إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 331 ـ 345
(331)
    7. التقية
    إنّ من أحد الأسباب لطروء الاختلاف في الأخبار المروية عنهم هو إفتاء أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) على خلاف مذهبهم تقيّة من السلطان أوّلاً ، والقضاة الذين كان بيدهم الأُمور ثانياً ، وحفظ نفوس شيعتهم ثالثاً.
    أمّا الأوّل والثاني فواضحان ، إنّما الكلام في الثالث وهو انّ الإفتاء على خلاف مذهبهم كان سبباً لحفظ الشيعة ، فبيانه :
    إنّهم ( عليهم السلام ) لو كانوا مفتين على وفق مذهبهم دائماً كان ذلك سبباً لانتشار مذهبهم بين الشيعة وعملهم على فُتياهم ، ولأضحى ذلك سمة مميّزة لهم وبالتالي مُثيراً لحفيظة الآخرين عليهم ، تعقبها مضاعفات أُخرى خطيرة.
    روى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن سالم بن أبي خديجة ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : سأله إنسان وأنا حاضر ، فقال : ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلُّون العصر ، وبعضهم يصلُّون الظهر ؟ فقال : « أنا أمرتهم بهذا لو صلُّوا على وقت واحد عُرفوا فأُخذوا برقابهم » . (1)
    ولأجل هذه الدواعي المختلفة كان أئمّة الشيعة تتقي بين الحين والآخر ، وبذلك اختلفت الأخبار المأثورة عنهم ، بما انّ بعضها إفتاء وفق الواقع ، والآخر إفتاء وفق مذهب الآخرين.
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ إفتاء الأئمّة ( عليهم السلام ) على وفق التقية كان أمراً ذائعاً ، ويدلّ على ذلك أُمور نذكر منها ما يلي :
    الأوّل : انّ بعض الشيعة كانوا يكاتبون أئمتهم ويطلبون منهم الإفتاء وفق
1. الوسائل : 3 ، الباب 7 من أبواب المواقيت ، الحديث 3.

(332)
الواقع لاوفق التقية.
    روى الصدوق عن يحيى بن أبي عمران أنّه قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) في السنجاب والفنك والخز ، وقلت : جعلت فداك ، أحب أن لاتجيبني بالتقية في ذلك ؟ فكتب بخطه إليَّ : « صلّ فيها » . (1)
    الثاني : انّ أصحاب الأئمّة الذين كانوا بطانة لعلومهم ومذاهبهم ، كانوا يميّزون الحكم الصادر عن تقيّة والصادر لا عن تقيّة ، فإذا روى شخص عن الأئمة حديثاًوكان على وجه التقية ، يخاطبونه بقولهم أعطاك من جراب النورة. وأمّا إذا كان لا على نحو التقيّة يقولون : أعطاك من عين صافية. (2)
    ثمّ إنّ الإفتاء على وفق التقية كان يتناسب مع حجم الأخطار المحدقة ، فإذا كان الخطر دائماً بالنسبة إلى شخص ، يفتيه الإمام على وفق التقية من دون أن يحدّد ظرف العمل به ، وإذا كان الخطر مؤقتاً ومقطعيّاً يفتيه على وجه مؤقت ثمّ يرشده إلى من يهديه إلى الحكم الواقعي.
    روى علي بن سعد البصري ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : إنّي نازل في قوم بني عديّ ومؤذِّنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانيّة يبرأون منكم ومن شيعتكم ، وأنا نازل فيهم فما ترى في الصلاة خلف الإمام ؟ فقال ( عليه السلام ) : « صلِّ خلفه واحتسب بما تسمع ، ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيتك فتأخذ بقول الفضيل وتدع قولي » ، قال عليّ : فقدمت البصرة فأخبرت فضيلاً بما قال : فقال : هو أعلم بما قال ، ولكنّي قد سمعته وسمعت أباه
1. الوسائل : 3 ، الباب 3 من أبواب لباس المصلّي ، الحديث 6.
2. الوسائل : 17/508 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأعمام والأخوال ، الحديث 2.


(333)
يقولان : « لاتعتدّ بالصلاة خلف الناصبيّ واقرأ لنفسك كأنّك وحدك » . (1)
    فمن أراد أن يقف على الدور الذي لعبته التقية في طروء الاختلاف على الأخبار المروية عنهم فليرجع إلى كتاب الحدائق الناضرة ، قسم المقدمة ، فانّه قد بلغ الغاية في ذلك. (2)
    هذه هي الأسباب الموجبة لطروء الاختلاف في الأخبار المروية عن الأئمّة ( عليهم السلام ) ، ولعل هناك أسباباً أُخرى لم نقف عليها.
    إذا عرفت هذه الأُمور الثمانية فاعلم انّ الكلام في مبحث تعارض الأدلة يدور حول أمرين :
    الأوّل : التعارض البدوي غير المستقر.
    الثاني : التعارض المستقر.

    والمراد من الأمر الأوّل هو التعارض الذي يتبادر إلى الذهن قبل الإمعان في القرائن الحافَّة بالخبرين ولكنّه بعد الإمعان يظهر عدم وجود الاختلاف بينها وذلك بتحكيم الأظهر على الظاهر.
    كما أنّ المراد من الثاني هو التنافي المستمر الذي لايزول مع الإمعان في الخبرين أو الأُمور الخارجة عنهما بل يبقى التنافي بحاله.
    فمن القسم الأوّل تقديم الخاص على العام ، والمقيد على المطلق ، والوارد على المورود ، والحاكم على المحكوم والعناوين الثانوية على العناوين الأوّلية ، ولذلك لانعد هذه الأُمور من المتعارضين اللذين يرجع فيهما إلى المرجحات.
1. الوسائل : 5/389 ، الباب 10 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 4.
2. الحدائق : 1/5 ـ 8. ولاحظ الوسائل : الجزء 7 ، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.


(334)
    نعم ربما يقع البحث في الصغرى بأنّ أيّاً من الدليلين أظهر من الآخر ، وسيوافيك الكلام فيه.
    وأمّا القسم الثاني فهو ما يكون التنافي سائداً دائماً من دون أن تكون بينها الأظهرية.
    فعلينا أن نبحث في المقام الأوّل ثمّ نعرج إلى المقام الثاني.
    هذه هي المقدمات التي ينبغي الوقوف عليها قبل الدخول في صلب الموضوع.
    إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم أنّ الكلام يقع في فصلين :
    1. التعارض البدويّ غير المستقرّ.
    2. التعارض المستمرّ.
    وإليك الكلام فيهما واحداً بعد الآخر.


(335)
    الفصل الأوّل
في التعارض البدوي غير المستقر
    وفيه مباحث :

    الأوّل : في قاعدة « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح »
    قد اشتهرعلى الألسن قولهم : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » والأساس لهذه القاعدة هو ابن أبي جمهور الأحسائي ـ حسب ما نقله الشيخ الأعظم عنه في فرائده ، واستدل عليها بأنّ المتعارضين يجب الجمع بينهما مهما أمكن ، وإلاّ يلزم طرح كليهما أو طرح أحدهما والأوّل خلاف الأصل ، والآخر يستلزم الترجيح بلا مرجح.
    وإن شئت صياغة الدليل في قالب القياس فقل :
    المتعارضان دليلان : والدليلان يجب إعمالهما ، لا طرحهما ولا طرح أحدهما فينتج : المتعارضان يجب إعمالهما لا طرحهما ولا طرح أحدهما.
    يلاحظ عليه : بمنع كلية الكبرى ، وهو انّه يجب إعمال كلا الدليلين ، وذلك لخروج الخبرين المختلفين عن تحت القاعدة حسب الروايات المتضافرة ، حيث إنّهم ( عليهم السلام ) حكموا في الخبرين المختلفين على خلاف الإعمال بل الأخذ بأحدهما دون الآخر ، ولو تمَّت تلك الضابطة بصورتها الكلية ، يلزم طرح الروايات العلاجية


(336)
المتضافرة التي ستمرّعليك في المقام الثاني أعني التعارض المستمرّ.
    وعلى ضوء ذلك ، فتكون الضابطة مختصّة بغير موارد الخبرين المختلفين اللّذين يكون المخاطب متحيّراً في صدورهما من متكلّم واحد ، وراجعة إلى ما إذا كان لرفع الاختلاف بين الخبرين شاهد في نفس الخبرين أو الخارج عنهما ، ففي ذلك المقام يكون المورد من مصاديق قاعدة الجمع دون الطرح ، كما إذا كان دور أحد الخبرين إلى الآخر ، هو التخصيص والتقييد ، أو الحكومة أو الورود ، فيكون في نفس الخبرين قرينة عرفية في التصرّف في العام والمطلق ، والمحكوم والمورود ، على نحو لايتحيّر العرف الدقيق في الجمع بينهما وتعيين المراد منهما.
    نعم ربما يتحيّر العرف الساذج بين العام والخاص أو المطلق والمقيّد ، ويراهما مختلفين ، لكن العرف الدقيق الذي هو المخاطب في تلك المقامات ، يراهما غير مختلفين لأنّه جرت السيرة على القاء العام والمطلق وإرادة الخاص والمقيّد منهما في بيئة التقنين والتشريع ، ولذلك عبرنا عن هذا القسم من التعارض ، بالتعارض البدئي أو غير المستقرّ ، فالعرف الساذج يتلقّاهما متعارضين والعرف الدقيق العارف بشؤون التقنين ، يتلقّاهما غير مختلفين.
    والحاصل انّ الضابطة الماضية تامة في غير الموارد التي أمر أئمّة أهل البيت بالرجوع إلى المرجحات وطرح أحد الدليلين ، ولو قلنا بها حتى في تلك الموارد يلزم طرح تلك الروايات التي تقطع بصدور بعضها عنهم ( عليهم السلام ).
    فخرجنا بالنتيجة التالية :
    إنّ هنا ضابطتين :
    1. ضابطة الجمع العرفي بين الدليلين.


(337)
    2. ضابطة الترجيح بين الدليلين.
    وقد أُشير في الروايات إلى كلتا الضابطتين ، أمّا الأُولى ففي روايات ، نذكر منها ما يلي :
    1. عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السلام ) : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، انّ الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولايكذب » . (1)
    2. روى الميثمي في حديث طويل عن الرضا ( عليه السلام ) : « وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ، ثمّ كان في الخبر الآخر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم » . (2) إلى غير ذلك من الروايات التي تصرّح بأنّ في الأخبار عاماً وخاصاً وناسخاً ومنسوخاً.
    وأمّا الثاني فسيوافيك بيانه في المقام الثاني.
1. الوسائل : الجزء 2 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27.
2. الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21.


(338)
    المبحث الثاني
في شرائط الجمع الدلالي
    يشترط في الجمع الدلالي المقدّم على الطرح بالترجيح عدة أُمور :
    1. إحراز أصل الصدور ، فلو كان هناك علم إجمالي بكذب أحد الخبرين ، فلاتصل النوبة إلى الجمع ، لأنّ المراد من الجمع ، هو الجمع بين الحجّتين ، فإذا عُلم كذب أحدهما وعدم صدوره عن الحجّة فلايكون هناك جمع بين الحجّتين ، بل يعدّ جمعاً بين الحجة واللاحجّة وهو أمر باطل ، ولذلك يجب أن لايكون هناك علم بعدم الصدور. نعم لايضرّ احتمال عدمه إذا دلّ الدليل على حجّيته كما في قول الثقة.
    2. إحراز جهة الصدور وانّ المتكلّم ألقى خطابه بدافع بيان الحقيقة لالدفع الشرّ والضرر ويكفي في إحرازه ، كون الأصل عند العقلاء هو هذا ، بخلاف ما إذا علم أنّواحداً منهما صدر تقيّة فلاتصل النوبة إلى الجمع ، لما عرفت من أنّ الغاية هو الجمع بين الحجّتين ، وما صدر تقيّة ليس بحجّة بعد العلم بصدوره كذلك.
    3. كون الكلامين لمتكلم واحد امّا حقيقة أو اعتباراً ، كما هو الحال في كلمات أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) حيث إنّهم لايصدرون إلاّ عن مَشْرَع واحد ، فكلام الإمام الباقر ( عليه السلام ) نفس كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، لأنّ الجميع ينقلون عن آبائهم


(339)
عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن جبرئيل عن اللّه سبحانه.
    4. صحة التعبّد بكلّ واحد من الدليلين بعد الجمع ، وإلاّ فلو اقتضى الجمع لغوية أحد الدليلين كما إذا انجرّ التخصيص إلى الخروج المستوعب لما عدّ محلاً للجمع.
    5. وجود قرينة بين الدليلين أو في الخارج عنهما على التصرّف في أحدهما دون الآخر ، وإلاّ لايكون الجمع مقبولاً ، بل جمعاً تبرعياً لاقيمة له في سوق الاعتبار.
    ثمّ إنّ ما قام به الشيخ الطوسي في كتاب الاستبصار من الجمع بين ما اختلف من الأخبار ، بين مقبول وغير مقبول ، فالجمع القائم على وجود القرينة في البين على التصرّف في أحدهما المعين جمعُ مقبول في مقابل التصرّف في أحدهما بلا قرينة ، فهو جمع مطرود ، وقد خلط الشيخ الطوسي في كتابه بين الجمعين ، كما يظهر ممّا ينقله صاحب الوسائل عنه.


(340)
    المبحث الثالث
في تقديم الأظهر على الظاهر
    قد عرفت أنّ من الجمع المقبول هو تقديم الأظهر على الظاهر.
    ثمّ إنّ الأظهرية ربما تكون واضحة لدى الكل ، وذلك كما هو الحال في الموارد الخمسة من تقديم الخاص على العام ، والمقيّد على المطلق ، والحاكم على المحكوم ، والوارد على المورود ، والعناوين الثانوية على العناوين الأوّلية ، وربما تكون الأظهرية خفيّة ومورداً للنقاش ، وذلك كالموارد الستة التالية :
    1. إذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق.
    2. إذا دار الأمر بين التصرّف في الإطلاق البدلي أو الشمولي.
    3. إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ.
    4. إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن دون الآخر.
    5. إذا كان التخصيص في أحد الدليلين مستهجناً.
    6. إذا دار الأمر بين التقييد وحمل الأمر على الاستحباب.
    فالبحث في هذه الموارد صغروي ، أي لتمييز الأظهر عن الظاهر ، وإلاّ فالكبرى أمر مسلّم وهو لزوم تقديم الأظهر على الظاهر ، فإليك الكلام فيها واحداً تلو الآخر :


(341)
    أ. إذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق
    إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم الفاسق ، فدار أمر العالم الفاسق بين دخوله تحت الحكم الأوّل أو الثاني ، فعلى تقديم العام على المطلق يلزم التقييد في جانب الثاني ، فيكون المراد لاتكرم الفاسق غير العالم ، وعلى العكس يلزم التخصيص في العموم ، فهل يقدّم تقييد المطلق على تخصيص العام أو لا ؟
    فقد اختار الشيخ الأعظم تقديم العام على المطلق ولزوم التصرّف في الثاني دون الأوّل ، وقال ما هذا توضيحه ببيانين :
    الأوّل : انّ المختار في باب المطلق انّه موضوع للماهية المهملة ، لا الماهية المنتشرة ، فلو قدّمنا العام على المطلق لايلزم التصرّف في جانب المطلق ، لأنّ الماهية المهملة تتحقّق في ضمن فرد ما ، وهو الفاسق الجاهل ، وهذا بخلاف ما لو قدمنا المطلق على العام ، فالعام بما انّه يدل على الانتشار فإخراج صنف منه وهو العالم الفاسق يستلزم التصرّف في جانب العام ويجعله مجازاً.
    يلاحظ عليه : أنّ التصرف في أيّ واحد من العام والخاص لايستلزم المجازيّة ، أمّا المطلق فلما بيّن من أنّه موضوع للماهية المهملة ، فتقييده لايخرجه عن معناه. وأمّا العام فلما مرّ في مبحث العام والخاص من أنّ العام يستعمل بالإرادة الاستعمالية في معناه العام. والتخصيص إنّما يوجب التضييق في الإرادة الجدّية.
    وبكلمة موجزة ، انّ كلاً من العام والمطلق مستعمل في معناه اللغوي ، وإنّما يشار إلى التخصيص والتقييد بدليل آخر لا انّ العام أو المطلق مستعملان من أوّل الأمر في المخصَّص والمقيَّد ، وعلى ذلك فلا فرق بين تقديم العام على المطلق ،


(342)
أو بالعكس في عدم استلزام أي واحد منهما ، المجازيّة.
    الثاني : انّ دلالة العام على الشيوع والانتشار تامة لقوامها باللفظ ، والمخصِّص مانع عنها ، فعلى ذلك فالمقتضي تام والشكّ في التخصيص شكّ في المانع والأصل عدمه ، وهذا بخلاف المطلق فانّ عدم البيان جزء لتحقّق المطلق ، فإذا شكّ في كون العام بياناً للمطلق فهو شكّ في وجود المقتضي وانّه هل هنا مطلق أو لا ؟
    فتكون النتيجة انّ المقتضي في جانب العام محرز وإنّما الشكّ في جانب المانع ، وأمّا المطلق فالشكّ فيه في وجود المقتضي قبل أن يصل الشك إلى وجود المانع فيكون تقييد المطلق مقدّماً على تخصيص العام ، فيحفظ العام ويُقيَّد المطلق.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد ، والمقتضي بهذا المعنى محرز فيكون مرجع الشكّ في كلّ منهما ـ بعد إحراز المقتضي ـ إلى وجود المانع أي مانعيّة كلّ للآخر ولا مرجّح. (1)
    وبعبارة أُخرى : انّ الدلالة الإطلاقية تتوقّف على عدم البيان المتصل لا على عدم البيان مطلقاً متصلاً كان أم منفصلاً ، وإلاّ يلزم عدم انعقاد الإطلاق إذا عثرنا على المقيّد في دليل منفصل ، ولازم ذلك عدم جواز التمسّك في سائر الموارد بحجة انّ العثور على المقيّد المنفصل ، أبطل الإطلاق.
    وبذلك اتضح أنّ عدم العثور على المقيد المتصل كاف في انعقاد الإطلاق
1. كفاية الأُصول : 2/404.

(343)
وتحقّق المقتضي ، فإذا شككنا في تقييد المطلق بالعام فهو شكّ في وجود المانع والمزاحم ، وليس شكّاً في انعقاد الإطلاق ، كما هو الحال أيضاً في العام إذا شككنا في وجود المخصص.
    وبما ذكرنا يعلم انّ العام والمطلق يسيران جنباً إلى جنب ، فالمقتضي في كلا الطرفين محرز وإنّما الشكّ في وجود المانع عن حجّية العام أو حجّية المطلق ، وليس الشكّ راجعاً إلى تحقّق العام أو تحقّق المطلق. فعند ذلك لا ترجيح لتقديم العام على المطلق ومثله العكس ، إلاّ أن يكون هناك ظهور عرفي في أحدهما أكثر من الظهور العرفي في الآخر.
    وقد اخترنا في بعض الدورات السابقة تقديم ظهور العام على ظهور المطلق ولكن عدلنا عنه في الدورة الثالثة بحجّة انّ الظهور لايثبت بالبرهان والدليل وإنّما هو أمر وجداني ، فلو كانت هناك قوّة الدلالة في أحدهما يقدّم دون الآخر ، وإلاّ فالأمران متساويان.

    ب. دوران الأمر بين التصرّف في الإطلاق الشمولي أو البدلي
    هذا هو المورد الثاني الذي يرجع البحث فيه إلى البحث عن الصغرى ، أي وجود قوّة الدلالة في أحدهما دون الآخر ، فإذا قال المولى :
    لا تكرم الفاسق ، فهو بإطلاقه الشمولي ينفي إكرام كلّ فرد من أفراد الفاسق من غير فرق بين الجاهل والعالم.
    وإذا قال : أكرم عالماً ، فهو بإطلاقه البدلي يُلزم إكرام واحد من أفراد العلماء على البدل ، من دون فرق بين كون ذلك الفرد عادلاً أو فاسقاً. فيتعارضان في الفاسق العالم.


(344)
    وقد ذهب المحقّق النائيني إلى تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي وحفظ الأوّل ، والتصرّف في الثاني فتكون النتيجة حرمة إكرام الفاسق العالم. وقد نقل كلّ من المقررين : الكاظمي والخوئي ـ قدّس اللّه أسرارهما ـ عن أُستاذهما وجهاً خاصّاً ، فلنقدم ما نقله المحقّق الخوئي عنه ، حيث قال :
    الحكم في الإطلاق الشمولي يتعدد بتعدّد الأفراد ، لثبوت الحكم لجميع الأفراد على الفرض ، المعبّر عنه بتعلّق الحكم بالطبيعة السارية ، فينحلّ الحكم إلى الأحكام المتعدّدة على حسب تعدّد الأفراد ، بخلاف الإطلاق البدلي فانّ الحكم فيه واحد متعلّق بالطبيعة المعبّر عنه بتعلّق الحكم بصرف الوجود ، غاية الأمر أنّه يصحّ للمكلّف في مقام الامتثال ، تطبيق الطبيعة في ضمن أيِّ فرد شاء وهو معنى الإطلاق البدلي ، فتقديم الإطلاق البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى بعض الأفراد ، بخلاف تقديم الإطلاق الشمولي ، فانّه لايوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق البدلي إذ لاتعدّد فيه بل يوجب تضييق دائرته ، فتقديم قوله : « أكرم عالماً » على الآخر في مورد الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق ـ يوجب رفع اليد عن الحكم في الإطلاق الشمولي بالنسبة إلى هذا الفرد ، بخلاف العكس فانّه لايوجب رفع اليد عن الحكم المذكور في الإطلاق البدلي بالنسبة إلى المجمع ، لأنّه ليس فيه إلاّ حكم واحد ، غاية الأمر أنّه يوجب تضييق دائرته ، فيجب على المكلّف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة بالعالم غير الفاسق. (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المستدل خلط الإطلاق الشمولي بالعام ، فإنّ العام يدلّ بالدلالة اللفظية على الشمول فيسري الحكم إلى جميع الأفراد ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، حيث يتّخذ عنوان العام مرآة إلى المصاديق فيسري إلى المعنون
1. مصباح الأُصول : 3/378.

(345)
بحجّة انّ العنوان مرآة إلى الخارج ، فيكون كلّ واحد من أفراد العام ذا حكم خاص ، فلو ورد عليه قيد يستلزم رفع اليد عن الحكم عن بعض الأفراد.
    وأمّا الإطلاق الشمولي ، فالشمول ليس مدلول اللفظ ، لما قلنا في محلّه انّ الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع ، فمعنى الإطلاق في قولنا : « لاتكرم الفاسق » هو انّ تمام الموضوع للتحريم هو عنوان الفاسق ، وأمّا انّ الحكم سار إلى كلّ واحد من أفراده فليس اللفظ دالاً عليه ، وإنّما يدل عليه العقل حيث إنّ رفع الطبيعة إنّما هي برفع جميع أفرادها ، فيكون رفع جميع الأفراد مدلولاً عقلياً للجملة لامدلولاً لفظياً ، كما هو الحال أيضاً في العام البدلي ، فإذا قال : أكرم عالماً فمعنى الإطلاق كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع ، وأمّا الاقتصار بفرد ما الذي نعبّر عنه بالإطلاق البدلي فإنّما هو بحكم العقل الحاكم بأنّ الطبيعة توجد بإيجاد فرد ما ، وعلى ذلك فالشمول والبدل خارجان عن المضمون ، ومدلولان للعقل. فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، إذ ليس أحدهما مستنداً إلى اللفظ والآخر مستنداً إلى العقل.
    وثانياً : أنّ سلب الحكم عن بعض الأفراد موجود في كلا التصرّفين ، غير انّ الحكم في الإطلاق الشمولي على نحو الجمع كأنّه يقول : لاتكرم هذا الفاسق وذاك الفاسق و... ، ولكن الحكم في الإطلاق البدلي على نحو الترديد فكأنّه يقول : أكرم هذا العالم أو ذاك العالم أو ذلك العالم.
    فكما أنّ في تقديم الثاني على الإطلاق الشمولي رفع الحكم عن صنف من أفراد العام ، فهكذا في تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي سحب الحكم عن بعض الأفراد المحكومة بالحكم على وجه التخيير ، فالمدلول قبل التقييد هو أكرم ذلك العالم الفاسق أو ذلك العالم العادل ، وبعد التقييد بالإطلاق الشمولي
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس