إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 316 ـ 330
(316)
قولك : « أكرم العالم » بالنسبة إلى قولك : « لاتكرم الجاهل » فالحكمان وإن كانا متناقضين ، لكنّه صوريّ ، لعدم وحدة موضوعهما نظير قولك : الخلّ حلال ، والخمر حرام ، فالحكمان متضادان ، لكنّ التضاد صوري لعدم وحدة الموضوع.

    2. الورود
    هو رفع أحد الدليلين ، موضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية التشريع على نحو لولا عنايته لما كان للوارد هذا الشأن ، وذلك مثل الأمارات بالنسبة إلى الأُصول العقلية والشرعية.
    أمّا الأُولى فلأنّ موضوع أصالة البراءة العقلية ، هو عدم البيان ، وموضوع أصالة الاشتغال ، هو احتمال العقاب مع العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به ، وموضوع أصالة التخيير هو التحيّر وعدم المرجح ، لكن الأمارة الشرعية لثبوت حجّيتها بالدليل القطعي ، تكون بياناً في مورد الأُولى ، ومؤمِّنةً عن العقاب في مورد الثانية ، ومرجّحةً ورافعةً للتحيّر في مورد الثالثة ، وعند ذاك لا موضوع لهذه الأُصول الثلاثة العقلية.
    وبالجملة : انّ الأمارة وإن كانت حجّة ظنيّة غير مفيدة للعلم الوجداني كما في مورد التخصّص ، لكن لمّا قام الدليل القطعي على حجيتها وصار مصداقاً لقوله ( عليه السلام ) : « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدِّيان » صارت بياناً في مورد عدم البيان ، ومؤمِّنةً عن العقاب ، ومرجحةً لأحد الطرفين ، فتكون رافعة لموضوع الأُصول الثلاثة العقلية حقيقة ، لكن بعناية التشريع وإضفاء الحجّية عليها ، بحيث لولا الإضفاء والعناية لكانت في عرض الأُصول العقلية.
    ومنه يظهر حالها بالنسبة إلى الأُصول الشرعية سواء كانت غير محرزة كأصل البراءة الشرعية ، ومثلها أصالتا الحلّية والطهارة ، أم محرزة كالاستصحاب وأصالة


(317)
الصحة في فعل النفس أو الغير.
    أمّا غير المحرز منها ، فلأنّ المراد من العلم في قوله « رفع عن أُمّتي ما لايعلمون » ، أو قوله : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » ، أو قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » ، هو الحجّة سواء كانت وجدانية ، أم شرعية اعتبرها الشارع حجّة ، فإذا قامت الأمارة على حرمته أو نجاسته فقد انقلب عدم الحجة إلى وجودها ، بقيام الحجّة الشرعية على الحكم.
    ومنه يظهر حال الأُصول المحرزة ، لما مرّ في الاستصحاب من أنّ المراد من اليقين في أدلّته ليس هو اليقين الوجداني ، ضرورة انّ زرارة لم يقف على طهارة ثوبه أو طهارته من الحدث بواسطة الأدلة القطعية ، بل وقف عليها من طريق الحجج الشرعيّة كإخبار ذي اليد ، أو من إجراء أصالة الطهارة في الماء الذي توضأ به ، بل المراد هو الحجّة الشرعية ، فإذاً يكون المراد من اليقين الثاني ، هو الحجّة فإذا قامت الأمارة ، فقد حصلت الغاية الواردة في أدلّة الاستصحاب.
    وأمّا غير الاستصحاب ، فاليد أمارة الملكية لو لم تكن هناك بيّنة أقوى كما في رواية العيص بن القاسم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : سألته عن مملوك ادّعى انّه حرّ ولم يأت ببيّنة على ذلك ، أشتريه ؟ قال : « نعم » ومثلها رواية حمزة بن حمران. (1)
    أمّا أصالة الصحّة في مثل النفس فالموضوع لها هو الشكّ كما في صحيح زرارة : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة ؟ (2) وصحيح إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض » (3) والأمارة رافعة للشكّ بعد إضفاء الشارع الحجيّة لها ـ مضافاً إلى ما عليه العقلاء ، من كون
1. الوسائل : الجزء 12 ، الباب 5 من أبواب بيع الحيوان ، الحديث 1 ـ 2.
2. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 23 من أبواب الخلل ، الحديث 1.
3. الوسائل : الجزء 4 ، الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 4.


(318)
الاطمئنان الحاصل من قول الثقة بحكم العلم ، بحيث لايقيمون معه لاحتمال الخلاف قدراً ولا قيمة.
    فاتّضح ممّا ذكرنا كون الأمارات بفضل الأدلّة القائمة على حجّيتها ، واردة على الأُصول مطلقاً عقلية أو شرعية محرزة وغير محرزة. والفرق بين المحرز وغيره ـ بعد اشتراكهما ـ في أنّ الغاية رفع التحيّر وجود نوع من الطريقية في المحرز دون غيره.

    3. الحكومة
    الحكومة من المصطلحات الجديدة التي لم يكن منها أثر بين المتأخرين من عصر العلاّمة الحلّي ( 648 ـ 726 هـ ) إلى عهد المحقّق البهبهاني ( 1118 ـ 1206 هـ ) ، فضلاً عن القدماء وعرّفها الشيخ بقوله : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله ، مسوقاً لبيان حاله ، متعرضاً عليه ، نظير الدليل على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل فانّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك ، فلو فرض انّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لا عموماً ولا خصوصاً لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور ... ثمّ إنّه ( قدس سره ) بيّن الفرق بينه وبين التخصيص بأنّ التقديم في التخصيص بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، ولكن الحاكم بيان بلفظه للمراد ومفسر للمراد من العام فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير. (1)
1. الفرائد : 432 طبعة رحمة اللّه.

(319)
    أقول : الحكومة عند الشيخ تتقوم بأمرين :
    أ : أن يكون الحاكم متصرّفاً في موضوع الدليل المحكوم بإخراج بعض المصاديق بدعوى انّه ليس مصداقاً له.
    ب : أن يكون الموضوع محكوماً بحكم قبل ورود الحاكم ، على نحو لولا كونه كذلك كان تشريع الدليل الحاكم لغواً.
    لكن كلاً من الشرطين غير لازم ، أمّا الأوّل فلأنّ الحكومة لاتنحصر بالتصرّف في عقد الوضع ، بل ربما يكون متصرفاً في عقد الحمل كأحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى الأحكام المتعلّقة على الموضوعات على نحو الإطلاق الذي يعم حالتي الضرر والحرج لوجوب الغسل في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلى المَرافِقِ ) (1) فقوله يعم حالتي الضرر والحرج غير انّ أدلّتهما ، حاكمان على الإطلاق الموجود فيها فيختص وجوب الغسل بغير تينك الحالتين.
    كما أنّ التصرف في عقد الوضع لاينحصر بالتضييق ، بل ربما يتصرّف بالتوسعة ، كما هو الحال في قوله : الطواف بالبيت صلاة ، فهو يُدخل الطواف تحت الصلاة ، فيكون محكوماً بحكمها مثل قوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقوله : « التراب أحد الطهورين » بالنسبة إلى قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » لو كان الطهور فيه ظاهراً في الطهارة المائية.
    وأمّا الثاني فهو منقوض بحكومة أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلّة الشروط في الصلاة ، فلو قال : « صلّ في ثوب طاهر » فهو ظاهر في الطهارة الواقعية ، لكن بعد
1. المائدة : 6.

(320)
انضمام قوله : « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » يكون الموضوع أعمّ منها ومن الظاهريّة ، ولكن ليس على وجه لولا أدلة الشروط لكان ورود الحاكم لغواً إلاّ على وجه ذكرناه في الدورة السابقة. (1)
    ولأجل بعض ما ذكر ، عدل المحقّق الخراساني إلى تعريفه بقوله : أن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كميّة ما أُريد من الآخر مقدماً كان أو مؤخراً.
    ثمّ إنّه ( قدس سره ) عطف على الحكومة التوفيقَ العرفي وقال : أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وُفِّقَ بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما ، كما هو الحال في الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية حيث يقدّم في مثلهما الأدلة النافية ولاتُلاحظ النسبة بينهما أصلاً.
    يلاحظ عليه : أنّه لا وجه لجعله أمراً مغايراً للحكومة بل هو من أقسام الحكومة ، غير انّه ( قدس سره ) لمّـا خصَّ الحكومة ببيان الكميَّة في ناحية الموضوع أخرج هذا من تحتها ، ولو قلنا بعمومها لما ورد لبيان الكمية في ناحية المحمول أيضاً ، لما كان هنا وجه لإخراجها عن تحت الحكومة ، لأنّ العناوين الثانوية تحدد شمول المحمول سعة وضيقاً.
    ولقد أحسن بعض الأعلام حيث لم يخصها ببيان الكمية في ناحية عقد الوضع ، بل جعلها الأعم منه ومن بيانها في عقد الحمل ، حيث قال : أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر أمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً ، أو عقد حمله.
1. لاحظ المحصول : 4/423.

(321)
    وبكلمة قصيرة فالمقوم للحكومة ، هو تبادر الرقابة والنظارة من أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر ، على وجه تكون تلك سبباً للتقدم ، سواء أتحققت بالمدلول المطابقي أو الالتزامي وسواء أكانت بنحو التفسير ، أو تكون النتيجة عند الاجتماع هي التفسير ، وذلك لأنّ التفسير ربما يكون واضحاً كما في صحيحة الحلبي فيمن عليه شهران متتابعان ، فانّ المتبادر منها صيام ستين يوماً متتابعاً لكنّه يفسرها بصيام شهر ويوم قال : « إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين ، والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أياّماً منه ... » . (1)
    وربما يكون التفسير خفيّاً لكن يعلم بقياس أحدهما إلى الآخر كما في أصالة الطهارة بالنسبة إلى أدلة الشروط على ما مرّ. ولأجل انّ الحاكم له الرقابة والنظارة ، يقدّم على المحكوم حتى في مورد يكون بين الدليلين عموم وخصوص من وجه ، ولايتوقف على وجود رجحان لأحد الدليلين في مورد الاجتماع.

    4. التخصيص
    التخصيص عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن الحكم المحمول عليه مع حفظ الموضوع ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم العالم الفاسق ، فهو يشارك الحكومة في قسم التضييق ، أي في مورد إخراج موضوع الخاص عن حكم العام ، غير انّه يفترق عنها بأنّ التخصيص يخرجه عن حكم العام مع الاعتراف بأنّه من أفراده ومن مصاديقه ، ولذلك يقول : لاتكرم زيداً العالم.
    ولكن الحكومة في الموارد التي تشارك التخصيص في النتيجة يخرج المورد عن حكم العام لكن بلسان نفي الموضوع وانّه ليس من مصاديق العام إدعاءً ، كما
1. الوسائل : الجزء 7 ، الباب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب ، الحديث 9.

(322)
في مثل قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » ، والغاية إنّما هي إخراج كثير الشكّ عن تحت العمومات الواردة حول الشاك ، ولكن الإخراج بصورة نفي كونه من مصاديق الشاك فلايكون محكوماً بحكمه.
    إلى هنا تمّ تفسير المصطلحات الأربعة بل الخمسة إذا أُضيفت إليها حكومة العناوين الثانوية على الأوّلية ، وقد عرفت أنّها ليست قسماً مغايراً للحكومة.

    وجه تقدّم الخاص على العام
    ثمّ إنّ تقدّم الأقسام الثلاثة على غيرها واضح لايحتاج إلى البيان لعدم وجود الصلة بين الدليلين في التخصّص حتى يقدم أو يؤخر ، وإعدام الموضوع في الورود ، وللحكومة دور التفسير فيقدّم الدليل المفسِّر على المحكوم المفسَّر.
    إنّما الكلام في وجه تقدّم الخاص على العام مع حفظ الموضوع ، وهذا هو الذي نحن بصدد بيانه ، ولأجل التوضيح نقدم أمراً ، وهو انّ الاحتجاج بالعام أو الخاص رهن ثبوت أُمور ثلاثة :
    الأوّل : كون الدليل صادراً عن الحجة.
    الثاني : كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو ارادة استعمالية.
    الثالث : كون الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية.
    أمّا الأمر الأوّل فإثباته يقع على عاتق أدلّة حجّية الخبر الواحد ، كما أنّ المتكفّل لإثبات الأمرين الأخيرين هو الأصل العقلائي الجاري في المقام. فانّ الأصل عند العقلاء كون المتكلّم مريداً للمعنى ولو إرادة استعمالية كما هو الحال في التورية والمزاح ، فخرج ما يفقد أصل إرادة المعنى كما هو الحال في تعلم


(323)
اللغات الأجنبية ، أوحفظ الجمل حيث إنّ الغاية هو اكتساب المهارة في الكلام.
    كما أنّ الضابطة عند العقلاء أيضاً هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما خرج بالدليل ، فخرج الكلام الملقى على وجه التورية والمزاح وما يشبههما حيث لاتتطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية.
    إذا علمت هذه الأُمور ، فاعلم أنّ كلاً من العام والخاص حائز للأُمور الثلاثة ، فكما يجوز تقدّم الخاص على العام بالقول بانّ الإرادة الاستعمالية في مورد الخاص لم تكن مطابقة للإرادة الجدية وإنّما ألقاه المولى على وجه الضابطة ليرجع إلى العام المخاطب في مقام الشك ، دون مقام اليقين بالخلاف. فهكذا يجوز تقديم العام على الخاص وإنّما التفاوت والاختلاف بأنّ في تقديم الخاص على العام نقضاً للتطابق في بعض أفراده ، وفي تقديم العام على الخاص نقضاً للتطابق في الخاص من رأسه وأصله.
    وعلى كلّ تقدير فما هو الوجه لتقديم الخاص على العام مع كونهما على حد سواء ؟ هذا هو السؤال وأمّا الجواب فبوجهين :
    أ : انّ في تقديم الخاص على العام عمل بكلا الدليلين ، بخلاف العكس ففيه عمل بدليل واحد وهو العام وإلغاء الدليل الآخر من رأسه.
    ب : انّ النظام السائد على التقنين والتشريع هو فصل الخاص عن العام وذلك لمصالح أهمها عدم احاطة المقنِّنين العاديين بالمصالح والمفاسد ، فربما يشرِّعون حكماً عامّاً بزعم وجود المصلحة فيه ثمّ يتبين لهم عدم المصلحة في بعض الموارد فيخرجونه عن حكم العام بصورة ملحق قانوني ، وصار هذا هو السبب في تقديم الخاص على العام في التشريعات البشرية.


(324)
    وأمّا التشريع الإلهي فهو منزّه عن هذه الوصمة ، فهو سبحانه عالم بالمصالح والمفاسد قال سبحانه : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير ). (1)
    غير انّ هناك نكتة جديرة بالإشارة وهي انّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) دعا الناس في مكة المكرمة إلى التوحيد ونبذ الشرك ما يربو على ثلاثة عشر عاماً ولم تسنح له الفرصة لبيان الأحكام والتشريعات الهائلة في شريعته ، ولما هاجر إلى المدينة شغلته الحروب والغزوات ومجادلة أهل الكتاب ومكافحة المنافقين إلى غير ذلك من الشواغل التي حالت دون بيان أحكام الشريعة بتفاصيلها. فبيّن ما بيّن وترك التفاصيل والجزئيات على عاتق العترة الذين هم أعدال الكتاب بتنصيص منه حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي » فقامت العترة واحداً بعد واحد ببيان التفاصيل والمقيّدات والمخصّصات للتشريعات السابقة. فصار هذا سبباً لتقديم الخاص على العام والمقيّد على المطلق ، وعلى ذلك جرت سيرة العلماء وديدنهم في أبواب الفقه.

    الأمر الثامن : ما هو السبب لوجود الروايات المتعارضة ؟
    إنّ السابر في أبواب الروايات الفقهية يقف على وجود الروايات المتعارضة في أكثر الأبواب وهذا يثير سؤالاً ، وهو كيف تطرق التعارض إلى روايات أئمّة أهل البيت ؟ وهناك احتمالان :
    الأوّل : انّ أئمّة أهل البيت كانوا يفتون الناس عن طريق استنباط الأحكام الشرعية عن أدلّتها التفصيلية كسائر أئمّة المذاهب ، فلذلك طرأ عليهم الاختلاف
1. الملك : 14.

(325)
في الآراء كما طرأ على غيرهم ، فانّ الإمام الشافعي له آراء قديمة قبل أن يحطّ الرحل في مصر ، وآراء جديدة بعد نزوله بها وهكذا عند غيره.
    وهذا الاحتمال في حقّ أئمّة أهل البيت من الوهن بمكان ، فإنّهم ( عليهم السلام ) عيبة علم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وخزنة معارفه فلايصدرون إلاّ عن علم ورثوه عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو يلقى في روعهم بما انّهم محدَّثون ، وكون الإنسان محدَّثاً لايلازم كونه نبيّاً طرفاً للوحي ، فإنّ مريم البتول كانت محدّثة ولم تكن نبية وقد أوضحنا ذلك في بحوثنا العقائدية.
    الثاني : انّ العامل الخارجي أوجد هذا القلق والاضطراب في الأحاديث ، ولأجل ذلك قام الشيخ الطوسي بتأليف كتاب مستقل في جمع ما اختلف من الأخبار ، أسماه « الاستبصار فيما اختلف من الأخبار » ، وهانحن نشير إلى تلك العوامل الخارجية التي أوجدت التعارض ، وهي :

    1. حدوث التقطيع في الروايات
    روى أهل السنّة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » ، فصار ذلك مستمسكاً للمشبِّهة قائلين بأنّ الضمير في « صورته » يرجع إلى اللّه سبحانه مع أنّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) كشف النقاب عن وجه الرواية وقال : « قاتلهم اللّه حذفوا أوّل الحديث ، انّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) رأى رجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه :
    قبّح اللّه وجهَك ووجهَ من يُشْبِهُك ، فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : يا عبد اللّه لاتقُل هذا لأخيك فانّ اللّه عزّو جلّ خلق آدم على صورته » . (1) وقد تطرّق هذا الأمر إلى
1. توحيد الصدوق : الباب 12 ، الحديث 10 و11.

(326)
الأحاديث الفقهية.
    روت العامة عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) انّه قال : لرجل أتاه فقدّم أباه ، فقال له ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « أنت ومالك لأبيك » .
    وقد استدلّ بهذه الرواية على ولاية الأب على مال الولد ونفسه ، وإنّما يصحّ الاستدلال لو صدرت الرواية بهذا النحو ، ولكن الوارد من طرقنا يشرح مقصود الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من هذا الكلام ويعرب عن كونه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بصدد بيان حكم أخلاقي لا شرعي حتى يستفاد منه الولاية على الأموال بل النفوس ، يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) بعد نقله :
     « إنّما جاء بأبيه إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمّي ، فأخبره الأب ، أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، وقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شيء أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن ؟! » . (1)
    والدقة في ألفاظ الرواية وقوله : « أوَ كان رسول اللّه يحبس الأب للابن ؟! » تعرب عن كون الكلام وارداً لبيان أصل أخلاقي يجدر على الابن رعايته. وتكشف عن عدم ولايته على مال الابن وإنّما لم يحبسه لعدم الفائدة فيه لكونه معدِماً أوّلاً وترفّع مقام الأب عن الحبس بصرف مال الولد ثانياً.

    2. أخذ عرف الراوي بنظر الاعتبار
    انّ أكثر المتلقّين عن أئمّة أهل البيت كانوا عرباً ولكن كان لهم أعراف مختلفة ، مثلاً الرطل ـ الذي هو عند الجميع حاك عن الوزن والمقدارـ يختلف مقداره عند المكي والعراقي ، فالرطل المكي ضِعْف الرطل العراقي ، وبذلك
1. الوسائل : 12/196 ـ 197 ، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 8.

(327)
اختلفت الأخبار في بيان الكرّففي بعض منها الكرّ ستمائة رطل ، وفي بعض آخر الكرّ من الماء الذي لاينجسه شيء ألف ومائتا رطل ، وهما في بادئ النظر مختلفان لكن بالنظر إلى العرف الذي تكلّم به الإمام ينحلّ به الاختلاف فانّ المخاطب في الخبر الأوّل هو محمد بن مسلم الثقفي الطائفي ، والطائف قريب من مكة ، ولكن المخاطب في الثاني هو محمد بن أبي عمير البغدادي وبذلك يتحد مضمون الروايات فانّ الكرّ حسب العرف الأوّل هو 600 رطل وحسب العرف الثاني 1200 رطل وفي الوقت نفسه هما أمر واحد قد عُبّر عنه بتعبيرين. (1)

    3. ملاحظة مصلحة الراوي حين الإفتاء
    إنّ الأخذ بمصلحة الراوي ممّا أوجب اختلاف الروايات ، ففي الفقه الإمامي المتواتر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) هو انّ الرجل إذا مات وترك ابنة واحدة فقط فالتركة جميعاً لها : نصفها بالفرض والنصف الآخر بالرد ، على خلاف ما عليه الفقه السنّي فانّ النصف عندهم للبنت والنصف الآخر للعَصَبَة. فترى أنّ الإمام الصادق ( عليه السلام ) في الرواية التالية يُفتي بفتوى أهل السنّة رعاية لمصلحة الراوي ، روى سلمة بن محرز ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : إنّ رجلاً مات وأوصى إليَّ بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : « أعطها النصف » ، قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتّقاك إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعدُ ، فقلت : أصلحك اللّه إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني ؟ فقال : « لا واللّه ما اتّقيتك ولكنّي اتقيت عليك أن تَضْمَنَ » فهل علم بذلك أحد ؟ قلت : لا ، فقال : فأعطها ما بقي » . (2)
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 11 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 3 ، 1.
2. الوسائل : 17/442 ، الباب4 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث 3.


(328)
    4. الدسّ والتزوير في الروايات
    كان بين أصحاب الأئمّة رجال غالوا في مقامات الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) وبذلك وُصِفُوا بـ « الغلاة » وهم عند الأئمّة شرّ الناس ، فمنهم :
    المغيرة بن سعيد ، وأبو زينب الأسدي المعروف بأبي الخطاب تارة وأبي الذبيان أُخرى ، وإليه تُنسب الفرقة الخطّابية ، فقد دسَّ هؤلاء روايات منكرة في كتب أصحاب أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) وأبي عبد اللّه الصادق ( عليه السلام ).
    روى هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) انّه كان يقول : « كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي ، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويُسندها إلى أبي ثمّ يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة ، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم » . (1)
    ويؤيده ما رواه الكشي عن يونس بن عبدالرحمن ، قال : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ( عليه السلام ) ووجدت أصحاب أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) وقال لي : « إنّ أبا الخطاب كذّب على أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، لعن اللّه أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) ، فلاتقبلوا علينا خلاف القرآن ، فانّا إن تحدثنا ، حدَّثنا بموافقة
1. رجال الكشي : 196 برقم 103.

(329)
القرآن وموافقة السنّة. (1)
    ثمّ إنّ الدس والتزوير لم ينحصر بهذين الرجلين ، بل جاء بعدهما جماعة لهم دور في التزوير كفارس بن حاتم القزويني ، والحسن بن محمد بن بابا ، ومحمد بن نُصَير النميري ، وأبي طاهر محمد بن علي بن بلال ، وأحمد بن هلال ، والحسين بن منصور الحلاّج ، وابن أبي عذافر ، وأبي دلف ، وجمع كثير ممّن يتسمّى بالشيعة فإليهم تُسند المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات والتناسخ ، وقد خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم ( عليهم السلام ). وأورد الكشي أخبارهم.

    5. النقل بالمعنى
    إنّ من أسباب الاختلاف عدم عناية الراوي بنقل كلام الإمام بنصِّه والاكتفاء بمعناه ، فعند ذلك تطرق الاختلاف بين الأحاديث ، إذ ربما كان نصّ الإمام ( عليه السلام ) مشتملاً على قرينة على المراد ، حذفها الراوي باعتقاد انّها غير دخيلة في المعنى ، وها هو منصور بن حازم يقول : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) رجل تزوج امرأة وسمَّى لها صداقاً ، ثمّ مات عنها ولم يدخل بها ؟ قال : « لها المهر كاملاً ، ولها الميراث » .
    قلت : فإنّهم رووا عنك انّ لها نصف المهر ؟ قال : « لايحفظون عنّي ، إنّما ذلك للمطلّقة » . (2)
    نعم ، كان لفيف من الأصحاب ملتزمين بنقل التعبير بنصّه حيث كانوا يكتبون الحديث في مجلس السماع كما جاء في بعض روايات زرارة. (3)
1. رجال الكشي : 195 برقم 103.
2. الوسائل : 15/77 ، الباب 58 من أبواب المهور ، الحديث 24.
3. الوسائل : 3/110 ، الباب 8 من أبواب المواقيت ، الحديث 33.


(330)
    6. عدم إتقان اللغة العربية
    إنّ من أسباب الاختلاف عدم إتقان اللغة العربية من قبل بعض الرواة غير العرب كعمّار بن موسى الساباطي ، فهو فطحي ثقة ، لكنّه من الموالي غير العرب ، ولذلك نجد اضطراباً ملحوظاً في أغلب ما رواه ، ولذلك قال الشيخ في الاستبصار : انّه لا يعمل بمتفردات عمّار. (1)
    على أنّ عدة من الرواة لم يكن همّهم نقلَ الحديث ودراستَه ومذاكرتَه ، وإنّما سألوا عن أشياء وأُجيبوا فنقلوه إلى الآخرين ، وهذا كصفوان الجمّال الذي يرجع أكثر رواياته إلى السؤال عن أحكام السفر ولم يكن له همّ سوى ذلك.
    وهذا الصنف من الرواة يختلف أحوالهم مع من كان مولعاً بتعلّم الحديث ونقله وضبطه ، كزرارة ومحمد بن مسلم.
    قال زرارة : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : جعلني اللّه فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتُفتيني ؟ فأجابه الإمام بما يزيل عنه هذه الحيرة.
    فقال ( عليه السلام ) : « يا زرارة ، بيت حُجَّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تُفنى مسائله في أربعين عاماً » . (2)
    وكم فرق بين راو اناخ مطيّته عند عتبة أئمّة أهل البيت أربعين سنة لأخذ الحديث ، وراو يسأل الأئمّة طول عمره مرّّة أو مرتين. ومن الواضح بمكان انّ روايات الراوي الأوّل أتقن بكثير من الراوي الثاني.
1. الاستبصار : 1/372. قال : لا يعمل على ما يختص بروايته وقد جمع ما تفرّد به المحقّق التستري في قاموس الرجال : 8/19 ـ 30 وقال : وأكثر ألفاظ أخباره معقّدة ، مختلة النظام ، ومنها في مكان الإمام والمأموم.
2. الوسائل : الجزء8 ، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ ، الحديث 12.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس