إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 301 ـ 315
(301)
مثله ، لايجري الأصل للتنافي بين طلب الشيء مطلقاً والترخيص في تركه في بعض الأحايين.
    2. ما يكون العلم بالتكليف حصيلة إطلاق الدليل ، مثل قوله : « اجتنب عن النجس » ، حيث إنّه يشمل المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال ، ففيه يقع الكلام في إمكان الترخيص في مقامين ثبوتاً وإثباتاً.
    أمّا الثبوت فهل يمكن تقييد الدليل الاجتهادي ، بدليل اجتهادي مثله ، وتخصيصه بصورة تعلّق العلم التفصيلي بالمكلّف به أو لا ؟ والظاهر هو الإمكان بل الوقوع ، وورد في غير واحد من أبواب دوران الحكم الشرعي على وجود العلم التفصيلي ، وقد قدّمنا بيانها عند البحث عن أدلة البراءة كما هو الحال في الربا والمظالم حيث إنّ المنجز هو العلم التفصيلي لا الإجمالي.
    وأمّا الإثبات ، فهل هناك دليل على ذلك التقييد ، أو لا ؟ الظاهر لا ، بل الدليل على خلافه ، لما ورد في الإناءين المشتبهين من أنّه « يهريقهما ويتيمّم » . (1) وما ورد في الصحيحة الثانية لزرارة انّي قد علمت انّه قد أصابه الدم ولم أدر أين هو فاغسله ؟ قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك » . (2)
    وما ورد في الثوبين المشتبهين من تكرار الصلاة في كلّ منهما على الانفراد. (3)
    وهذا ونظائره يدل على عدم ورود الترخيص في أطراف العلم الإجمالي إلاّ
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 82.
2. التهذيب : 1 / 421 ، الحديث 135.
3. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 64 من أبواب النجاسات ، الحديث 1.


(302)
القليل النادر. وبذلك يمكن أن يقال بعدم جريان الأُصول أيضاً في أطراف العلم الإجمالي لوجهين :
    1. انصرافه عن أطراف العلم الإجمالي.
    2. وعلى فرض عدم انصرافه حصول الغايات المحددة وتخصيص الغاية بالعلم التفصيلي خلاف إطلاق الدليل ، وقد عرفت عدم تمامية ما يستظهر من لزوم وحدة متعلّقها التي لاتتحقّق إلاّ بالعلم التفصيلي.


(303)
    المقصد الثامن
في تعارض الأدلة الشرعيّة
    وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

    الأوّل : تعارض الأدلّة من المسائل الأُصولية
    إنّ البحث عن تعارض الأدلّة وكيفية علاجها عند التعارض ، من المسائل الأُصولية المهمَّة ، أمّا كونها من المسائل الأُصولية فلما عرفت في مبحث حجية خبر الواحد أنّ روح البحث في أبواب الحجج ، يرجع إلى البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه بعد تسليم أصل وجود الحجّة.
    توضيح ذلك : انّ الفقيه يعلم أنّ بينه وبين ربّه حججاً قطعية في الأحكام الشرعية ، تُنجّز الواقع وتَقطع العذر ، ولكن لايعرف خصوصيّاتها وتعيّناتها فيقع البحث في علم الأُصول عن خصوصياتها وتعيّناتها.
    وعلى ضوء ذلك ، فوجود الموضوع أي الحجّة بين العبد والمولى أمر محقّق معلوم لدى الفقيه ، ولذلك لايعود البحث في أبواب الحجية إلى البحث عن وجود الموضوع لما عرفت من أنّ وجود الحجّة أمر قطعي ، وإنّما يرجع إلى البحث عن عوارض تلك الحجّة ، أعني : تعيُّنها بالخبر الواحد أو الشهرة الفتوائية أو غيرهما ، فالبحث عن تعيّن الحجة وخصوصياتها بحث عن عوارض الموضوع.


(304)
    ومن هذا الباب مسألة تعارض الأدلّة حيث يبحث فيها عن ما هو الحجّة عند تعارض الأدلّة ، فهل الحجّة هو التخيير بين الدليلين مطلقاً ؟ أو التخيير لدى التعادل ، والترجيح لدى المزيّة ؟ أو شيء غير التخيير والترجيح ؟ فالبحث على كلّ تقدير بحث عن عوارض الحجّة في الفقه ، المسلَّم وجودها.
    إلى هنا تبيّن انّ مسألة التعارض وكيفية العلاج من المسائل الأُصولية ، وأمّا كونها مهمَّة فلأجل أنّه قلّما يتفق باب لاتوجد فيه أخبار متعارضة ، ولذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب أسماه « الاستبصار فيما اختلف من الأخبار » لعلاج تلك الطائفة الكبيرة من الروايات ، فما قام به المحقّق الخراساني من جعله ثامن المقاصد أولى ممّا قام به الشيخ الأعظم حيث جعل باب التعارض خاتمة الكتاب مشعراً بكونه ليس من العلم كمقدمة الكتاب ، اللّهمّ إلاّ أن يريد منها ، خاتمة المسائل ، لاخاتمة الكتاب.
    ثمّ إنّ عنوان المسألة وإن كان يعمّ تعارض كلّ الأدلّة الشرعية كتعارض قول اللغويِّين أو مدعيي الإجماع ، لكن البحث مُخصَّص بتعارض الخبرين فقط مقتصراً في غيرهما بما ذكروه في المقامات المختصّة للغير.

    الثاني : التعارض لغة واصطلاحاً
    التعارض لغةً من العرض وهو الإراءة ، يقال : « عرضت الناقة على الحوض » وهو من الأمثلة المعروفة لوجود القلب في الكلام ، والأصل هو : عرضت الحوض على الناقة وقال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماء كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلى المَلائِكَة ) (1). وقال تعالى : ( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَومَ تَقُومُ السّاعَةُ
1. البقرة : 31.

(305)
أَدخِلُوا آل فِرْعَونَ أَشدَّ العَذاب ). (1)
    فما في المقاييس لابن فارس من أنّ أصل العرض هو ضدّ الطول ، فكأنّه في غير محلّه ، فانّ استعمال العرض في مقابل الطول وإن كان رائجاً ، لكنّه ليس أصل المعنى وإنّما اشتق هذا المعنى من الإراءة ، لمناسبة من المناسبات ، فانّ العرض في مقابل الطول معنى طارئ على المعنى الأصلي.
    وأمّا تفسير العرض بالمبارزة والمعارضة فهو أيضاً تفسير في غير محلّه ، وهو أيضاً من المعاني الطارئة على العرض ، لأنّ كلّ مبارز يُري شجاعتَه لخصمه.
    وأمّا اصطلاحاً : فقد عرّفه القوم : بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض والتضاد. وهو خيرة الشيخ في الفرائد. (2) وعلى هذا فالمراد من التنافي هو التنافي في المدلول مع قطع النظر عن مقام الإثبات والدلالة ، وهذا بظاهره غير تام ، إذ ربّما يكون بين الدليلين تناف في المدلول ولايكون بينهما تناف في الدلالة والإثبات ، كما في العام والخاص ، والحاكم والمحكوم ، والوارد والمورود ، والعناوين الثانوية والعناوين الأوّلية ، فانّ التنافي بين مدلولي الدليلين فيها أمر واضح لامرية فيه ولكنّه لايُعدّ من التعارض في شيء ، لعدم التنافي في مقام الدلالة حيث يقدّم الخاص على العام ، والحاكم على المحكوم ، والوارد على المورود ، والعنوان الثانوي على العنوان الأوّلي على وجه لايتردّد العرف الدقيق في رفع التعارض بعد الإمعان ، ولايعدّ مثل هذه من مسائل هذا المقصد إلاّ استطراداً.
    ولذلك عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بنحو آخر بحيث تخرج عن تعريفه هذه الموارد التي قد عرفت إمكان الجمع فيها من دون أن تصل النوبة إلى
1. غافر : 46.
2. الفرائد : 431.


(306)
التعارض ، وقال :
    هو تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد.
    وخروج هذه الموارد عن تعريفه واضح.
    ثمّ إنّ المراد من تنافي الدليلين على نحو التناقض ، كون أحد الحكمين وجودياً والآخر عدمياً ، كما إذا ورد في أحد الخبرين انّه يحرم الشيء الفلاني وفي الآخر لايحرم ، كما أنّ المراد من تنافيهما بنحو التضاد هو كون الحكمين وجوديين ، كما إذا ورد في أحد الخبرين « يجب » وفي الآخر « يحرم » فيكون التنافي بالتضاد ، ومع ذلك يمكن إرجاع التنافي بنحو التضاد إلى التنافي بنحو التناقض ، فإنّ قوله « يحرم » وإن كان بالنسبة إلى قوله « يجب » متضادين ولكن لازم قوله : « يحرم » هو عدم الوجوب ومن الواضح بمكان انّ نسبته إلى قوله « يجب » نسبة المتناقضين.
    ثمّ إنّ التنافي بين الدليلين تارة يكون بالذات كما إذا قال : « ثمن العذرة سحت » وورد في رواية أُخرى : « لا بأس بثمن العذرة » . وأُخرى بالعرض كما إذا ورد « صلّ صلاة الجمعة في يومها » وورد « صلّ صلاة الظهر في الجمعة » ولاتنافي بين إيجاب صلاتين في يوم واحد بالذات ، إذ لا مانع من أن تجب صلاتان في يوم واحد ، لكن لمّا قام الإجماع على عدم وجوب أزيد من صلاة واحدة في ظهر يوم الجمعة وجد التعارض بين الحكمين.

    الأمر الثالث : الفرق بين التعارض والتزاحم
    الفرق بين التعارض والتزاحم بعد كون التنافي قدراً مشتركاً بينهما هو انّ مصبَّه في التعارض يختلف مع مصبِّه في التزاحم ، فلو كان التنافي في مقام


(307)
الجعل والإنشاء على وجه لايمكن للحكيم إنشاء حكمين عن جدّ لمتعلّق واحد ، ويمتنع أن تتعلّق إرادته الجديّة بجعل حكم لمتعلّق وفي الوقت نفسه بجعل حكم آخر لنفس ذلك المتعلّق كما إذا أنشأ ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة ، فهذا هو التعارض المصطلح في باب التعادل والترجيح.
    وإن شئت قلت : التعارض عبارة عن تكاذب الدليلين في مقام الإنشاء بحيث يُكذِّب ، ويطارد كلّ الآخرَ في ذلك المقام من دون أن تصل النوبة إلى مقام الدلالة والفعلية والتنجّز ، سواء امتنع الامتثال بهما كما في المثال المتقدّم أو أمكن ، مثل ما إذا قال : الدعاء عند رؤية الهلال واجب ، وقال أيضاً : الدعاء عند رؤيته مستحب ، فانّ الامتثال لكلا الدليلين أمر ممكن ، بالدعاء عند رؤيته ، فانّه امتثال للوجوب والندب معاً ، لكن التكاذب موجود في مقام الإنشاء ولايصحّ لحكيم أن يُنشئ ذينك الحكمين ، ولاتتعلّق إرادته الجدية بإنشاء كلّ منهما ، لأنّ لازم أحد الحكمين جواز الترك دون الحكم الآخر.
    وأمّا لو كان التنافي في مقام الامتثال مع كمال الملائمة في مقام الجعل والدلالة والمدلول فهذا هو التزاحم ، مثلاً إذا قال المولى : أنقذ الأب ، وأنقذ العم ، ففوجئ بغرق كليهما ولم تكن له قدرة إلاّ على إنقاذ أحدهما ، فالدليلان متلائمان في مقام الجعل ، إذ لا مانع من أن يكون إنقاذ كلّ بل وغيرهما واجباً ، وإنّما جاء التنافي عن طريق المصادفة حيث فوجئ بغرق كليهما معاً ، فلم يجد بدّاً من إنقاذ واحد وترك الآخر. فالتنافي ليس في مقام الجعل ولا في مقام المدلول ولا الدلالة وإنّما هو في رتبة رابعة وهي مقام الامتثال.
    وعلى هذا فعلاج المتزاحمين بالتصرّف في موضوع الحكم الفعلي بتعلّقه بالأهم دون المهمّ من دون تصرّف في مقام الجعل والمدلول والدلالة ، ولذلك لو


(308)
استطاع انقاذ كليهما بقدرة غيبيّة لوجب عليه ذلك ، وهذا بخلاف العلاج في التعارض فلو أخذ بأحد الدليلين تخييراً أو ترجيحاً فإنّما يُتصرّف في مقام الجعل ويقال هذا هو الحكم الشرعيّ دون الآخر.
    إلى هنا تبيّن الفرق بين التعارض والتزاحم.
    بقي هنا نكتة وهي انّ للتزاحم مصطلحين ، فتارة يراد منه التزاحم المصطلح في باب الترتب وباب التعادل والترجيح ، وقد علمت مفاده والفرق بينه وبين التعارض.
    وأُخرى يراد منه ما هو المصطلح في باب اجتماع الأمر والنهي ، أي ما يكون التزاحم بين الملاكين بحيث لايمكن حيازة ملاك أحد الحكمين في ظرف ملاك الحكم الآخر ، فالملاك الموجود في الصلاة لايمكن نيله مع المفسدة الموجودة في الغصب ، فلو صلّى في الدار المغصوبة ، فأحد الملاكين مغلوب للملاك الآخر ، ولذلك يكون المجمع على القول بالامتناع من باب التزاحم فلابدّ من تقديم أحد الملاكين المصلحة أو المفسدة على الأُخرى.
    نعم على القول بالاجتماع لاتزاحم بين الملاكين كما لاتزاحم في مقام الدلالة والامتثال والتفصيل في محله ، وليكن هذا على ذكر منك ، لأنّ كثيراً ما يشتبه التزاحم في هذا الباب مع التزاحم في ذلك المقام. نعم حاول المحقّق النراقي أن يثبت وحدة الاصطلاحين. (1)

    الأمر الرابع : أقسام التزاحم
    إذا كان مرجع التزاحم إلى تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا
1. فوائد الأُصول : 4/750 ، قسم التعليقة.

(309)
تكاذب وتدافع في مقام التشريع فربما يكون امتثال أحدهما سبباً لترك الآخر بتاتاً ، كمسألة إنقاذ الغريقين ، وربما يكون سبباً لتأخير امتثال أحد الحكمين عن وقت الفضيلة إلى غيره كما هو الحال في الأمر بالإزالة والصلاة أوّل الوقت ، فوجوب الإزالة يزاحم وجوب الصلاة في وقت الفضيلة ، ولايزاحمه في سائر الأوقات فعليه الإزالة وتأخير الصلاة إلى الوقت الثاني.
    بل ربّما يكون التزاحم بين الواجب التعييني وأحد الأعدال من الواجب التخييري كما إذا كان عليه دين معجّل وفي الوقت نفسه كفارة رمضان ، فلو أدّى دينه المطالَب لايتمكن من إطعام ستين مسكيناً ، بل يجب عليه العدول إلى فرد آخر وهو صوم ستين يوماً ، كلّ ذلك من أقسام التزاحم.
    وربّما يظهر من المحقّق الخوئي انحصار التزاحم في الأوّل حيث قال : إنّ ملاك التزاحم أن لايكون المكلّف متمكّناً من امتثال الحكمين معاً بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر ، كمسألة إنقاذ الغريقين. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ التزاحم في القسم الأوّل بين الحكمين ، وفي الثاني بين واجب ومصداق من الواجب الموسّع ، أو عِدْل من الواجب المخيّر ، وليس التزاحم اصطلاحاً شرعياً حتى نتبع تفسيره ، بل الجامع عدم إمكان امتثال الأمرين إمّا مطلقاً أو في وقت خاص فيدخل الجميع تحت التزاحم.

    الخامس : أسباب التزاحم
    إنّ للتزاحم في مقام الامتثال أقساماً نشير إليها :
    1. أن يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر ،
1. مصباح الأُصول : 3/357.

(310)
كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في أرض الغير.
    2. أن يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين المتعلّقين من باب المصادفة لا دائماً وإلاّ لانتهى إلى التعارض ، كمزاحمة إزالة النجاسة عن المسجد ، ودخول الوقت.
    3. ما يكون أحد المتعلّقين مترتباً في الوجوب على الآخر كالقيام في الركعة الأُولى والثانية ، مع عدم قدرته إلاّ عليه في ركعة واحدة ، أو كالقيام في الصلاتين ، الظهر والعصر مع عدم استطاعته إلاّ على القيام في واحد منهما.
    ومثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع وسجود أو الصلاة معهما من دون قيام في مخبأ آخر إلى غير ذلك من الموارد.

    السادس : في مرجّحات التزاحم
    قد عرفت الفرق بين التعارض والتزاحم ، وأنّ الأوّل عبارة عن تطارد الدليلين في مقام الجعل والإنشاء من دون أن تصل النوبة إلى المراتب الأُخرى. والثاني عبارة عن تطاردهما في مقام الامتثال حيث إنّ كلّ دليل يدعو إلى امتثال متعلّقه مع قصور القدرة ، من دون تطارد في مقام الجعل والإنشاء ، بل هناك كمال الملائمة.
    وعلى ضوء ذلك تختلف الغاية من إعمال المرجِّحات في كلّ واحد منهما ، فالمطلوب من إعمالها في المتعارضين هو تمييز الحجّة عن اللا حجّة ، والحقيقة عن المجاز ، والصادق عن الكاذب ، والوارد عن جدّ عن الوارد عن تقيّة.
    وأمّا المطلوب من إعمالها في المتزاحمين هو تمييز الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية وما هو الواجب فعلاً عن الواجب شأناً ، مع كون الدليلين حجتين شرعيتين صادقتين واردتين لبيان الحكم الشرعي عن جدّ بلا تقيّة في واحد منهما.


(311)
    وبذلك يعلم انّ المرجح في التعارض يجب أن يكون شيئاً يؤمِّن تلك الغاية أي تمييز الحجّة عن اللا حجة ، وهو عبارة عن موافقة الكتاب ومخالفته ، ومخالفة العامّة وموافقتها ، فمخالف الكتاب وموافق العامة ليس بحجّة ، كما أنّ المرجِّحات في باب التزاحم يجب أن تكون على وضع تُميّز بها الحجّة الفعلية عن الحجّة الشأنية من دون أن يكذّب أحد الدليلين الآخر ، وإليك بيان تلك المرجّحات وهي خمسة ، وروح الجميع واحد وهو تقديم الأهم المطلق أو النسبيّ على المهمّ.
    1. تقديم مالا بدل له على ما له بدل
    إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر ، كالصلاة عند ضيق الوقت وهو جنب ، والصلاة مع الطهارة المائية ، فلو صلّى مع الطهارة المائية لخرج الوقت بخلاف ما إذا صلّى بالطهارة الترابية ، فتُقدم الصلاة بالطهارة الترابية على الصلاة بالطهارة المائية ، وذلك لأنّ الصلاة بالطهارة المائية تستلزم خروج الوقت وليس للوقت بدل ، بخلاف الصلاة بالطهارة المائية فلو تركها فانّ له بدلاً وهو التيمّم على الصعيد.
    مثال آخر : لو كان عليه دين معجّل مطلوب وكفّارة رمضان ، فلو صرف ما حصّله من الثمن في أداء الدين لايتمكن من إطعام ستين مسكيناً وهكذا العكس ، ولكن يُقدَّم الأوّل لأنّ أداء الدين ليس له بدل ، فلو تركه فيُترك بتاتاً ، بخلاف إطعام ستين مسكيناً فلو تركه ينتقل إلى بدله وهو الصوم ستين يوماً.
    2. تقديم المضيّق على الموسع
    إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لايرضى المولى بتأخيره كإزالة


(312)
النجاسة عن المسجد ، والموسَّع الذي لايفوت بالاشتغال بالمضيّق إلاّ فضيلة الوقت ، يحكم العقل بتقديم الأوّل ـ أي إزالة النجاسة ـ على الثاني وهو الصلاة. وربما يقال بخروج المورد عن التزاحم ، لأنّه عبارة عمّا لايمكن الجمع بينهما ، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد هو عدم التمكّن إمّا مطلقاً ، أو نسبيّاً كما في المقام حيث لايتمكن من درك فضيلة الوقت الأوّل مع الابتلاء بإزالة النجاسة.
    نعم يمكن إرجاع هذا المرجِّح إلى المرجِّح السابق بالقول بأنّ المضيّق ليس له بدل اختياري ولكن الصلاة في الوقت الأوّل له بدل اختياري.
    3. تقديم الأهم من المتزاحمين على المهم
    إذا كان هناك واجبان أحدهما أهم من الآخر ، كما إذا دار الأمر بين نجاة المسلم والكافر الذميّ ، أو المسلم والمؤمن فالعقل يحكم بتقديم الأهم.
    4. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً
    إذا كان امتثال أحد الواجبين سابقاً على الآخر زماناً كما إذا وجب عليه صوم الخميس والجمعة ، ولم يتمكن إلاّ من صوم يوم واحد فعليه أن يقدِّم صوم الخميس على صوم الجمعة ، لأنّه لو صام الخميس وأفطر في الجمعة فقد صام وأفطر عن حجة ، بخلاف ما إذا عكس فقد أفطر يوم الخميس بلا مجوِّز في ظرف الإفطار ، وقس على ذلك ما إذا قدر على القيام في ركعة واحدة فتقدَّم الركعة الأُولى على الثانية إذ لو عكس فقد ترك القيام في الركعة الأُولى بلا عذر ، والمراد من التزاحم هو عدم التمكّن من القيام بكلا الواجبين.


(313)
    5. تقديم الواجب المطلق على المشروط
    إذا كان هناك واجب مطلق وآخر مشروط لم يحصل شرطه يقدّم المطلق على المشروط وهو واضح ، كما إذا أجنب المعتكف حيث إنّ مكْثُ الجنب في المسجد حرام ، وخروج المعتكف في اليوم الثالث حرام مشروط بعدم الحاجة ، ولكن الشرط العدمي غير حاصل ، فيقدّم الخروج على البقاء ، إنّما الكلام في تطبيق الضابطة على مورد خاص ذكره السيد الطباطبائي في العروة الوثقى ، وقال :
    إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين ( عليه السلام ) في كلّ عرفة ثمّ حصلت لم يجب عليه الحجّ ، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره ان يعطي للفقير كذا مقداراً ، فحصل له ما يكفيه لأحدهما ( الأمرين ) بعد حصول المعلّق عليه ، بل وكذا إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك ، فانّ هذا كلّه مانع عن تعلّق وجوب الحجّ به ، وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري. (1)
    أقول : كان على السيّد أن يقدّم الحجّ على الزيارة أخذاً بالضابطة التي أشار إليها في ذيل كلامه وهو تقديم الواجب المطلق على الواجب المشروط ، لأنّ وجوب الحجّ مطلق لكن وجوب النذر مشروط بوجود الرجحان في متعلّقه حين العمل ، وهو غير موجود ، توضيحه :
    انّه لو صحّ النذر لكان تعجيزاً شرعياً للمستطيع ، والعجز الشرعي كالعجز العقلي فيكون مأموراً بالوفاء بالنذر ومعذوراً في ترك الحجّ لعجزه شرعاً عن امتثال أمر الحجّ والمفروض انّ المتعلّق راجح في حدِّ نفسه.
1. العروة الوثقى ، كتاب الحج ، فصل الاستطاعة ، المسألة 31.

(314)
    هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلام السيد ، ولكنّه غير تام ، وذلك لأنّ مصبَّ الإطلاق هو متعلّق النذر ، أعني : زيارة الحسين ( عليه السلام ) يوم عرفة ، فعندئذ يسأل عمّا هو المتعلّق للنذر فهل المتعلّق ـ قبل تعلّق النذر ـ هي الزيارة المطلقة سواء أصار مستطيعاً أم لا ؟ أو الزيارة في غير حالة الاستطاعة للحج ؟ فعلى الثاني يكون الأمر منحصراً بالحجّ ولايكون هناك أمر بالزيارة ، وعلى الأوّل فالمتعلق بسعته على نحو يشمل حالة الاستطاعة غير راجح لاستلزامه ترك الواجب ، نظير ما إذا نذر إنسان أن يقرأ القرآن من الفجر إلى طلوع الشمس ، حيث إنّه لاينعقد النذر ، لأنّ المتعلّق مستلزم لترك الواجب فالنذر غير منعقد.
    وبعبارة أوضح : انّ متعلّق النذر يجب أن يكون ذا رجحان عند الامتثال والمفروض انّ المورد ليس كذلك ، لأنّ المستحب بما هو مفوِّت للواجب لايكون راجحاً.
    وربما يقاس المقام بالدين إذا استطاع وهو مديون ، فكما أنّ خطابه بأداء الدين المعجَّل يوجب عجزه شرعاً ، فهكذا المقام فإنّ انعقاد النذر يجعله عاجزاً شرعاً عن الحجّ وإن لم يكن عاجزاً تكويناً.
    يلاحظ عليه : بأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ أداء الدين من الواجبات الأصلية التي أوجبها اللّه سبحانه ، فإذا انشغلت ذمّة الإنسان به وخوطب بالأداء من جانبه سبحانه يصير فاقداً للاستطاعة ، ويكون عجزاً تشريعياً ، وأمّا زيارة الحسين ( عليه السلام ) فهي مستحبة في نفسها ، وإنّما يجب بالعرض أي بتعلّق النذر به وليس له إيجابه على نفسه إلاّ إذا كان راجحاً عند الإتيان به والمفروض عدمه.
    وبعبارة أُخرى : فرق بين أن يكون التعجيز من جانبه سبحانه كأداء الدين غير المشروط بشيء ، وبين أن يكون التعجيز بفعل الإنسان كأن ينذر على وجه


(315)
يصير عاجزاً عن الحجّ في أوانه ، فانّ تنجّزه مشروط بوجود الرجحان في العمل.

    الأمر السابع : في تفسير المصطلحات الأربعة
    إنّ التعارض بين الدليلين في مقام الدلالة تارة يكون غير مستقر بحيث يقوم العرف الدقيق بإرجاع بعضه إلى بعض ورفع المعارضة ، وأُخرى يكون مستقراً لايرتفع ولو بإمعان النظر فالأوّل هو مصب الجمع الدلالي الذي هو خارج عن تعارض الأدلّة اصطلاحاً.
    ثمّ إنّ بعض (1) الأُمور التي توجب رفع التعارض عرفاً عبارة عن الأُمور التالية :
    1. التخصص ، 2. الورود ، 3. الحكومة ، 4. التخصيص ، 5. التوفيق العرفي الذي اصطلحه المحقّق الخراساني بتقديم العناوين الثانوية على الأوّلية ، وإليك شرح هذه المصطلحات :
    فنقول : إنّ الورود قريب من التخصّص ، وكما أنّ الحكومة قريبة من التخصيص ، فاللازم هو التعرّف على الفرق الحاكم على كلّ من القسمين ، وتطبيقهما على مواردهما ، وإليك البيان :

    1. التخصّص
    هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر حقيقة بعناية التكوين ، بمعنى انّه لم يكن داخلاً حتى يحتاج إلى الإخراج ، أو لم يكن موضوعاً حتى يحتاج إلى الرفع ، بخلاف الأقسام الآتية ، ففيه الإخراج والرفع ، وهذا نظير
1. سيوافيك البعض الآخر في المقام الأوّل.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس