إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 346 ـ 360
(346)
ينتفي الحكم الموضوع على العالم الفاسق.
    هذا ما نقله المحقّق الخوئي عن أُستاذه ، وإليك الكلام فيما نقله المحقّق الكاظمي عنه ، قال : انّ الحكم في الإطلاق الشمولي ينحل عقلاً حسب تعدّد الأفراد ، ولايتوقف شموله على كون جميع الأفراد متساوية ، فإذا قال : لاتقتل أحداً ، يكون كلّ من صدق عليه لفظ « الأحد » محكوماً بحرمة القتل ، وهذا بخلاف الإطلاق البدلي ، فانّ الشمول فيه بمعنى الاجتزاء بكلّ فرد من الطبيعة ، يتوقف على كون جميع الأفراد متساوية الأقدام ، والإطلاق الشمولي الذي يدل على حرمة إكرام الفاسق مانع عن إحراز التساوي وانّ العالم الفاسق ، كالعالم العادل في جواز الاجتزاء به في مقام الامتثال. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ التساوي كما هو محرز في الإطلاق الشمولي ، فهكذا محرز في الإطلاق البدلي بفضل مقدمات الحكمة ، وذلك إذ لو لم يكن الأفراد متساوية لزم عليه التقييد بأن يقول : أكرم العالم غير الفاسق ، وفي سكوته عن القيد دلالة على كون جميع الأفراد فاسقاً كان أو عادلاً متساوية الاقدام أمام الحكم ، وتصور انّ الإطلاق الشمولي بيان لعدم التساوي أوّل الكلام. إذ هو أشبه بتكرار المدّعى فلو كان الإطلاق الشمولي بياناً على الإطلاق البدلي فليكن العكس أيضاً مثله.

    ج. في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ
    إنّ لدوران الأمر بين التخصيص والنسخ صورتين نتناولهما واحدة تلو الأُخرى :
    الصورة الأُولى : إذا دار دليل واحد بين كونه ناسخاً وتخصيصاً ، كما إذا ورد العام في القرآن الكريم والخاص في لسان الباقرين عليهما السَّلام ، قال سبحانه : ( وَلهُنَّ
1. فوائد الأُصول : 4/732 ، مصباح الأُصول : 2/380.

(347)
الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فإِنْ كان لَكُمْ وَلَدٌ فلهنَّ الثُّمُنُ مِمّا تركتُمْ ). (1)
    فالآية بعمومها تدل على أنّ الزوجة ترث ربع أو ثمن ما ترك الزوج ، لكن ورد الخاص في لسان الإمامين من اختصاص الحبوة بالولد الأكبر أو حرمان الزوجة من الأراضي السكنيّة ، فيحتمل أن يكون الخاص مخصِّصاً كما يحتمل أن يكون ناسخاً للعام بعد رحيل الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فهناك احتمالات ذكرها الشيخ نذكرهما واحداً بعد الآخر :
    الأوّل : كون الخاص ناسخاً للعام لوجود شرط النسخ ، لأنّ المفروض وروده بعد العمل بالعام مدة مديدة.
    الثاني : أن يكون مخصصاً وانّه كان مقترناً بالعام ولكنّه خفي علينا.
    الثالث : انّ المخاطبين كانوا محكومين بالعام ظاهراً ، وقد أُريد منه الخصوص واقعاً ، وبما انّ السنّة الإلهية جرت على بيان الأحكام تدريجاً فأُودعت المخصصات عند الأئمة ليبيّنوها عبر الزمان. (2)
    أقول : الوجه الأوّل بعيد جداً ، لأنّه مبنيّ على إمكان نسخ الحكم بعد موت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وانقطاع الوحي مع أنّ خبر السماء إلى الأرض انقطع بموت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) عند تجهيز النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء » . (3) ومعه كيف يُشرّع حكم بعد رحيله ويكون ناسخاً للعام.
    وأمّا الثاني فهو أيضاً بعيد ، لأنّ احتمال الاختفاء إنّما يتم في واحد أو اثنين
1. النساء : 12.
2. فرائد الأُصول : 456.
3. نهج البلاغة ، الخطبة 235.


(348)
من المخصصات لا في المخصصات الكثيرة الهائلة الواردة على لسان أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فكيف يمكن القول بصدورها عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وسماع الناس وغفلتهم عن النقل ؟!
    وأمّا الثالث فهو الأقرب إلى الذهن ، والفرق بينه وبين الأوّل ، هو انّ العمل بالعام على الوجه الأوّل بين فترة رحيل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبيان الإمام ( عليه السلام ) يكون عملاً بالحكم الواقعي ، بخلافه على الوجه الثالث فانّ العمل بالعام كان عملاً بالحكم الظاهري الخاطئ.
    ولكن لا فائدة في البحث فسواء أكانت هذه الروايات مخصصات أو ناسخات فيجب العمل بها في هذه الفترات ، وتصور انّ القول بالتخصيص يستلزم تأخير البيان إلى عصر الصادقين عليهما السَّلام مردود بأنّ قبحه ليس أمراً ذاتياً لا يتغيّر بل بالوجوه والاعتبارات بل ربما تكمن المصلحة في تأخير البيان ، إذ لم يكن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) متمكناً من بيان المخصص ، وإنّما المهم هو الصورة الثانية التي طرحها المحقّق الخراساني.
    الصورة الثانية : أن يدور الاحتمال المذكور بين دليلين بأن نعلم بأنّ أحدهما إمّا مخصص ، أو الآخر ناسخ ، كما إذا ورد الخاص قبل العام ، وعمل به مدة مديدة ثمّ ورد العام ، كما إذا قال مثلاً : أكرم زيداً فأكرمه المكلّف ثلاثة أشهر ثمّ ورد لاتكرموا الفسّاق وافترضنا أنّ زيداً فاسق ، فدار الأمر بين كون الخاص المتقدم مخصِّصاً للعام المتأخر أو كون العام ناسخاً له ، والمفروض تحقّق شرط النسخ ، وهو ورود العام بعد العمل بالخاص وتصويره فيما بأيدينا من الأدلّة هو ما إذا ورد الخاص في السنة الأُولى من الهجرة وورد العام في السنة العاشرة ، أو ورد الخاص في لسان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وورد العام في لسان العسكريين ، فهل يجعل الخاص مخصصاً للعام أو يجعل العام ناسخاً للخاص ؟


(349)
    وعلى كلّ حال فالمعروف هو تقديم احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، للوجه التالي :
    التخصيص شائع حتى قيل ما من عام إلاّ وقد خصّ ، والنسخ نادر حتى أنّ بعض الأعلام كاد أن يُنكر وجود النسخ في القرآن الكريم فضلاً عن السنّة.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أورد على الاستدلال بوجهين :
    الأوّل : لو تمّ ما ذكره الشيخ سابقاً في تقديم التخصيص على التقييد ، من أنّ الشكّ في الأوّل شكّ في وجود المانع وفي الثاني في وجود المقتضي ، يجب أن يقدّم النسخ في المقام على التخصيص ، وذلك لأنّ دلالة الخاص على الاستمرار والدوام إنّما هي بالإطلاق ودلالة العام على الاستيعاب بالوضع ، فاللازم حفظ الشمول في جانب العام وتقديمه على استمرار حكم الخاص.
    الثاني : انّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم ، إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وإلاّ فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص إلاّ أنّها غير موجبة لها.
    يلاحظ على الوجه الأوّل : أنّه يتم على مسلك الشيخ الأنصاري ، وأمّا على مسلك المحقّق الخراساني الذي هو مسلك الآخرين أيضاً من تمامية الإطلاق ، في هذه الموارد والشكّ إنّما هو في المانع لايكون هناك مرجح لتقديم عموم العام على استمرار حكم الخاص لإحراز المقتضي في كليهما ووقوع الشكّ في المانع ، فكما أنّ عموم العام يمكن أن يكون مانعاً لاستمرار حكم الخاص ، كذلك استمرار حكم الخاص يمكن أن يكون مانعاً لشمول العام وعمومه.
    ويلاحظ على الوجه الثاني : أنّ تقديم الخاص على النسخ ليس لملاك


(350)
الأقوائية بل لملاك خارجي وهو انّ شيوع التخصيص وندرة النسخ يورث اطمئناناً بأنّ المقام من قبيل التخصيص لا النسخ. والقول بأنّ هذا الشيوع غير موجب للظن كما ترى.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أيّد مقالة المشهور بوجهين آخرين :
    الأوّل : انّ احتمال كون العام المتأخر ناسخاً للخاص المتقدم إنّما يتصوّر إذا انعقد للعام ظهور في استغراق جميع الأفراد ، ومع وجود الخاص المتقدم لاينعقد له هذا الظهور ، لأنّ الخاص المتقدّم يكون قرينة عرفية على عدم إرادة الاستغراق في العام. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مخالف لما اتفقت عليه كلمة الأُصوليّين من عصر المحقّق الخراساني إلى يومنا هذا ، وهو انّ الخاص المنفصل لايزاحم انعقاد الظهور له في العموم وإنّما يزاحم حجّيته فيه.
    نعم انّ ما ذكره صحيح فيما إذا كان المخصص متصلاً ، وعلى ذلك فالعام قد انعقد له الظهور والشكّ إنّما هو في كون الخاص مانعاً له أو لا فلم يثبت كون الخاص قرينة على عدم إرادة الاستغراق من العام.
    الثاني : انّ كون العام ناسخاً مبني على القول بثبوت حكم العام من حين وروده في لسان الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، إذ لو دلّ على ثبوته في صدر الإسلام لايكون ناسخاً لحكم الخاص ألبتة ، وعلى ضوء ذلك فلايحتمل النسخ في الاخبار التي بأيدينا الواردة عن الأئمّة ، لأنّ ظاهرها بيان الأحكام التي كانت مجعولة في زمان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، لأنّهم ( عليهم السلام ) مبيّنون لتلك الأحكام لامشرّعون إلاّ أن تنصب قرينة على أنّ هذا الحكم مجعول من الآن. فإذا ورد عن الباقر ( عليه السلام ) انّ الطحال مثلاً
1. مصباح الأُصول : 3/384.

(351)
حرام ، وورد عن الصادق ( عليه السلام ) ، أنّ جميع أجزاء الذبيحة حلال ، لايحتمل كونه ناسخاً للخاص المتقدّم ، لأنّ ظاهره أنّ أجزاء الذبيحة حلال في دين الإسلام من زمن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا أنّها حلال الآن فلايكون العام المتأخر ناسخاً للحكم الصادر عن الباقر ( عليه السلام ). (1)
    أقول : إنّ ما ذكره مبني على امتناع النسخ بعد رحيل الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو أمر لايخلو من قوة كما سبق. وهو خيرة أُستاذه المحقّق النائيني في فوائد الأُصول. (2)
    ولكنّه ليس أمراً قطعياً ، إذ كما يجوز للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يودع المخصصات عند الوصي ، كذلك يجوز أن يودع النواسخ ـ التي سيأتي وقت نسخها في عصر الصادقين ـ عنده ، وعلى ذلك يدور أمر العام بين كونه مجعولاً في زمان النبي ، فالنسبة هي التخصيص ؛ أو مجعولاً في زمان صدوره من الإمام ، فالنسبة هي النسخ ، أي ناسخية العام للخاص.
    والحقّ انّ ندرة النسخ قرينة خارجية على كون المقام من قبيل التخصيص والنسخ. والتقديم بملاك خارجيّ لا بملاك الأقوائية كما عرفت.

    د. إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن
    إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن دون الآخر ، كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : لاتكرم الفسّاق وعلمنا من حال المتكلم أنّه يبغض العالم الفاسق ، فهل يكون هذا قرينة على تقديم عموم النهي على عموم الآخر ؟ لكن الحقّ أنّه لو بلغ القدر المتيقّن مرحلة أوجب الانصراف فهو وإلاّ فلايوجب أقوائية أحد الظهورين على الآخر.
1. مصباح الأُصول : 3/385.
2. فوائد الأُصول : 4/734.


(352)
    هـ. إذا كان التخصيص في أحد المتعارضين مستهجناً
    إذا كان بين الدليلين من النسب الأربع ، عموم من وجه ، ولكن لو أخرجنا المجمع من تحت أحدهما لاينطبق إلاّ على عدد قليل على نحو يكون التعبير عنه بلفظ العموم مستهجناً ، مثلاً إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم الفسّاق ، فالمجمع بين العنوانين مورد التعارض ، لكن لو أخرجناه من تحت الدليل الأوّل يلزم أن ينتهي التخصيص فيه إلى أقل العدد كالاثنين والثلاثة ، وعند ذلك يعكس الأمر لا بملاك الأقوائية في الظهور بل لصيانة كلام المتكلّم عن اللغو.

    و. دوران الأمر بين التقييد وحمل الأمر على الاستحباب
    إذا ورد خطاب « إذا أفطرت فأعتق رقبة » ثمّ ورد أيضاً خطاب « إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة » فالأمر دائر بين حمل المطلق على المقيد أو حمل المقيد على الاستحباب ، والترجيح مع الأمر الأوّل ، لأنّ كثيراً من المخصِّصات والمقيِّدات صدر في عصر الصادقين عليهما السَّلام مع تقدّم العمومات والمطلقات في الكتاب والسنّة النبوية ، وقد سبق منّا القول : إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس أمراً ذاتياً بل بالوجوه والاعتبار فربما يكون التأخير لأجل انطباق بعض العناوين ، حسناً وعلى فرض كونه كذلك تُتدارك المصلحة الفائتة أو المفسدة الموجودة بالمصلحة الموجودة في تأخير البيان.
    وأمّا حمل المقيد على الاستحباب لأجل شيوع استعماله فيه في الروايات فغير مفيد ، لأنّ استعمال الأمر في الاستحباب في الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) كانت مقترنة بالقرينة الحالية أو المقالية لا مطلقاً ـ وان ادّعاه صاحب المعالم ـ وعلى ذلك لايصحّ لنا حمل المقيد على الاستحباب بلا دليل ولاقرينة.


(353)
    المبحث الرابع
التعارض في أكثر من دليلين
    كان الكلام في المبحث الثالث في التعارض بين اثنين وربما يكون التعارض ثلاثيّ الأطراف ، كما إذا فرضنا عامّاً وخاصّين.
    إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم العالم الفاسق ، ثمّ قال : لاتكرم العالم النحوي ، فنسبة كلّ من الخاصين إلى العام نسبة الخصوص إلى العموم.
    فقد وقع الخلاف في كيفية الجمع فيها.
    فذهب المحقّق النراقي إلى أنّ العام يخصّص بأحدهما أوّلاً ، ثمّ بالخاص ثانياً. (1) غير انّ الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني ذهبا إلى أنّ العام يخصص بهما معاً.
    ففي المثال المذكور لو خصصنا العام بالخاصين معاً لايكون هناك أيُّ انقلاب في النسبة ، فيخرج العالم الفاسق والعالم النحوي عن تحت العام معاً ويختص العام بعدول العلماء غير النحاة.
    وأمّا بناء على نظرية المحقّق النراقي ، فلو خصصنا العام بإخراج العالم الفاسق ، تكون نتيجة الدليلين بعد التخصيص كالتالي : أكرم العالم غير الفاسق ، فتكون النسبة بينه وبين قوله : لاتكرم العالم النحوي عموماً من وجه ، فالفقيه
1. العوائد : 119.

(354)
العادل داخل تحت الأمر ، والنحوي الفاسق باق تحت النهي ، فيقع النزاع في النحوي العادل.
    فعلى الأوّل يجب إكرامه وعلى الثاني يحرم إكرامه ، فيدخل في باب « العامين من وجه » الذي هو من أقسام المتعارضين وليس بداخل في غير المستقر من التعارض.
    وتحقيق المقام يقتضي البحث في مواضع ثلاثة :

    الموضع الأوّل : إذا كانت نسبتهما إلى العام متماثلة
    إذا كانت نسبة الخاصين إلى العام على نسق واحد ، بأن يكون كلّ بالنسبة إلى العام خاصاً ، غير انّ النسبة بين الخاصين على صور ثلاث : 1. التباين ، 2. العموم والخصوص المطلق ، 3. العموم والخصوص من وجه. وإليك بيان أحكام الصور واحدة تلو الأُخرى.
    الصورة الأُولى : إذا كان هناك عام وخاصان ، وكانت النسبة بين الخاصين هو التباين ، كما إذا ورد أكرم العلماء ، ثمّ ورد لاتكرم زيداً العالم ، وورد ثالثاً لاتكرم عمرو العالم.
    ونظيره في الشريعة قوله سبحانه : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) فإذا تعقبه قوله : « لا ربا بين الوالد والولد » وقوله : « لا ربا بين الزوج والزوجة » ، فيخصّص العام بالخاصين معاً ، لعدم الترجيح بتقديم التخصيص بأحدهما دون الآخر مع وحدة النسبة.
    نعم ، لا فرق بين مسلك الشيخ ومسلك المحقّق النراقي في المقام.
    هذا كلّه إذا لم يلزم من تخصيص العام التخصيص المستهجن ، مثلاً : إذا ورد قوله : يستحب إكرام العلماء ، ثمّ دلّ دليل على وجوب إكرام العادل ودلّ دليل
1. البقرة : 275.

(355)
ثالث على حرمة الفاسق ، فالتخصيص بهما يوجب أن لايبقى للعام فرد ، لانّ العادل منهم يجب إكرامه ، والفاسق يحرم وليس بين العادل والفاسق واسطة ، فعندئذ يدخل المورد في المتعارضين ، أحدهما العام والآخرهما الخاصان ، وحينئذ فإذا كان الترجيح معهما يطرح العام ، وإن كان الترجيح مع العام يتخير في التخصيص بأيِّ واحد من الخاصين ولايجوز طرحهما لعدم العلم بكذبهما معاً.
    الصورة الثانية : إذا كان هناك عام وخاصان ، وكانت النسبة بين الخاصين هو العموم والخصوص المطلق ، كما إذا ورد : صلّ خلف كلّ مسلم ، ثمّ ورد لاتصلّ خلف شارب الخمر ، ثمّ ورد : لاتصلّ خلف الفاسق.
    وبما انّ نسبة الخاصين إلى العام نسبة واحدة حيث إنّ كلاً منهما أخص من العام ـ وإن كانت النسبة بينهما مختلفة حيث إنّ أحد الخاصين عام بالنسبة إلى الآخر. يخصّص العام بهما معاً ، وتكون النتيجة : صلّ خلف كلّ مسلم غير الفاسق ، وأمّا ذكر شارب الخمر فلأجل كون الحكم فيه آكد.
    هذا على مسلك الشيخ ، وأمّا على مسلك النراقي فلو خصّص العام بالخاص الأوّل تكون النتيجة صلّ خلف كلّ مسلم غير شارب الخمر ، فلو نسب هذا الموضوع إلى موضوع الخاص الثاني ، أي قوله : « لاتصلّ خلف الفاسق » تنقلب النسبة من الخصوص المطلق إلى العموم والخصوص من وجه ، وذلك لأنّ المسلم العادل داخل تحت الأمر ولايشمله النهي ، كما أنّ المسلم شارب الخمر داخل تحت النهي ( الخاص الأوّل ) ، فيبقى الفاسق لأجل الغيبة والكذب فيتعارض فيه كلّ من الأمر والنهي.
    فعلى الأوّل يجوز الصلاة خلفه ، لأنّه يكفي فيه كون الإمام مسلماً غير شارب الخمر ، وعلى الثاني يحرم الاقتداء لكون الموضوع هو الفسق.


(356)
    ولكن الحقّ مع الشيخ الأنصاري لما عرفت من عدم المرجح لتقديم أحد الخاصين على الآخر. ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي بعد التخصيص ، والخاص الآخر ، لأنّ المفروض انفصالهما عن العام ، لا اتصال واحد وانفصال الآخر.
    الصورة الثالثة : إذا كان هناك عام وخاصان ، وكانت النسبة بين الخاصين هو العموم والخصوص من وجه ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لاتكرم العالم الفاسق ، ثمّ قال : ولاتكرم العالم الشاعر. لأنّ نسبة موضوعي كلّ من الخاصين إلى موضوع العام هو العموم والخصوص المطلق كما هو واضح ، ولكن النسبة بين موضوعي الخاصين ( العالم الفاسق ، والعالم الشاعر ) هي العموم والخصوص من وجه.
    وطريقة الجمع في هذه الصورة نفس الطريقة في الصورة الثانية لوحدة البرهان ، وذلك لعدم الترجيح لتقديم التخصيص بأحد الخاصين على التخصيص بالآخر فانّ نسبتهما إلى العام على حدّ سواء ، ولأجل ذلك يخصص العام بهما فيعمل بما بقي تحت العام بعد التخصيص بهما ، إلاّ إذا استهجن التخصيص بهما كما مرّنظيره في الصورة الأُولى.
    إلى هنا تمّ الكلام في الموضع الأوّل ، وعلم أنّه إذا كان الخاصان أخصّ من العام يخصّص بهما مرّة ، ويعمل بالعام في الباقي إلاّ إذا كان هناك محذور.

    الموضع الثاني : إذا كانت نسبتهما إلى العام مختلفة
    إذا كان هنا عام وخاصان ، وكانت نسبة أحد الخاصّين إلى العام ، نسبة الخصوص إلى العام المطلق ، ونسبة الخاص الآخر إليه نسبة العموم والخصوص من وجه كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : ولاتكرم فسّاقهم ثمّ قال : ويستحب إكرام العدول ، فالخاص الأوّل أخص من العام ، والخاص الثاني أعمّ من وجه من


(357)
العام ، فالمختار عندنا في هذا المقام هو نظرية المحقّق النراقي ، فيخصص العام بالخاص الأوّل ثمّ يلاحظ الباقي مع الخاص الثاني ، وذلك لما عرفت من أنّ التعارض ليس إلاّ بين الحجّتين ، والمفروض انّ العام ليس حجّة في مطلق العلماء بملاحظة الخاص الأوّل بل حجّة في العلماء غير الفسّاق منهم.
    ثمّ تلاحظ النسبة بين الباقي والخاص الثاني ، وعندئذ تنقلب النسبة وتكون نسبة الخاص الثاني ( استحباب إكرام العدول ) إلى العام المخصص ( العلماء العدول ) نسبة العام إلى الخاص بعد ما كانت النسبة عموماً وخصوصاً من وجه ، وقد علّل الشيخ وجه هذا التقديم بقوله : ولولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النص ( الخاص ) أو طرح الظاهر المنافي له وكلاهما باطل. (1)
    ولكن الأولى التعليل بما ذكرنا من أنّه لاتعارض بين الخاص الأوّل والعام ، وليس العام بعد ورود الخاص حجّة في العام فيقدم الخاص عليه ثمّ تؤخذ النسبة بين الباقي بعد العلاج والخاص الثاني.

    الموضع الثالث : إذا كانت النسبة بين الجميع هي العموم والخصوص من وجه
    إذا كانت النسبة بين كلّ من الخاصين إلى العام هي العموم من وجه ، فيخرج هذا عن مورد الجمع ويدخل مورد التعارض ، كما إذا ورد : أكرم العلماء ولاتكرم الفسّاق ، ويستحب إكرام الشعراء ، فيقع التعارض بين مجمع العناوين كالعالم الفاسق الشاعر. فعلى الأوّل يجب إكرامه وعلى الثاني يحرم ، وعلى الثالث يُستحب. والحق عندنا انّ الدليلين أو الأدلّة التي تكون النسبة فيها هي العموم والخصوص من وجه داخل في المتعارضين وسوف نبحث عنه في الفصل التالي ، بإذن اللّه سبحانه.
1. الفرائد : 461.

(358)
    الفصل الثاني
في التعارض المستقر
    قد عرفت أنّ التعارض على قسمين : تعارض بدويّ غير مستقر ، وتعارض مستقر. فالمراد من الأوّل ما يزول التعارض بالتدبّر فيهما بنحو من الأنحاء التي مرّت في الفصل الأوّل ، كما أنّ المراد من الثاني ما لايزول التعارض مهما أمعنّا النظر فيهما.
    فالمرجع في الأوّل هو الجمع بين الدليلين على وفق القواعد التي تعرّفت عليها ، وأمّا المرجع في الثاني فهذا ما نتناوله بالبحث في ضمن مباحث :

    المبحث الأوّل
ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين ؟
    إذا قلنا بأنّ الخبر حجة لكونه طريقاً إلى كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أي مصلحة سوى مصلحة درك الواقع ، فما هو مقتضى حكم العقل ؟
    أقول : إنّ هنا صورتين :
    الأُولى : فيما إذا لم يكن لدليل الحجّية إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما


(359)
إذا كان دليل الحجية أمراً لبياً كالسيرة العقلائية أو الإجماع ، فعندئذ يكون دليل الحجية قاصراً عن الشمول للمتعارضين ، لأنّ الدليل اللبّي لايتصوّر فيه الإطلاق فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض ، فتكون النتيجة عدم الدليل على حجّية الخبرين المتعارضين وهو مساو لسقوطهما.
    الثانية : إذا كان هناك إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية النبأ والنفر ، وقلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة المتعارضين ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية.
    إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو التساقط ، وإلاّ فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة :
    1. الأخذ بكليهما ، وهو يستلزم التعدّد في المتناقضين.
    2. الأخذ بأحدهما المعين ، وهو ترجيح بلا مرجّح.
    3. الأخذ بأحدهما المخير ، وهو لا دليل عليه.
    لأنّ الأدلّة دلّت على حجّية كلّ واحد معيّناً لامخيّراً ، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعيّن التساقط.
    ثمّ إنّ المحقّق الاصفهاني ذكر الاحتمالات المتصوّرة بنحو آخر :
    1. أن تكون الحجّة أحدهما لابعينه. وهو باطل ، إذ ليس له مصداق إلاّ في الذهن وكلّ ما بالخارج فهو أمر معيّن لمساوقة الوجود مع التشخّص.
    2. أن تكون الحجّة في الخبرين ما يكون مطابقاً للواقع. وهو أيضاً باطل لعدم العلم بمطابقة واحد منهما لاحتمال كذب كليهما.
    3. أن يكون كلّ منهما حجّة ، وهو يستلزم التعبّد بالمتناقضين.


(360)
    4. عدم حجّية كليهما ، وهو ملازم للتساقط وهو المتعيّن. (1)
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي حاول أن يثبت وجود الدليل على التخيير بين الخبرين ، وذلك باستكشاف التخيير بتقييد أحد الإطلاقين بترك الآخر بأن يقال انّ الأخذ بكلا الخبرين لمّا كان مستلزماً للتعبّد بالمتناقضين ، يكفي في رفعه تقييد الإطلاق بقيد عدمي ، وهو حجّية كلّ ، بشرط عدم الأخذ بالآخر ، ومثله الحكم في الخبر الآخر ، فتكون النتيجة هو التخيير ، ولانحتاج في استكشاف التخيير إلى دليل آخر سوى وجود الإطلاق لصورة التعارض والاكتفاء في تقييد الإطلاق بقيد عدمي. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ استكشاف التخيير إنّما يصحّ في المتزاحمين المشتملين على المصلحة القطعية كالغريقين ، وبما انّ عجز المكلّف صار سبباً لسقوط التكليف ، فعند ذلك يصحّ أن يقال : انّ رفع التزاحم يتحقّق بتقييد امتثال كلّ من الحكمين بترك الآخر ، ولايتوقف على طرح كلا الدليلين.
    وأمّا المقام فالمفروض انّ الخبر حجّة من باب الطريقية لا من باب السببية ، وعندئذ فأحد الخبرين كاذب قطعاً والخبر الآخر محتمل الكذب ، فليس هناك علم بالملاك فيهما حتى لايجوز طرحهما ويزول الإشكال بتقييد إطلاقهما.
    فإن قلت : المفروض انّ كلّ واحد من الخبرين حجّة ظاهرية شملهما دليل الحجّية ، فالمحذور يرتفع بتقييد إطلاق الحجّية لابرفع اليد عنها.
    قلت : فرّق بين العلم بوجود حكمين واقعيين كاشفين عن وجود الملاك في كلّ واحد منهما ، وبين العلم بحكمين ظاهريين غير
1. نهاية الدراية : 5/285.
2. مصباح الأُصول : 3/363.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس