إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 286 ـ 300
(286)
    إلى هنا تم الكلام في الشرط الرابع لجريان الاستصحاب.
    بقيت هناك بحوث استطرادية وهي أُمور أربعة :
    1. ما هي نسبة الاستصحاب مع الأُصول العقلية ؟
    2. ماهي نسبة الاستصحاب مع الأُصول الشرعية ؟
    3. ما هو المرجع في تعارض الاستصحابين ؟
    4. ما هي النسبة بين الاستصحاب والقواعد الأربع ؟
    وقد اختصر المحقّق الخراساني مقالة في البحثَ الأخير ، ولكن بسط الشيخ الكلام فيها. ومسلك الشيخ أفضل من مسلك المحقّق الخراساني ، إذ الأُصول يجب أن يكون مزيجاً بالفقه حتى يُورث ملكة الاجتهاد في نفس الإنسان ، وإليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر.

    الأوّل : النسبة بين الاستصحاب والأصل العقلي
    إنّ النسبة بين دليل الاستصحاب ، ودليل الأُصول العقلية هي الورود ، لأنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، وموضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في ارتكاب أو ترك أحد الطرفين ، وموضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال. فالاستصحاب بما هو حجّة يكون بياناً للمورد ، ومؤمِّناً من العقاب المحتمل ، ومرجّحاً لأحد طرفي الاحتمال.
    وليس المراد من البيان في قوله : « العقاب بلا بيان » هو البيان الواقعي حتى يقال : انّ مؤدّى الاستصحاب ، ليس بياناً للحكم الواقعي ، بل المراد الحجّة ، والاستصحاب حجّة من جانب الشارع.


(287)
    الثاني : النسبة بين الاستصحاب والأصل الشرعي
    المراد من الأصل الشرعي ، البراءة النقلية كحديث الرفع ، وأصالة الطهارة مثل قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » ، وأصالة الحليّة مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » فهل الاستصحاب وارد عليها أو لا ؟
    تقدّمه عليها من باب الورود
    ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ النسبة هي الورود ، وهو وإن لم يصرّح بذلك ، لكن قال ما يستفاد منه ذلك ، حيث قال : النسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه ، فيقدّم عليها.
    ثمّ قال : ولا مورد معه لها [ وإلاّ ] يلزم محذور التخصيص ، إلاّ بوجه دائر في العكس ، وعدم محذور فيه [ أي تقدم الاستصحاب على الأُصول ] أصلاً.
    ثمّ إنّ كلامه في الفقرة الثانية واضح ، وسيوافيك نقده عند البحث في الأصل السببي والمسببيّ ، ولكنّه في الفقرة الأُولى غير واضح ، إذ لم يعلم وجه ورود الاستصحاب على هذه الأُصول ، لكنّه ( قدَّس سرَّه ) أشار إلى وجهه في تعليقته على الفرائد وقال : إنّ الموضوع في الأُصول الثلاثة هو المشكوك من جميع الجهات الأوّلية والثانوية ، فالمشكوك من كلّ جهة ، حكمه البراءة والطهارة والحلية ، ومع جريان الاستصحاب يرتفع الموضوع حيث يكون معلوم الحكم من حيث العنوان الثاني ، أعني : نقض اليقين بالشك ، بخلاف الاستصحاب فانّ الموضوع فيه الشكّ من حيث العنوان الأوّلي ، وهو باق بعد جريان الأُصول الثلاثة. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه لا دليل على أنّ الشكّ في دليل الاستصحاب هو الشكّ
1. درر الفوائد على الفرائد : 241 ، بتلخيص منّا.

(288)
بالعنوان الأوّلي الواقعي ، وفي الأُصول هو الشكّ من جهة كلّ عنوان. كيف وربما يحصل اليقين بالطهارة النفسانية من خلال الأُصول الشرعية ، كجريان أصل الطهارة في الماء واللباس ، فيتوضأ بمثل هذا الماء ويحصل له اليقين بالطهارة الحدثية الظاهريّة ، فكيف يمكن أن يقال : انّ الشكّ في موضوع الاستصحاب ، الشكّ من جهة العنوان الواقعي ، في الحالة اللاحقة مع تبيّنه في الحالة السابقة ، مع أنّ الواقع لم يكن مبيّناً سابقاً حتى يُتطلب لاحقاً.
    تقدّمه عليها من باب الحكومة
    ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ تقدمه عليها من باب الحكومة ، وأفاد في وجه ذلك ما هذا نصه :
    إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمِّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق [ كما لو كان المانع خمراً وشكّ في بقائه ] فقوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ » يدل على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق ـ إلى أن قال : ـ فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلابدّ من تعميمه لأزمنة احتماله » فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغَيّى بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكانَ مفادُ الاستصحاب نفيَ ما يقتضيه الأصل الآخر ( البراءة ) في مورد الشكّ لولا النهي [ المسوق بالاستصحاب ] وهذا معنى الحكومة. (1)
    يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الظاهر من قوله : « حتى يرد فيه نهي » بحكم رجوع الضمير إلى الشيء نفسه هو ورود النهي عليه بما هو هو ، لا بما هو مشكوك الحلية
1. فرائد الأُصول : 423 ، بعد الفراغ عن بيان النسبة بينه وبين القرعة.

(289)
والحرمة فلاتشمل الغاية للنهي الوارد عليه بما هو مشكوك ، المستفاد من إبقائه عند الشك.
    وثانياً : لو صحّ ما ذكره ، يكون الاستصحاب وارداً عليه ، لارتفاع الغاية بجريانه وأين هو من حكومة أحد الدليلين على الآخر ونظارته له ، برفع حكمه برفع موضوعه ، أو بقاء حكمه ، بتوسيع موضوعه.
    والحقّ أن يقال : انّ كون الأمارة واردة على الأُصول لايلازم ورود الاستصحاب على الأُصول الشرعية الثلاثة ، بل لابدّ من تقديمه عليها من التمسّك بأظهرية دليله من أدلّتها ، وذلك للتأكيد الوارد في دليل الاستصحاب ، ففي الصحيحة الأُولى لزرارة : « لا حتى يستيقن انّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك من أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولاتنقض اليقين أبداً بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » . (1) ولو قلنا بأنّ التقديم للتوفيق العرفي لكان أولى ، وقد عرفت أنّ من ملاكات التوفيق العرفي هو الأظهرية كما مرّ. وأمّا ما ذكره من أنّ تقديم الأُصول على الاستصحاب من باب التخصيص يستلزم الدور ، فسيوافيك نقده في البحث التالي.
    الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة
    يظهر من المحقّق الخوئي انّ الاستصحاب أمارة ، حيث لا أمارة ، وقال : الوجه فيه انّه كاشف عن الواقع ، ومثبت له في ظرف الشكّ وانّ المجعول فيه هو الطريقية وتتميم الكشف ، لأنّ الظاهر من قوله ( عليه السلام ) : « ولاينقض اليقين أبداً بالشك » وقوله ( عليه السلام ) : ولايعتدّ بالشك في حال من الحالات ، هو إلغاء احتمال
1. الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث 1.

(290)
الخلاف وفرض المؤدّى ثابتاً واقعاً كما هو كذلك في الأمارات ، وهذا بخلاف الأُصول ، فانّها ليست كاشفة عن الواقع أصلاً ، فانّ المجعول فيها إمّا تنزيل أحد طرفي الشك منزلة الواقع ، والبناء والعمل على ثبوته كما في الأُصول المحرزة ، وإمّا مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل والجري على طبقه ظاهراً عند الشك. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ مؤدّى الأمارة ـ كما أفاده ـ هو إلغاء احتمال الخلاف وانّ المخاطب ليس بشاك تعبّداً وفرض المؤدّى ثابتاً ، ولكن الظاهر من لسان دليل الاستصحاب ، حفظ الشكّ وانّه شاكّ ، لكنّه لايعتدّ به ، فكم فرق بين إلغاء الشكّ وفرض المؤدّى واقعاً وادّعاء انّك لست بشاك ، وبين عدم الاعتداد بالشك مع حفظه ، نظير الشكوك التي لايعتد بها ، كالشكّ بعد تجاوز المحلّ مع حفظ كونه شاكاً ، وعلى ذلك فلسانه لسان الأصل لاالأمارة.

    المقام الثالث : في تعارض الاستصحابين
    الترتيب المنطقي أو حفظ المناسبة بين المسائل يقتضي تقديم البحث عن تعارض الاستصحابين على بيان نسبة الاستصحاب مع القواعد الأربع كما صنعه المحقّق الخراساني خلافاً للشيخ ، حيث أخّر الأوّل وقدّم الثاني ، وبما انّا نمشي على ضوء الكفاية قدّمنا هذا البحث ، ثمّ نركز على القواعد الأربع ، وبيان النسبة ، بعد الفراغ من أحكام الأُصول العملية.
    وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :
    الأوّل : الفرق بين التعارض والتزاحم اللّذين يجمعهما عنوان التنافي ، هو انّ التنافي تارة يكون راجعاً إلى مقام الجعل والإنشاء بحيث يلزم من صدق أحدهما
1. مباني الاستنباط : 293.

(291)
كذب الآخر ، ومن تعلّق الإرادة بأحدهما ، عدم تعلّقها بالآخر ، كما إذا قال : ثمن العذرة سحت ، ثم قال : لا بأس بثمن العذرة ، وهذا النوع من التعارض في الأمارات يبحث عنه في باب التعارض والترجيح ، وأُخرى يكون راجعاً إلى مقام الامتثال من دون تناف في مقام الإنشاء ، كإيجاب إنقاذ الغريقين مع أنّه لايستطيع إلاّ إنقاذ أحدهما ، فالتنافي هنا يرجع إلى مقام الامتثال من دون تكاذب في مقام الجعل ، ولذلك لو ابتلى بهما في وقتين مختلفين لم يكن بينهما أيّ تناف. وهذا ما يبحث عنه في باب الترتّب.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ موضوع البحث في المقام هو تنافي الاستصحابين في مقام الإنشاء والجعل ، كما إذا علمنا بإصابة قطرة من الدم في أحد الإناءين ، فاستصحاب طهارة كلّ من الاناءين ، يتنافى مع العلم الإجمالي بنجاسة واحد منهما ، فيعلم بكذب أحد الجعلين : طهارة هذا الإناء ، أو ذاك.
    وأمّا إذا كان التنافي بين الأصلين راجعاً إلى مقام الامتثال دون الجعل والإنشاء ، كما إذا ابتلى بإنقاذ النبي والوصي ، أو المسلم والذمّي أو وجوب الصلاة وإزالة النجاسة من المسجد ، ولم تسع قدرته أو وقته إلاّ لأمتثال أحد الأمرين فهو خارج عن محط البحث بعلاج استصحاب وجوبهما مع عدم سعة القدرة لهما ، بتقديم ما هو الأهم على المهم.
    الثاني : انّ الأصلين المتعارضين على قسمين : تارة يقع أحد الأصلين في طول الآخر ، ويسمّى الأصلان الطوليان ، فيكون الشك في بقاء أحدهما ناشئاً من الشكّ في بقاء الآخر.
    وأُخرى يقع كلّ في عرض الآخر ، ويسمّى الأصلان العرضيان ، ويكون الشكّ في بقاء كلّ ناشئاً من أمر ثالث خارج عنهما.


(292)
    أمّا الأوّل ، كما إذا غُسل الثوب النجس ، بماء مستصحب الطهارة ، فكلّ من استصحاب طهارة الماء ونجاسة الثوب وإن كانا متناقضين ، لكن الشكّ في نجاسة الثوب نابع من الشكّ في طهارة الماء بحيث لو علم شرعاً طهارة الماء ، لزال الشكّ من ناحية الثوب.
    والثاني ، كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم في الإناءين الطاهرين ، فانّ الشك في طهارة كلّ منهما ، نابع من أمر ثالث وهو العلم الإجمالي بوقوع قطرة دم فيهما ولولاه لم يكن هنا أي شك.
    الثالث : انّ الميزان في الأصل السببي ، هو ما ذكرنا وهو أن يكون الشكّ في أحدهما مسبّباً من الشكّ في الآخر ، بحيث لو أُزيل الشك في ناحية السبب لزال الشكّ في ناحية المسبب شرعاً. ومقتضى ذلك أن يكون الترتب بينهما شرعياً ، كما إذا رتّب الشارع إزالة الشك في ناحية الثوب ، على طهارة الماء ، وقال : « كلّ ثوب غُسل بماء طاهر فهو طاهر » فخرج ما إذا كان الترتب عقلياً ، كاستصحاب الإنسان الكلّي ، فهو يلازم وجود الفرد ، لأنّ بقاء الكلّي في ضمن بقاء الفرد ، لكنّ الترتّب عقلي لا شرعي حيث يحكم العقل بأنّ الكلّ لايتحقق إلاّ في ضمن أفراد.
    إذا عرفت ذلك فلنركِّز البحث على الأصلين الطوليين ، فنقول : استدل الشيخ الأنصاري على تقديم الأصل السببي بوجوه أربعة ، والمحقّق الخراساني بوجه واحد وهو :

    تقدّم الأصل السببي على المسببي
    إنّ الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي ، فانّ من آثار


(293)
طهارة الماء ، طهارةُ الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لايلزم منه نقض اليقين بنجاسة الثوب بالشك ، بل باليقين بما هو رافع للنجاسة هو غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته وبالجملة فكلّ من السبب والمسبب وإن كان مورداً للاستصحاب إلاّ أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه ، إلاّ بنحو محال فلازمه الأخذ بالاستصحاب السببي.
    نعم لو لم يجر هذا الاستصحاب بوجه ، لكان الاستصحاب المسببي جارياً ، فانّه لامحذور فيه مع وجود أركانه.
    أقول : إنّ الدليل ينحلّ إلى دليلين أو تقريرين لدليل واحد :
    1. انّ استصحاب نجاسة الثوب أي المسبّب ، موجب لتخصيص الخطاب وجواز نقض اليقين بالشكّ في جانب السبب [ ويتحقّق ذلك النقض ] بعدم ترتيب أثره الشرعي ، أعني : طهارة الثوب ، فانّها من آثار طهارة الماء بخلاف استصحاب طهارة الماء ، فانّه لايلزم منه نقض اليقين بنجاسة الثوب بالشكّ ، بل باليقين بما هو رافعها وهو غسله بالماء المحكوم بطهارته.
    2. انّ تقديم الأصل السببي بلا محذور ، وأمّا تقديم الأصل المسببي ففيه التخصيص على وجه دائر ، لأنّه يتوقف على اعتبار الأصل المسببي ، وهو متوقف على اعتباره.
    أقول : كلا التقريرين لايخلو من إشكال.
    أمّا الأوّل ، فانّه مبني على أنّ الأصل السببي حجّة بلا كلام وإنّما الشكّ في حجّية الأصل المسببي في مقابل الآخر ، فعندئذ يصحّ ما أفاد من استصحاب


(294)
نجاسة الثوب مستلزم لنقض آثاره طهارة الماء التي منها ، طهارة الثوب المغسول به بالشكّ ، بخلاف استصحاب طهارة الماء فانّه غير مستلزم لنقضه بالشكّ بل باليقين ولكن الكلام في المبنى فانّ الأصلين فردان للعام ، لا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، فنقض كلّ بالآخر ، نقض الشكّ باليقين ولايختصّ ذلك بالأصل السببيّ بل يعمّ المسبّبي ، فانّ القول بطهارة الثوب نقض لليقين بالنجاسة بالشكّ حيث إنّ طهارة الماء مشكوكة.
    فإن قلت : إذا كان الشكّ في أحدهما نابعاً عن الآخر يكون شمول العام له مانعاً عن شموله للفرد الآخر الذي دونه في الرتبة ، لامتناع شمول حكم العام لفردين متضادين على وجه يكون كلّ مطارداً الآخر. وبذلك يصبح الأصل السببي حجّة بلا منازع في الرتبة المتقدمة ويكون تقديمه على المسببي نقضاً لليقين بالنجاسة باليقين بالطهارة ، بخلاف العكس فانّه بعد لم تثبت فرديته وشمول العام له في رتبته.
    قلت : هذا ما ذكره الشيخ الأعظم في الفرائد بتقريرين مختلفين نقلناهما في الدورة السابقة وأجبنا عنهما. وحاصل الجواب عن تقريره ، وما قررناه هنا هو انّ الرتب العقلية ليست موضوعاً للأحكام الشرعية ، حتى يكون شمول العام للمتقدّم رتبة أقدم من شموله للآخر ، بل المقياس تحقّقهما في زمان واحد والمفروض انّهما كذلك.
    وأمّا الدليل الثاني للمحقّق الخراساني من حديث التخصيص بلا وجه ، فقد اعتمد عليه هو في مقامات ثلاثة ، في وجه تقديم الأمارة على الأُصول ، وتقديم الاستصحاب على الأُصول الشرعية ، وتقديم الأصل السببي على المسببي ، ولكنّه صحيح في المورد الأوّل ، فانّ تقدم الأمارة على الأُصول مسلم فتقديمها على


(295)
الأصل من باب الورود ، بخلاف العكس فانّه من باب التخصيص الدائر بخلاف الموردين الأخيرين ، إذ لم يُثبت بعد ، تقدم الاستصحاب على الأُصول النقلية ، ولا الأصل السببي على المسببي ، فالتخصيص في كلّ جانب مستلزم للدور.

    ما هو وجه تقديم السببي على المسببي ؟
    إنّ تقديم الأصل السببي على المسببي ليس لأجل مزية في الأوّل على الثاني من حيث هو هو ، بل لأجل انّ الأوّل ينقِّح موضوع الدليل الاجتهادي ويكون الحاكم هو عليه ، لا الأصل السببي وقد أشار إليه الشيخ الأعظم في ثنايا كلماته ، ولكنّه لم يأكد عليه حيث قال : « وثانياً انّ نقض يقين النجاسة ، بالدليل الدال على انّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر ، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهراً به .... (1)
    توضيحه : انّه لا دور للاستصحاب إلاّ إحراز نفس المشكوك شرعاً ، فلو كان المحرز حكماً شرعياً يستقل العقل بامتثاله وإطاعته مثل الأحكام المحرزة بالعلم ، وإن كان موضوعاً فلابدّ أن يكون موضوعاً لحكم شرعي وإلاّ يكون التعبد به أمراً لغواً.
    مثلاً انّ استصحاب الحياة ، أصل موضوعي يصحّ التعبد بها إذا كان موضوعاً لحكم شرعي ، حيث يترتب عليه بقاء زوجته في حبالته ، وبقاء أمواله في ملكه ، حيث إنّ التسريح لايتحقّق إلاّ بأسباب كلّها قطعي الانتفاء إلاّ الموت والمفروض ورود التعبد بعدمه ، كما أنّ الأموال لاتُقسَّم إلاّ إذا صدق له
1. الفرائد : 425 ، ضمن تقرير الدليل الثاني.

(296)
سبحانه ( إِنْ تَرَكَ خَيراً ) ولكنّه ورد التعبد على خلافه.
    ومثله استصحاب العدالة ، فانّه يقع موضوعاً لقوله : « صلّ خلف كلّ عادل ، أو من تثق بدينه » (1) ، أو لقوله تعالى في مورد الطلاق : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدل مِنْكُمْ ) (2) وإذا ثبت ببركة الأصل والبينة انّها طلقت عند شهود عدل ، تقع المرأة المطلقة عند شهود عدل موضوعاً لقوله سبحانه ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (3) وإذا تربصت ثلاثة قروء تقع المرأة المتربصة ثلاثة قروء موضوعاً لسائر الحجج الشرعية من جواز تزويجها بعد خروج عدتها ، وهكذا فلا دور للاستصحاب الموضوعي إلاّ أنّه ينقح موضوع الكبريات الشرعية.
    إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ تقدّم الأصل السببي على المسببي إنّما هو لأجل انّه يُنقِّح موضوعاً لكبرى شرعية وهي الحاكمة على الأصل المسببي ، فاستصحاب طهارة الماء أو الحياة والعدالة كلّها من هذا القبيل ، فالأوّل يُنقِّح موضوعاً لمثل قوله « كلّ نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر » وأمّا استصحاب نجاسة الثوب فلايترتب عليه أثر سوى نجاسة الملاقي للدليل الاجتهادي ان ملاقي النجس الرطب ، نجس ، وأمّا نجاسة الماء الذي غُسل به فليس هناك دليل اجتهادي على نجاسته إلاّ انّه غسالة النجس ، فهو يطهِّر وإن كان يصير غسالة له.

    المقام الثاني : إذا كان الشكّ مسبباً من أمر ثالث
    إذا كان الشكّ في كلّ من الموضوعين ناشئاً من أمر ثالث كما هو الحال في
1. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 2.
2. الطلاق : 2.
3. البقرة : 228.


(297)
الإناءين المشتبهين فانّ الشكّ في طهارة كلّ ، مسبب عن العلم الإجمالي بورود النجاسة على واحد منهما ، فهناك آراء مختلفة :
    1. عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً. وهو خيرة الشيخ الأنصاري.
    2. التفصيل بين استلزامه المخالفة العملية القطعية أو الاحتمالية فلايجري ، دونما إذا استلزم مخالفة التزاميّة فيجري. وهو خيرة المحقّق الخراساني.
    3. التفصيل بين الأصل المحرز وغيره ، فلايجري الأوّل بخلاف الثاني. وهو مختار المحقّق النائيني.
    4. التفصيل بين العلم الوجداني ، والعلم المولَّد من إطلاق الدليل. وهذا هو المختار.
    وإليك دراسة الأقوال واحداً بعد الآخر.
    أمّا التفصيل الأوّل فقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى عدم جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي قائلاً بأنّه يستلزم تعارض الصدر مع الذيل ، لأنّ قوله : « لاتنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر » يدل على حكمين :
    1. حرمة نقض اليقين بالشكّ.
    2. وجوب نقض اليقين بيقين مثله.
    فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلايجوز ابقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنّه مستلزم لطرح ذيل الحديث ، وهو الحكم بنقض اليقين بمثله. (1)
1. الفرائد : 429.

(298)
    وقد أورد على استدلال الشيخ بوجهين :
    الأوّل : انّ الذيل ورد في الصحيحة الأُولى لزرارة دون الثانية والثالثة ، والمحذور إنّما هو في الأُولى دون الأخيرتين.
    يلاحظ عليه : أنّ المطلق يُقيّد ، والمجموع كسبيكة واحدة ، تشير إلى مفهوم واحد. وهو القضيتان المذكورتان.
    الثاني : انّ ظاهر قوله : « بيقين آخر » هو وحدة متعلّقها ، حتى يكون اليقين الآخر مثل اليقين الأول ، فاليقين الأوّل تعلّق بواحد معين دون الثاني حيث تعلّق بأحدهما فلايكونان مماثلين من جميع الجهات.
    يلاحظ عليه : بأنّه ليس في الصحيحة أثر من لفظ « المثل » وإنّما الوارد « بيقين آخر » ويكفي في صدقه اشتراكُهما في الإذعان والجزم وان تعلّق أحدهما بمعين والآخر بأحدهما لابعينه ، فكلام الشيخ لايخلو من جودة وإتقان.
    أمّا التفصيل الثاني فهو للمحقّق الخراساني قائلاً بعدم جريانه فيما إذا استلزم المخالفة القطعية ، كما إذا كان الاناءان محكومين بالطهارة فعلم بنجاسة أحدهما ، فلايجري فيه لمحذور المخالفة القطعية كما في ارتكاب كلا الطرفين ، أو الاحتمالية كما في ارتكاب واحد منها.
    وأمّا إذا لم يستلزم ، كما إذا كان الاناءان نجسين وعلم بوقوع نجاسة في واحد منهما ، فالمقتضي موجود ، وهو إطلاق الخطاب وشموله لأطراف المعلوم بالإجمال ؛ والمانع مفقود ، لأجل انّ جريان الاستصحاب في الأطراف لايوجب إلاّ المخالفة الالتزامية ، وهو ليس بمحذور لاشرعاً ولاعقلاً. (1)
1. كفاية الأُصول : 2 / 357 ـ 358.

(299)
    وبذلك ظهر روح الفرق بين الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني فقد اختار الأوّل عدم جريان الأُصول بتاتاً ، وانّ العام لايشمل المتعارضين ، ولكن الثاني قال بالشمول ودخولهما تحت العموم ، لكنّهما يتساقطان ـ عند استلزام المخالفة العملية ـ بالتعارض.
    يلاحظ عليه : أنّ العلم بالتكليف على قسمين تارة يكون في المورد علم وجداني ، ومن المعلوم انّ مثل هذا العلم لايقبل الترخيص في طرف واحد فضلاً عن الطرفين ، كما إذا علم بإسلام أحد الأخوين الكافرين ، فقد علم عندئذ بوجوب صيانة دم المسلم منهما ، على نحو لايقبل النقاش ومعه لايجوز استصحاب جواز قتلهما ، وأُخرى يكون في المورد إطلاق الدليل يعم المعلوم تفصيلاً وإجمالاً ، كإطلاق « اجتنب عن الخمر » الشامل للخمر المعلوم تفصيلاً وإجمالاً ، فمثل هذا التكليف المستفاد من الإطلاق قابل للتقييد بأن يخص الدليل بالخمر المعلوم تفصيلاً دون المعلوم إجمالاً ولايعد مثل ذلك ترخيصاً في المعصية بل تقييداً للموضوع.
    وأمّا التفصيل الثالث ، أعني : التفصيل بين الأصل المحرز ، فلايجري في أطراف العلم دون سائر الأُصول والمراد من الأصل ، المحرز هو ما يكون المجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك كالاستصحاب ، وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة ، والمراد من غيرها ما يكون المجعول فيها هو مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون أن يكون البناء متكفّلاً لثبوت الواقع في أحد الطرفين كالبراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة.
    وجه التفصيل انّ التعبد ببقاء الواقع في كلّ واحد من أطراف العلم ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، وهذا بخلاف الآخر ، فانّ المجعول


(300)
هو مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ بلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم مخالفة عملية.
    يلاحظ عليه : أنّه لم يثبت عندنا كون الأصل محرزاً أو غير محرز ، وليس في أدلّة الاستصحاب ما يشير إلى أنّ العمل من باب البناء العملي على أنّه الواقع ، بل الثابت والمفهوم من دليل الاستصحاب عدم جواز نقض اليقين بالشك ، وتقدّم الاستصحاب على سائر الأُصول ليس دليلاً على أنّه أصل محرز ، بل ملاك التقدّم هو الذي عرفت من قوّة الدلالة في ناحية الاستصحاب دون سائر الأُصول.
    وبعبارة أُخرى : إذا كان مفاد الدليل تنزيل المشكوك منزلة الواقع فيكون أمارة ، لاأصلاً ، والحال انّه يعامل مع الاستصحاب معاملة الأصل ، وإلاّ فلا وجه لتسميته أصلاً محرزاً.
    ثمّ كيف يصحّ لنا إجراء الأصل غير المحرز في أطراف العلم الإجمالي إذا لم تلزم مخالفة عملية مع حصول الغاية في قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر » أو قوله : « كلّ شيء حلال حتى تعلم انّه حرام » اللّهمّ إلاّ أن يقال انّ الغاية هو العلم بنجاسته وحرمته بعينه بقرينة ضمير « انّه » في كليهما الظاهر في التعيين.
    وأمّا التفصيل الرابع ، وهو الذي اختاره سيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ) في المقام وفي مبحث القطع والاشتغال ، وحاصله : انّ العلم الإجمالي بالتكليف على قسمين :
    1. ما يكون العلم بالتكليف محصول العلم الوجداني على وجه لايرضى المولى بتركه على فرض وجوده بدئياً ، كما هو الحال في مورد الدماء والأعراض والأموال ، أو مقروناً بالعلم الإجمالي ، كما إذا اشتبه المسلم بالكافر الحربي ففي
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس