إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: 361 ـ 375
(361)
كاشفين عنه فأحدهما غير كاشف قطعاً ، والآخر محتمل الكشف ، وفي مثله ، لايستقل العقل بحفظ الخبرين مهما أمكن بخلاف الغريقين. ولو سلّمنا لكن ادّعاء وجود الإطلاق في أدلّة حجّية خبر الواحد ، افتراض محض حيث إنّها قاصرة عن الشمول لصورة التعارض.

    المبحث الثاني
في حجّية المتعارضين في نفي الثالث
    قد عرفت أنّ الأصل في المتعارضين على القول بحجّيتهما من باب الطريقية ، هو التساقط ، لكن يقع الكلام في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمَّ المدلول الالتزامي أيضاً.
    فعلى الوجه الأوّل يحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني ، فلو كان هناك خبران متعارضان أحدهما يدل على أنّ نصاب الغوص دينار ، والآخر على أنّ نصابه عشرون ديناراً ، فعلى الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث ، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون نصابه عشرة دنانير.
    ذهب المحقّق الخراساني ، والمحقّق النائيني وشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ على الاختصاص وانّهما حجّتان في نفي الثالث ، لكن المختار عندنا هو الثاني.
    ثمّ إنّ محل الكلام فيما إذا لم يعلم صدق أحدهما ، وإلاّ فيكون العلم بصدق أحدهما دليلاً على نفي الثالث قطعاً.
    1. احتجّ المحقّق الخراساني على مختاره بقوله :


(362)
    التعارض وإن كان لايوجب إلاّ سقوط أحد المتعارضين عن الحجّية رأساً حيث لايوجب إلاّ العلم بكذب أحدهما ، فلايكون هناك مانع عن حجّية الآخر ، إلاّ أنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً ( فإنّه لم يعلم كذبه إلاّ كذلك وإن احتمل كذب كلّ واحد منهما في نفسه ) ، لم يكن واحد منهما بحجّة في خصوص مؤدّاه لعدم التعيين في الحجة أصلاً. نعم يتحقّق نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّية ، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعيين لذلك لابهما. (1)
    حاصله : أنّ الساقط عند التعارض واحد منهما وهو ما كان كاذباً ، وأمّا الآخر ، أعني : محتمل الصدق ، فهو باق على حجّيته ، لكن لمّا لم يكن متعيّناً ، لايحتجّ به على المدلول المطابقي ، لتوقف الاحتجاج به على التعيّن ، ولكن يحتج به ـ على إبهامه ـ على المدلول الالتزامي ، لعدم توقّف الاحتجاج به على التعيين.
    يلاحظ عليه : أنّ الحجّية في الأمارات من الأُمور الاعتبارية العقلائية التي يتوقف اعتبارها لأحد الخبرين غير المعيّن على ترتب الأثر ، فعندئذ نسأل القائل ، عما هو الحجّة عند التعارض ؟
    فهل الحجّة هو الواحد غير المعيّن ذهناً ؟ فهو غير صالح لجعل الحجّية عليه أو الواحد غير المعيّن خارجاً ، فهو غير متحقق خارجاً ، أو الواحد المعيّن عند اللّه فليس ما عنده محتملاً لأحد الأمرين ، فما عنده إمّا صادق قطعاً وإمّا كاذب كذلك.
    أضف إلى ذلك انّ الحجّية من الأُمور العقلائية ، والغاية من جعلها هو الاحتجاج ولا معنى لجعلها لواحد لايُلمس ولايُرى ولايُتعيّن عند المخاطب.
    فإن قلت : كيف يحتج بالحجّة الإجمالية في باب العلم الإجمالي كما في الإناءين
1. كفاية الأُصول : 2/382 ـ 385.

(363)
المشتبهين ؟
    قلت : إنّ الحجّة في المقيس عليه ، متعيّنة بصورة كلية وهو قوله : اجتنب عن الدم وإنّما الإجمال في مصداق المتعلّق ، وأين هو ممّا نحن فيه حيث إنّ الحجّة بأصلها غير متعيّنة ؟
    2. احتجّ المحقّق النائيني بأنّ المتعارضين يشاركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية والتعارض إنّما هو في الدلالة المطابقية ، فلا وجه لسقوط الأُولى منهما عن الحجّية ، وتوهّم انّ الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية فاسد ، لأنّ الأُولى فرع الثانية في الوجود لا في الحجّية. (1)
    يلاحظ عليه : ما ذكره مبني على الخلط بين الدلالة التصوّرية التي لايتوقف حصولها على إرادة المتكلم والدلالة التصديقية التي تتوقف على إرادة المتكلم. ففي الأُولى تتوقف الدلالة الالتزامية على وجود الدلالة المطابقية ، لا على حجّيتها ، فلو سمع الإنسان لفظ الحاتم من طائر كالببغاء ، ينتقل إلى الجود والسخاء بخلاف الثانية فانّها متوقفة على ثبوت الإرادة في ناحية المعنى المطابقي ، فانّ مفاد الدلالة الالتزامية فيها عبارة عن إرادة المتكلم المعنى اللازم لأجل وجود الملازمة بين الإرادتين ، فإذا سقط المعنى المطابقي عن الحجّية ولم تثبت إرادة المتكلم الملزوم ، فكيف تنسب إليه ، إرادة المعنى اللازم ؟
    فبذلك تبيّن وجه ما هو المختار من عدم نهوض الخبرين ولا واحد منهما على نفي الثالث.
    ثمّ إنّ المحقّق الخوئي قد أورد على أُستاذه بنقوض غير واردة قد أوردناها في الدورة الثالثة وأجبنا عنها فلاحظ. (2)
1. فوائد الأُصول : 4/755.
2. المحصول : 4/470.


(364)
    المبحث الثالث
في بيان مقتضى الأصل على القول بالسببية
    الحقّ ـ كما تدل عليه السيرة العقلائية ـ حجّية قول الثقة من باب الطريقية ، ويحتمل أن يكون حجّة من باب السببيّة بمعنى انّ قيام الأمارة يحدث مصلحة إمّا في المؤدّى أو في سلوكها والعمل بها. وبذلك ظهرت مذاهب في السببية نشير إليها :
    الأوّل : ما نسب إلى الأشاعرة ، وهو انّ الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ ، ليس فيها واقع محفوظ. (1) وإنّما خُوِّّل الحكم الشرعي فيه على رأي المجتهد حسب ضوء القواعد الشرعية ، وعلى ذلك يكون المجتهد في فتواه مصيباً على كلّ تقدير لا مخطئاً ، لأنّ الخطأ إنّما يتصوّر فيما إذا كان هناك واقع محفوظ والمفروض خلافه ، ومعنى ذلك انّ قيام الأمارة كالخبر الواحد والقياس والاستحسان وسدّ الذرائع وغيرها تحدث مصلحة في المؤدّى ويترتب عليه جعل الحكم الشرعي على وفق المؤدّى.
    والسببية بهذا المعنى باطلة لاستلزامها الدور ، وذلك لأنّ الجهد والاستنباط يتوقف على وجود الحكم الواقعي في مظانّه ليكون بذل الجهد طريقاً للوصول إليه ،
1. الغزالي : المستصفى : 2/363. وما ينسب إلى الأشاعرة من أنّهم ينكرون الحكم المشترك بين الجاهل والعالم على إطلاقه ليس بتام ، بل انّهم ينكرون ذلك فيما إذا لم يتوفر نص من الكتاب والسنّة ، كما هو الظاهر من الغزالي في مستصفاه.

(365)
والمفروض انّ الحكم الواقعي من نتاج الاستنباط أو قيام الأمارة.
    الثاني : انّ للّه تبارك وتعالى حكماً مشتركاً بين العالم والجاهل مطلقاً ولايختص الحكم المشترك بما ورد فيه الكتاب والسنّة غير انّه إذا قامت الأمارة على خلاف الواقع تحدث مصلحة في المؤدّى وينقلب الواقع عمّا هو عليه إلى مؤدّى الأمارة فيكون مفادها حكماً واقعياً قائماً مقام الحكم الواقعي.
    وهذا هو التصويب المنسوب إلى المعتزلة ، وهو أيضاً باطل ، لأنّ المفروض انّ التشريع مختص باللّه سبحانه دون أن يشاركه المجتهد في هذه المهمة. مضافاً إلى تضافر الأخبار على وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل مطلقاً سواء أقامت الأمارة على خلافه أو لا.
    الثالث : انّ للّه تبارك وتعالى حكماً واقعياً مشتركاً بين العالم والجاهل محفوظاً مطلقاً سواء أقامت الأمارة عليه أو لا ، وسواء كان مؤدّى الأمارة موافقاً له أم مخالفاً. لكن لمّا كان الأمر بالعمل بالأمارة فيما إذا أخطأت سبباً لتفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة وهو أمر قبيح حاول الشيخ الأنصاري لدفع الإشكال المذكور بإحداث القول بالسببيّة السلوكيّة ، وهي انّ في سلوك الأمارة والعمل وفقها جبراً للمصلحة الفائتة أو المفسدة الواردة ، وليس لهذه المصلحة دور سوى الجبر والتدارك من دون جعل حكم على وفقها ، والسببية بهذا المعنى نسبها الشيخ إلى الإمامية ، وقد فصّل الكلام فيها في حجّية الظن ، وتبعه المحقّق النائيني في تقريراته ، فلاحظ.
    الرابع : ما يظهر من الشيخ الأنصاري في هذا الباب وهو انّ السببية السلوكية تكون سبباً لجعل حكم ظاهري ( لا واقعي حتى يلزم التصويب ) ، قال قدَّس سرَّه : إذا قلنا بأنّ العمل بالخبرين من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على


(366)
وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ، ظاهراً على المكلّف ، يصير المتعارضان من باب السببين المتزاحمين إلى آخر ما ذكره ، فعلى ما ذكره تكون ملازمة بين حجّية الأخبار من باب السببية وكون المتعارضين من باب المتزاحمين مطلقاً فيتبعه كون الأصل في الخبرين المتعارضين هو التخيير. (1)
    وهذا النوع من السببية أمر جديد من الشيخ ، ولذلك اشتهر بعدها القول بالحكم الظاهري ، وكأنّ لنا حكمين أحدهما واقعي والآخر ظاهري ، ولكن الحقّ انّه ليس للأمارة دور سوى الإيصال إلى الواقع ، فإن وافقت فيكون المؤدّى نفس الواقع ، وإلاّ تكون معذّرة من دون أن تستعقب جعل حكم ظاهري.
    إذا اتضح ذلك فلنذكر حكم مقتضى القاعدة على القول بالسببية ، فهناك أقوال ثلاثة :
    الأوّل : دخولهما تحت المتزاحمين ، كما عليه الشيخ الأعظم قدَّس سرُّه.
    الثاني : التفصيل بين صور التعارض ، كما عليه المحقّق الخراساني ( قدس سره ).
    الثالث : عدم دخولهما تحت المتزاحمين مطلقاً ، وهو المختار وإليك البيان :
    1. ذهب الشيخ إلى أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية هو التخيير ، فقال : إنّ الحكم بالتخيير ثابت على تقدير كون العمل بالخبرين من باب السببية بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ظاهراً على المكلّف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين فيلغى أحدهما مع وجود السببية فيه لاعمال الآخر كما في كلّ واجبين متزاحمين.
    وكان الأولى أن يقول بالتخيير عند مساواة الملاك والأخذ بالأهم إذا كان
1. فرائد الأُصول : 439.

(367)
الملاك في أحدهما أقوى من الآخر.
    2. ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين الصور :
    الأُولى : إذا كانت السببية المقتضية للحجّية مختصة بما إذا لم يعلم كذب الخبر لا تفصيلاً ولا إجمالاً ، يكون مقتضى القاعدة هو التساقط لفقدان الشرط ، وهو عدم العلم بكذب أحد الخبرين ، فتخرج هذه الصورة من أقسام السببية وتدخل في الطريقية. وإلى هذه الصورة أشار المحقّق الخراساني بقوله : « لو كان الحجّة خصوص ما لم يعلم كذبه ... » .
    الثانية : لو قلنا بأنّ المقتضي للحجّية هو مطلق الخبر وإن علم كذب أحدهما إجمالاً ، فيكون المتعارضان من باب تزاحم الواجبين ، سواء أدّيا إلى وجوب الضدين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون ، أو إلى لزوم المتناقضين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الشيء والآخر على عدمه.
    الثالثة : لو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على حكم غير إلزامي كالإباحة ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى عدم التزاحم ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه ( الإباحة ) أن يزاحم ما فيه الاقتضاء ( كالوجوب ) ، وإلى هذه الصورة أشار بقوله : « لافيما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي » . (1)
    الرابعة : هذا إذا كانت الإباحة بمعنى عدم الاقتضاء لحكم من الأحكام ، وأمّا لو كانت الإباحة عن اقتضاء بأن كانت المصلحة مقتضية للتساوي بحيث تكون الإباحة عن اقتضاء التساوي لا عن عدم الاقتضاء فيزاحم حينئذ ما يقتضي الإلزام ، فيتعامل معهما معاملة المتزاحمين.
1. والفرق بين هذه الصورة وما في الصورة الثانية من لزوم المتناقضين ، هو انّ عدم الوجوب فيها ليس حكماً شرعياً بخلاف الإباحة فانّه حكم شرعي.

(368)
    الخامسة : هذا إذا كان موضوع المصلحة مؤدّى الأمارة ، وأمّا لو كان موضوعها هو الإلزام القلبي بكلّ من التكليفين بأن يجب الالتزام بالوجوب كما يجب الالتزام بالإباحة ، فتدخل في باب المتزاحمين ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام.
    هذه هي الصورة التي ذكرها المحقّق الخراساني فأدخل بعضها في التزاحم وأخرج بعضها الآخر عنه.
    يرد على كلامه أمران :
    الأوّل : اختصاص المصلحة السلوكية بالخبر الذي يحتجّ به ، أعني : غير المعارض ، لا بالخبرين المتعارضين اللّذين لايحتج بهما حسب ما عرفت.
    الثاني : عدم انطباق حدّ التزاحم على الصور التي جعلها منه.
    وإليك بيان الأمرين :
    أمّا الأوّل : فلأنّ معنى المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض ( الحجة ) دون الخبرين المتعارضين ، ويعلم ذلك من الدافع الذي دفع الشيخ إلى تصويره حيث إنّ الشارع أمر بالعمل بالأمارة مطلقاً مع أنّها ربما تخطأ في بعض الموارد. وهي مستلزمة لتفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة.
    فهذا ما دفع الشيخ إلى التخلّص عنه بتصوير المصلحة السلوكية الجابرة ، وعلى ذلك فالمصلحة السلوكية لها إطار ضيق لايعم إلاّ الخبر غير المعارض الذي أمر الشارع بالعمل به.
    وأمّا الخبران المتعارضان فالمفروض عدم حجّيتهما ، لما دلّت المنفصلة السابقة على عدم صحة الاحتجاج بهما ، وذلك لأنّ التعبّد بهما تعبّد بأمرين مختلفين في


(369)
زمان واحد ، والتعبّد بأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح وبأحدهما المفهومي لا معنى له ، وبأحدهما المصداقي لا واقعية له. فصارت النتيجة عدم صحّة الاحتجاج بالمتعارضين ، ومعه كيف يمكن تصوير المصلحة السلوكية فيهما ، التي تختص بالخبر الذي أمر الشارع بالعمل به ؟!
    وأمّا الثاني فقد عرفت أنّ التزاحم عبارة عن عدم الاحتكاك والتدافع في مقام الجعل والملاك وإنّما يرجع التدافع إلى ظرف العمل والامتثال ، فإذا كان هذا حد التزاحم ، فكيف ينطبق ذلك التعريف على الموارد الثلاثة التي جعلها من أقسام التزاحم ؟!
    أ : الخبران المؤدّيان إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين ، والمفروض انّ التدافع قائم على قدم وساق في كلتا الصورتين ، فإذا دلّ أحدهما على وجوب الحركة والآخر على وجوب السكون في زمان واحد ، فهما يتكاذبان في الجعل والإنشاء ، كما أنّ بينهما تدافعاً في محل الملاك.
    ب : إذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الإباحة عن اقتضاء ، فقد جعله المحقّق من قبيل المتزاحمين مع عدم انطباق تعريفهما على المورد لوجود التدافع في مقام الجعل أوّلاً والملاك ثانياً ، فالوجوب يكذب الإباحة وبالعكس ، كما أنّ كونه واجباً بمعنى وجود المصلحة الملزمة في الفعل وكونه مباحاً بمعنى عدم وجود المصلحة الملزمة في الفعل.
    ج : إذا كان موضوع المصلحة هو الالتزام القلبي ، فكيف يدخل في باب المتزاحمين ، وذلك لاستلزامه التدافع في مقام الجعل فإيجاب الالتزام القلبي بالوجوب يطارده وجوب الالتزام القلبي بالحرمة.


(370)
    فقد ظهر ممّا ذكرنا أمران :
    الأوّل : انّ المصلحة السلوكية مختصة بالخبر غير المعارض ولاتعمّ المتعارضين.
    الثاني : انّ حد التزاحم لاينطبق على الصور الثلاث التي جعلها من المتزاحمين.
    وبذلك يظهر المذهب المختار في الخبرين المتعارضين على القول بالسببية.
    نعم والذي يسهل الخطب عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا البحث ، لأنّ القول بالسببية افتراض عقلي لا دليل عليه.

    المبحث الرابع
مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين
    قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط ، على كلا المسلكين : الطريقية والسببية.
    ويقع الكلام في المقام في مقتضى القاعدة الثانوية ، وانّه هل ورد دليل يخالف مقتضى القاعدة الأوّلية أو لا ؟ فعلى الأوّل يؤخذ بمقتضى الدليل الوارد ، وقد ذهب الأصحاب إلى عدم سقوط الخبرين من رأس اعتماداً على روايات وردت عنهم ( عليهم السلام ) تشهد على عدم سقوطهما من رأس ، ولكنّها مع التأكيد على ذلك يختلفان في جهات أُخرى ، ولذلك تشعبت الروايات إلى طوائف ثلاث :


(371)
    الطائفة الأُولى : ما يدل على التخيير
    إنّ هنا لفيفاً من الروايات تدلّ على أنّ المرجع عند التعارض بين الخبرين في مقام العمل ، وقد ادّعى الشيخ تواترها في الفرائد ، ومع ذلك ذهب المحقّق الخوئي إلى أنّ التخيير عند فقد المرجح ممّا لا دليل عليه ، بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه ، فانّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم. (1)
    وكان سيدنا الأُستاذ يقول بتضافر الروايات الدالة على التخيير ، وقد ظفرنا بروايات ثمان في هذا الصدد ، ولكن أكثرها لاتخلو من ليت ولعل ، حيث إنّ بعضها واردة في المستحبات ، إلى أُخرى غير ظاهرة في المتعارضين ، إلى ثالثة ضعيفة السند ، وإليك نقل ما عثرنا عليه مع هذه الجهات :
    1. ما رواه الحسن بن جهم (2) ، عن الرضا ( عليه السلام ) ، قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟ فقال : « ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّوجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبهها فليس منّا » .
    قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، ولانعلم أيّهما الحقّ ؟ قال : « فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » . (3)
    وروى صدره العياشي عن الحسن بن الجهم ، عن العبد الصالح. (4)
    فإن قلت : تدل على التخيير بعد فقد الترجيح والمطلوب هو إثبات التخيير مطلقاً.
1. مصباح الأُصول : 3/426.
2. الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الشيباني ، الثقة ، ترجمه النجاشي والشيخ في رجالهما.
3. الوسائل : 18/87 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 40.
4. الوسائل : 18/89 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 48.


(372)
    قلت : المطلوب هو ثبوت التخيير على وجه الإجمال ولا مانع من تخصيص ما دلّ عليه بالروايات الدالّة على الترجيح بالمرجِّحات. والرواية حجّة على خلاف ما اختاره المحقّق الخوئي حيث حكم بالتخيير عند فقد المرجّح.
    2. ما رواه الحارث بن المغيرة (1) ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتى ترى القائم ( عليه السلام ) فترد عليه » . (2)
    وربما يقال بأنّ الحديث ناظر إلى حجّية قول الثقة وليس بناظر إلى الحديثين المختلفين ، ويمكن أن يقال : بأنّ الحديث ناظر إلى الخبرين المتعارضين بشهادة انّ قول الإمام ( عليه السلام ) : « فموسع عليك ... » حيث إنّه ورد في الحديث المتقدم الذي مورده هو تعارض الخبرين ، كما أنّه ورد أيضاً في حديث علي بن مهزيار الآتي ومورده أيضاً الخبران المتعارضان.
    أضف إلى ذلك أنّ الغاية « حتى ترى القائم » تناسب حجّية الخبرين المتعارضين ، وأمّا الخبر الواحد فهو حجّة إلى يوم القيامة.
    وأمّا قوله : « فكلّهم ثقة » فاشتراط وثاقة الجميع ، لأجل تعدّد الروايات ، وإلاّ فلو كانت الرواية واحدة لايشترط فيه سوى وثاقة راويها ، لاوثاقة جميع الأصحاب.
    3. ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم صلّها في المحمل ، وروى
1. الحارث بن المغيرة النصري ، قال النجاشي : ثقة ، ثقة ، وله أكثر من أربعين رواية.
2. الوسائل : 18/87 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 41.


(373)
بعضهم لاتصلّها إلاّ على الأرض ؟ فوقّع ( عليه السلام ) : « موسّع عليك بأيّة عملت » . (1)
    ولكن موردها هو النافلة ، لأنّ ركعتي الفجر كناية عن نافلة الفجر ، فالتخيير في المستحبات بين الخبرين لايكون دليلاً على التخيير في غيرها ، ومع ذلك يحتمل أن يكون المراد نفس صلاة الفجر.
    واحتمل المحقّق الخوئي أنّ التخيير في الرواية تخيير واقعي وليس تخييراً ظاهرياً بمعنى جواز العمل بالخبرين ، وذلك لأنّه لو كان الحكم الواقعي غيره كان عليه البيان لاالحكم بالتخيير بين الحديثين.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره مخالف لظاهر قوله : « موسّع عليك بأيّة عملت » حيث إنّه ظاهر في الجواب عن المسألة الأُصولية ، وأمّا لماذا لم يُجب بالحكم الواقعي واكتفى بالحكم الظاهري ، وهو جواز العمل بالروايتين فليس وجهه بمعلوم.
    4. ما رواه الطبرسي في « الاحتجاج » مرسلاً في جواب مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري (2) إلى صاحب الزمان ـ عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ.
    أدام اللّه عزّك يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ، فانّ بعض أصحابنا ، قال : لايجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد ؟
1. الوسائل : 18/88 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 44.
2. محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري ، عرّفه النجاشي بقوله : أبو جعفر القمي كان ثقة وجهاً ، كاتب صاحب الأمر عليه السَّلام.
    وأمّا والده ، أعني : عبد اللّه بن جعفر ، فعرّفه النجاشي بقوله : أبو العباس القمي ، شيخ القميّين ووجههم قدم الكوفة سنة نيف وتسعين ومائتين وسمع أهلها منه فأكثروا ، فهو مؤلّف كتاب « قرب الاسناد » إلى الرضا عليه السَّلام.


(374)
    الجواب : إنّ فيه حديثين :
    أمّا أحدهما فانّه إذا انتقل من حالة إلى أُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فانّه روي : أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ، وكبّر ، ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً. (1)
    ودلالة الحديث على التخيير بين الخبرين المتعارضين فرع كون السؤال عن المسألة الأُصولية والإجابة على وفقها ، وأمّا لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكم الواقعة فلايكون دليلاً على ما نحن فيه.
    ذهب سيدنا الأُستاذ إلى الثاني ، ولكن القرائن تشهد على الأوّل وذلك :
    أوّلاً : لأنّه لو كان السؤال عن حكم الواقعة وكان الجواب لبيان حكمها كان على الإمام تخصيص الرواية الأُولى بالثانية ، لأنّ نسبة الثانية إلى الأوّل نسبة المخصص إلى العام ، وهذا يدل على أنّ الإمام لم يكن بصدد بيان الحكم الواقعي للمسألة.
    وثانياً : لو كان الإمام بصدد بيان الحكم الواقعي ، لما كان هناك أي ملزم لبيان انّه وردت هناك روايتان إحداهما كذا والأُخرى كذا ، بل كان عليه أن يفتي بالحكم الواقعي.
    وثالثاً : أنّ التعبير « بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » قد ورد في الخبرين المختلفين كما عرفت في رواية الحسن بن الجهم وعلي بن مهزيار ، فيكون قرينة على أنّ الغرض هو بيان حكم المسألة الأُصولية.
    نعم يرد على الاستدلال بالرواية بأنّ موردها هو المستحبّات والتخيير فيها
1. الوسائل : 18/87 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 39.

(375)
بين الخبرين لايكون دليلاً عليه في غيرها.
    5. ما رواه الصدوق في عيون الأخبار عن أحمد بن الحسن الميثمي (1) ، انّه سأل الرضا ( عليه السلام ) يوماً ، إلى أن قال : « فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً ، فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فما كان في السنّة موجوداً منهياً عنه نهي حرام ، ومأموراً به عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ، ثمّ كان الخبر الأخير خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكرهه ، ولم يحرِّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) » . (2)
    يلاحظ على الاستدلال : أنّ التخيير في المقام بين ترك المكروه وفعله والمستحب تركه ، فيكون التخيير فيه تخييراً واقعياً راجعاً إلى حكم الواقعة ، ويشهد على ذلك قوله : « وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً » .
    ويمكن أن يقال بخروج الرواية عن محطّ البحث.
    6. ما رواه الكليني في ذيل حديث سماعة (3) الذي سيوافيك في الطائفة
1. أحمد بن الحسن الميثمي ، قال النجاشي : أحمد بن الحسن بن إسماعيل ، كان واقفاً. وقال الطوسي : كوفي ، ثقة.
2. الوسائل : 18/81 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21.
3. الوسائل : 18/77 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الرابع ::: فهرس