فيه لا بالشك في رافعه. لاحظ درر الفوائد.


(274)
    الشرط الثالث : بقاء اليقين في ظرف الشك
    وهذا الشرط أهمله المحقّق الخراساني وذكره الشيخ بتفصيل ، وخلاصة القول فيه : إنّ الاستصحاب يعتبر فيه أمران :
    الأوّل : أن يكون الشكّ في البقاء دون الحدوث ، كما إذا تعلّق اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ، وتعلّق الشك بعدالته يوم السبت ، فالشك في جميع الأحوال متعلّق بالبقاء دون الحدوث.
    الثاني : أن يكون اليقين بالحدوث محفوظاً في ظرف الشك في البقاء فهو في وقت واحد يكون مذعناً بعدالة زيد يوم الجمعة ، شاكاً في عدالته يوم السبت.
    وبذلك يظهر الفرق بينه وبين القاعدة ، حيث إنّ اليقين فيه يتعلّق بالبقاء ، وفي القاعدة بنفس الحدوث ، كما أنّ اليقين يكون محفوظاً فيه حالة الشك ، بخلافه فيها فانّه يكون زائلاً في ذلك الظرف مثاله : إذا أذعن بعدالة زيد يوم الجمعة ، ثمّ سرى الشكّ إلى نفس اليقين فتردد في عدالته في نفس ذلك اليوم ، وانّه هل كان علمه مطابقاً للواقع أو كان جهلاً مركباً ، فشكّ في أصل العدالة ، وبالتالي ، زال اليقين بها في ظرف الشك لامتناع اجتماعها مع وحدة متعلّقهما عقلاً.
    هذا هو حال الاستصحاب والقاعدة والفارق بينهما ، إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين :

    1. إمكان الجمع بينهما ثبوتاً في اللحاظ
    لا شكّ انّ عامّة ما ورد من الروايات ناظر إلى الاستصحاب بشهادة موردهما ، غير ما ورد في حديث الأربعمائة المروي عن علي ( عليه السلام ) أعني قوله : « من


(275)
كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه » فهل هو ناظر إلى الاستصحاب أو قاعدة اليقين أو إلى كليهما ؟ فاستفادة حجّية كلا الأمرين فرع إمكان الجمع بينهما ثبوتاً ، ولذلك عقدنا بحثاً خاصاً لذلك تبعاً للشيخ الأعظم فقد ذهب الشيخ وغيره إلى امتناع الجمع بينهما لحاظاً ، وذكروا هناك وجوهاً نشير إلى بعضها :
    الأوّل : انّ المضيّ في الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقاً من غير تعرّض لحال حدوثه ، والمضي في القاعدة هو الحكم بحدوث ما تيقّن من غير تعرّض للبقاء ، فلاتصح إرادة المعنيين من قوله : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » لتغاير معنى المضيّ فيهما.
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يلزم ذلك لو استعمل لفظ المضيّ في كلا المعنيين أي المضي حدوثاً والمضي بقاء ، دونما إذا استعمل في الجامع وهو عدم التوقف لأجل الشكّ وفرضه كالعدم ، غير انّه يختلف باختلاف متعلّقه ، فلو تعلّق الشكّ بالبقاء يكون معناه الحكم بالبقاء ، ولو تعلّق بالحدوث يكون معناه الحكم به.
    الثاني : ما ذكره أيضاً وحاصله : انّ شمول الحديث للاستصحاب والقاعدة متفرّع على تعدّد اليقين حتى يشمله شمولَ القضية الحقيقية لافرادها المختلفة ، ولكن اليقين واحد ، لوحدة متعلّقه وهو العدالة ، وليس هنا يقينان مختلفان حتى يعمّ الحديثُ عموم القضية ، لافرادها.
    نعم يختلف اليقين في الاستصحاب عن اليقين في القاعدة بالعوارض المتأخرة عنه وهو أخذ الزمان قيداً في القاعدة وظرفاً في الاستصحاب ، وليس اليقين بتحقق مطلق العدالة يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة فردين من اليقين ، داخلين تحت عموم الخبر ، ضرورة انّ الطوارئ المتأخرة عن اليقين لاتوجب تعدّد اليقين مع وحدة المتعلّق.


(276)
    يلاحظ عليه : انّ تعدّد اليقين كما يمكن بتعدّد المتعلّق ، كما إذا أيقن بعدالة زيد ، وفسق عمرو ، كذلك يمكن تعدّده فيه باختلاف المحلِّ القائم به وإن كان المتعلّق واحداً كما إذا تعلّق يقين زيد على عدالة شخص مقيّدة بيوم الجمعة ، ثمّ شكّ في حدوثها ، وتعلّق يقين عمرو على عدالته المطلقة يوم الجمعة وشكّ في بقائها ، فلا شكّ انّ هنا فردين من اليقين فيعمّهما قوله « من كان على يقين » عمومَ القضايا الحقيقية لافرادها.
    الثالث : ما ذكره شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ( قدَّس سرَّه ) ونقله المحقّق الخوئي عن أُستاذه النائيني ( قدّس سرّهما ) ، ولعلّ العلمين تلقياه عن شيخهما السيد الفشاركي ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ وحاصله : انّ الزمان إمّا يلاحظ قيداً للمتيقّن ، أو يلاحظ ظرفاً له ، وإمّا أن يُهمل رأساً ، فعلى الأوّل ينطبق على القاعدة ، لأنّ الشكّ في الحدوث ، والبقاء لايكون ملحوظاً ، وعلى الأخيرين ينطبق على الاستصحاب ، لأنّ الزمان ملغى فيه وإلاّ لم يصدق النقض ولااتحدت القضيتان.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أمرين :
    الأوّل : انّ اليقين بمعنى المتيقّن ، فيدور كون الزمان قيداً أو ظرفاً ولايمكن الجمع بينهما.
    الثاني : انّ التفاوت بين القاعدة والاستصحاب بكون الزمان في الأُولى قيداً وفي الآخر ظرفاً أو مهملاً ، وكلا الأمرين غير تامين.
    أمّا الأوّل : فلأنّ اليقين بمعنى نفسه والنقض منسوب إليه وبذلك صحّحنا عموم الروايات للشك في المقتضي ، وعند ذلك يصح الزمان ظرفاً مطلقاً ، لعدم المعنى لكونه قيداً لليقين.


(277)
    وأمّا الثاني : فهو مبني على كون الزمان قيداً في القاعدة ، وظرفاً أو غير ملحوظ في الاستصحاب ، لكنّه غير صحيح ، لأنّ الفرق بينهما يرجع إلى تعلّق الشك في القاعدة بالحدوث ـ مع قطع النظر عن البقاءـ وفي الاستصحاب على البقاء ، مع تسليم الحدوث ، وتعلّقه بالحدوث ليس بمعنى تقيّده به ، بل بمعنى كونه الملحوظ دون غيره ، وعدم لحاظ الغير غير كون الملحوظ مقيّداً بعدم لحاظ الغير ، فانّك إذا رأيت زيداً اليوم فقد رأيته اليوم لا أمس ، لأنّ الرؤية مقيّدة بعدم الرؤية في الأمس.
    وقد تسرّب كون الزمان قيداً في القاعدة من كلام الشيخ الأنصاري كما سبق. (1)
    الرابع : ما ذكره المحقّق النائيني وهو انّ المتيقّن في مورد الاستصحاب مفروض الوجود وإنّما الشكّ في بقائه ، وهذا بخلاف مورد القاعدة فانّ المتيقّن فيه ليس بمفروض الوجود ، إذ المفروض انّ أصل حدوثه فيه مشكوك ، وعليه فلايمكن التعبد بالمتيقّن في مورد كلّ من الاستصحاب والقاعدة في دليل ضرورة عدم إمكان الجمع بين تصوّر الشيء مفروض الوجود ، وتصوّره مشكوكاً فيه في لحاظ واحد لرجوعه إلى الجمع بين المتناقضين. (2)
    يلاحظ عليه : انّه مبني على تفسير اليقين بمعنى المتيقّن فعند ذاك يأتي ما ذكره من عدم صحة تصوّر الشيء بصورتين متضادتين ، وأمّا إذا كان اليقين بمعنى نفسه والنهي متوجهاً إلى نقضه ، من دون نظر إلى المتيقّن ، فلا مورد للإشكال ، إذ ليس لليقين إلاّ صورة واحدة ، وعند ذاك يشمل الحديث القاعدة والاستصحاب
1. الفرائد : 405.
2. مباني الاستنباط : 279.


(278)
بملاك « من كان على يقين فشك » من دون نظر إلى انّ المتيقّن كان مفروض الوجود أو لا.
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذكر وجهاً آخر ، لعدم إمكان الجمع بين القاعدتين ، نقلناه في الدورة السابقة. (1)
    والحقّ انّ هذه الوجوه ، غير صالحة لإثبات امتناع الجمع بين القاعدة والاستصحاب في لحاظ واحد وانما المهم هو المقام الثاني.

    المقام الثاني : في تحديد دلالة الرواية
    قد عرفت إمكان الجمع بين الأمرين ثبوتاً إنّما الكلام في تحديد دلالة الروايات الواردة في المقام.
    قد عرفت سابقاً انّ أكثر الروايات الواردة في المقام ظاهر في الاستصحاب لأجل أمرين :
    1. كون المورد من مقولة الاستصحاب ، كالوضوء وغيره.
    2. ظهور الروايات في فعلية اليقين ووجوده ، وهو كذلك في الاستصحاب دون القاعدة.
    نعم يقع الكلام في حديث الخصال ، أعني قوله :
     « من كان على يقين فشكّ ، فليمض على يقينه ، فانّ الشكّ لاينقض اليقين » .
    وفي رواية أُخرى : « من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه » .
1. لاحظ المحصول : 4 / 232.

(279)
    وربما يتوهم ظهوره في القاعدة دون الاستصحاب ، لأنّ تخلّل « الفاء » يعرب عن تأخر الشك عن اليقين ، وهو كذلك في القاعدة دون الاستصحاب ، إذ من الممكن أن يحصل اليقين والشك فيه معاً ، بل يتقدم الشكّ على اليقين كما لايخفى.
    يلاحظ عليه : بأنّه لا شكّ في أنّ الغالب في الاستصحاب هو تأخر الشكّ عن اليقين ، وانّ حصولهما معاً ، أو تقدّم الشكّ على اليقين نادر جداً ، وعلى ذلك فيُحمل القيد على الغالب ، فيكون القيد غالبياً لا احترازياً ، فتتحد الروايات مضموناً وغاية.
    قد سبق انّ لجريان الاستصحاب شروطاً قدّمنا ذكر ثلاثة منها ، وهي :
    1. وحدة القضيتين.
    2. وحدة متعلّق اليقين والشكّ.
    3. فعلية اليقين في ظرف الشك.
    وبقي الرابع ، وهذا هو الذي ندرسه.

    الشرط الرابع : عدم أمارة في مورده
    اتّفقت كلمة الأُصوليّين المتأخرين على تقدّم الأمارة على الاستصحاب ـ خلافاً للمتقدّمين منهم ـ من غير فرق بين كون الشبهة حكمية أو موضوعية ، ولكنّهم اختلفوا في وجه التقدّم ، فهناك أقوال أو وجوه :
    1. أن يكون تقدّمها عليه من باب الورود. وعليه المحقّق الخراساني ( قدَّس سرَّه ) ، وهو المختار.


(280)
    2. أن يكون تقدّمها عليه من باب الحكومة ، وهو خيرة الشيخ الأنصاري والمحقّق الخوئي ( قدَّس سرَّه ).
    3. أن يكون من باب التخصيص ، أي تخصيص دليل حجّية الاستصحاب بدليل حجّية الأمارة.
    4. أن يكون من باب التوفيق العرفي.
    وإليك دراسة الوجوه واحداً بعد الآخر :

    1. دليل الأمارة وارد على دليل الاستصحاب
    إنّ دليل حجّية الأمارة وارد على دليل حجّية الاستصحاب ويتضح ذلك بذكر أُمور :
    أ : انّ النسبة بين دليلي حجّيتهما ـ مع قطع النظر عن كون أحدهما أظهر ـ هو العموم والخصوص من وجه ، فما دلّ على حجّية الأمارة ظاهر في وجوب العمل بها ، سواء أوافق مدلُولها مقتضى الاستصحاب أم خالفه ، كما أنّ ما دلّ على حجّية الاستصحاب ظاهر في لزوم العمل على وفق الحالة السابقة ، سواء أكانت موافقة لمفاد الأمارة أم لا ، فلابدّ من العلاج بتقديم أحد الدليلين على الآخر.
    ب : انّ نسبة كلّ من الأمارة والاستصحاب بالنسبة إلى المورد ، متساوية ، فلو كانت المرأة غير ذات بعل وشكّ ثمّ قامت الأمارة على كونها ذات بعل ، فلايمكن استظهار تقدّم أحدهما على الآخر إلاّ عن طريق لحاظ دليل حجّيتهما وملاحظة لسانهما ، وإلاّ فليس في مضمون الأمارة ، ومفاد الاستصحاب ما يقتضي تقدّمَ أحدهما على الآخر إذا قلنا بحجّية الاستصحاب من باب الأخبار.


(281)
    ج : انّ الورود والحكومة من المصطلحات الحديثة ، وسيوافيك توضيحهما في مبحث التعادل والترجيح ، وموجز القول فيهما هو : إنّ « الورود » عبارة عن كون أحد الدليلين ناظراً إلى عقد الوضع وكان رافعاً لموضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية الشرع ، كما هو الحال إذا قيس دليلُ حجّية الأمارة إلى دليل الأُصول العقلية ، فانّ موضوع دليل البراءة العقلية مثلاً هو عدم ورود البيان من الشرع ، والأمارة التي هي حجّة شرعية رافع لموضوعها حقيقة لكونها بياناً من الشارع في موردها ، فهي بيان بعناية الشرع ، إذ لولا إضفاء الشارع الحجّيةَ عليها لما كان بياناً واقعاً ، بل كان مظنون البيان.
    إذا عرفت هذه الأُمور الثلاثة ، فاعلم : أنّه ذهب المحقّق الخراساني إلى كون تقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب من باب الورود ، وأفاد في وجهه : انّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ، ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين.
    توضيحه : انّ المأخوذ في دليل الاستصحاب ليس صرف الشكّ كما في سائر الأُصول ، بل هو مع اليقين السابق ، منضماً إلى كون رفع اليد عنه نقضاً لليقين بالشكّ ، وإذا دلّ الدليل على حجّية الأمارة ، فلايكون رفع اليد عنه نقضاً له بالشكّ ، بل نقضاً باليقين ، حيث إنّ الأمارة حجّة يقيناً ـ وإن كان مفادها أمراً ظنيّاً ـ فيكون دليلها وارداً على دليله.
    ولما كانت هنا مظنة سؤال ، وهو انّ هذا البيان لايتم فيما إذا اتحد مضمونه مع مضمون الأمارة ، حيث يعمل على وفق الحالة السابقة.
    فأجاب عنه : بأنّ العمل على وفق الحالة السابقة في هذا المورد ليس لأجل أن لايلزم نقضه بالشك ، بل من باب لزوم العمل باليقين الثاني.


(282)
    ثمّ أورد على نفسه بأنّه لم لايجوز العكس وتقديم دليل الاستصحاب على دليل حجّية الأمارة عن طريق التخصيص ، بأن يكون دليل حجّية الاستصحاب مخصِّصاً لدليل حجّية الأمارة ؟
    وأجاب عنه : بأنّه لايصحّ احتماله إلاّ بوجه دائر ، فانّ كونه مخصِّصاً يتوقف على اعتباره معها ، وكونه حجة في مقابل الأمارة ، واعتباره في هذه الحالة ، يتوقف على تخصيص دليل حجّية الأمارة ، بدليل حجّية الاستصحاب ، هذا هو الدور الصريح.
    والحاصل : انّه إذا دار الأمر بين تقديم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود ، وتقديمه على الأمارة من باب التخصيص يلزم الدور ، لكون حجّية الأمارة متوقفة على كونها واردة عليه والشرط حاصل ، بخلاف حجّية الاستصحاب في مقابلها ، فهي متوقفة على كونه مخصصاً ، وهو يتوقّف على حجّيته في مقابلها فيدور.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أورد على مقالة صاحب الكفاية وقال :
    1. إنّ الغاية عبارة عن نقض اليقين باليقين ، لا بالشك ، والأمارة غير مفيدة له ، بل الشك موجود في مورد الأمارة ، والقول بتعلّق اليقين بحجّية الأمارة دون مضمونها ، لايكفي في تحقّق الغاية ، لأنّ الظاهر وحدة متعلّق اليقين ، كما إذا تعلّق اليقين السابق بطهارة الثوب والآخر بنجاسته ، وأمّا المقام فأحدهما تعلّق بنجاسته والآخر بحجّية البينة ، وهما مختلفان متعلّقاً. (1)
    يلاحظ عليه : انّه إذا تعلّق اليقين بحجّية البيّنة ، يتولّد منه يقين آخر ، بكون
1. مباني الاستنباط : 288 ـ 289.

(283)
الثوب نجساً شرعاً ، فيكون المورد من باب نقض اليقين باليقين ، ويكون متعلّقهما أمراً واحداً ، إلاّ أنّهما يختلفان إيجاباً ( الطهارة ) وسلباً ( النجاسة ).
    ويؤيد القول بالورود عمل العقلاء ، حيث لايعتدّون به مع الأمارة وإنّما يعملون به في مورد الحيرة ، وعدم الحيلة بتحصيل الواقع ، فإذا كان هناك طريق إليه ، يكون الاستصحاب مرتفعاً بارتفاع موضوعه.

    2. دليل الأمارة حاكم على دليل الاستصحاب
    ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ تقدّم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة ، وفسّرها في المقام بالعبارة التالية : أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لولا الدليل الحاكم ، أو بوجوب العمل في مورد بحكم ( المحكوم ) لايقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم.
    ثمّ إنّه جعل نسبة دليل حجية البيّنة إلى دليل حجّية الاستصحاب من قبيل القسم الأوّل ، وقال : إذا قال الشارع : اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك ، والمفروض انّ الشكّ موجود مع البيّنة على نجاسة الثوب ، فانّ الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبيّنة ، برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبيّنة التي منها استصحاب الطهارة.
    يلاحظ عليه : أنّ الحكومة عبارة عن تصرّف أحد الدليلين في موضوع الدليل الآخر بالتضييق أو التوسعة ، ويتحقّق ذلك تارة بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما في قوله : « لا ربا بين الولد والوالد » والغاية هي رفع الحرمة لكن بادّعاء عدم الموضوع.
    وأُخرى بإثبات الموضوع على وجه لولا الحاكم لما يعمّه المحكوم ، كما في


(284)
قوله : « الطواف على البيت صلاة » ، فهو ناظر إلى سعة ما يدل على اشتراط الصلاة بالطهارة ، للطواف ، أعني قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْديَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). (1)
    هذا إذا كان الدليل الحاكم متصرفاً في جانب الموضوع ، وربما يكون متصرفاً في عقد الحمل ، وهو أيضاً على صورتين : التضييق ، والتوسعة. والتفصيل سيوافيك في أوّل مباحث التعادل والترجيح.
    وعلى جميع التقادير فحقيقة الحكومة قائمة بلسانه ، وهو أن يكون ناظراً إلى دليل المحكوم على وجه لولا الدليل المحكوم لكان جعل الحاكم أمراً لغواً.
    ومن المعلوم أنّ هذا الشرط غير موجود في دليل البيّنة بالنسبة إلى الاستصحاب ، فلا دليل ، حجّيتها ناظر إلى دليل حجّية الاستصحاب ، ولا هو من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، وليس جعل الحجّية لها لغواً ، لولا دليل الاستصحاب.
    فتبين أنّ تقدّم البيّنة على الاستصحاب من باب الورود.
    ولكن الأولى تقرير الورود بشكل آخر ، وهو : انّ المراد من اليقين هو الحجة الشرعية لا اليقين المنطقي ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب متقوّم بالشك أوّلاً ، ووجود الحالة السابقة ثانياً ، وتحديد نقض اليقين بيقين آخر ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن الاستصحاب ليس من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، بل من قبيل نقض اليقين باليقين ، أي نقض الحجّة بالحجّة ، فالاستصحاب حجّة حيث لا حجة ، فإذا ثبت حجّية الأمارة ، فقد حصلت الغاية ، وبذلك ارتفع موضوعه ، ولو كان المحقّق الخراساني سلك هذا الطريق لكان أحسن.
1. المائدة : 6.

(285)
    3. تقديم دليل الأمارة على الاستصحاب من باب التوفيق العرفي
    ربما يحتمل أن يكون التقديم من باب التوفيق العرفي ، فانّ العرف يوفِّق بينهما بتقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب. وقد سلك هذا الطريق المحقّق الخراساني في تقديم « لاضرر » على أدلّة الأحكام الأوّلية.
    أقول : إنّ التوفيق العرفي فرع وجود ملاك لهذا الوفق ، فإن كان الملاك وجود الاطمئنان في مورد البيّنة دون الاستصحاب ، فهذا إنّما يتمُّ لو قلنا بحجّية الاستصحاب من باب الظن ، فالظن الحاصل في الأمارة أقوى بكثير من الظن الحاصل بالاستصحاب ، ولكنّا لانقول به ، لأنّ حجّيته عندنا من باب الاخبار.
    وإن كان الملاك قائماً باللسان ، فالملاك القائم باللسان إمّا التخصيص ، أو الحكومة ، أو الورود ، أو الأظهرية ، فكان عليه ( قدَّس سرَّه ) أن يصرّح بملاك التوفيق العرفي ، وانّه أي واحد منها.

    4. تقديم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب من باب التخصيص
    ربما يحتمل أن يكون تقديم الأمارة على دليل الاستصحاب من باب التخصيص ، أي يكون دليلها مخصصاً لدليله ، بأن يقال : لاتنقض اليقين بالشك إلاّ إذا قامت الأمارة فيجوز نقضه به ، لكنّه غير صحيح لاستهجان التخصيص ، لأنّ عدم نقض اليقين بالشك أمر فطري لايقبل التخصيص ، فدليل الاستصحاب آب عنه.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس