فـتـح الابــواب ::: 286 ـ 300
(286)
النعمان في المقنعة وكلاماً للشيخ الفقيه محمد بن إدريس في كتاب السرائر فاعتقدوا أنّ ذلك مانعٌ من الاستخارة بالرقاع المذكورة فتوقفوا عنها ، وفاتهم فوائدها المأثورة ، ونحن نذكر كلام هذين الشيخين على وجهه ولفظه ومعناه ، ونذكر عذرهما مع مراعاة مراقبة الله جلّ جلاله ، والاجتهاد في طلب رضاه.
    أمّا الذي ذكره شيخنا المفيد في المقنعة فهذا لفظ ما وجدناه في نسختنا ، وهي نسخة عتيقة جليلة ، يدلّ حالها على أنها كتبت في زمان حياة شيخنا المفيد رضوان الله عليه ، وعليها قراءة ومقابلة ، وهي أصل يُعتمد عليه :
    وروي عنه عليه السلام أيضاً أنه قال : إذا أردت الاستخارة فخذ ست رقاع ، فاكتب في ثلاث منهن : بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان (1) ( إفعل ) وفي ثلاث : خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان (2) ( لا تفعل ) ثمّ ضعهنّ تحت مصلأك ، وصلّ ركعتين ، فإذا فرغتَ منهما فاسجد ، وقل في سجودك : أستخير الله برحمته خيرة في عافية ، مائة مرّة ، ثمّ استو جالساً ، وقل : اللهئم خِرْ لي ، واختَرْ لي في جميع اُموري ، في يسر منك وعافية.
    ثمّ اضرب يدك إلى الرقاع فشوشها واخلطها ، واخرج واحدة ، فإنْ خرجت ( لا تفعل ) فاخرج ثلاثاً متواليات ، فإنْ خرجن (3) على صفة واحدة [ لا تفعل ] (4) فلا تفعل ، وإنْ خرجت ( إفعل ) فافعل ، وإنْ خرجت واحدة ( لا تفعل ) والاخرى ( إفعل ) ، فخذ منها خمس رقاع ، فانظر أكثرهما فاعمل عليه ،
1 ـ 2 ) في « د » : فلانة.
3 ـ في النسخ : كانتا ، وما أثبتناه من المصدر.
4 ـ ما بين المعقوفين من المصدر.


(287)
واترك الباقي (1).
    وهذا آخر ما تضمَّنَتْه نسختنا المشار إليها ، ولم يُذكر عن شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان طعناً عليها ، وهي أقرب إلى التحقيق ، لأن جدي أبا جعفر الطوسيّ لمّا شرح المقنعة بتهذيب الأحكام لم يذكر عند ذكره لهذه الرواية ، أنّ المفيد طعن فيها (2) ، وإنما وجدنا بعض نسخ المقنعة فيها زيادة ، ولعلّها قد كانت من كلام (3) غير المفيد ، على حاشية المقنعة ، فنقلها بعض الناسخين فصارت في إلأصل ، ونحن نذكر الزيادة في بعض نسخ المقنعة ، ونجيب عنها ، وهذا لفظ الزيادة :
    « وهذه الرواية شاذة ، ليست كالذي تقدّم ، لكنّا أوردناها على وجه الرخصة ، دون تحقيق العمل بها ». هذا اخر ما وجدناه عنه في بعض نسخ المقنعة (4) رضي الله جلّ جلاله عنه وأرضاه.
    أقول : اعتبر هذه الرواية واعتبر ما قيد به قوله رحمه الله أنّها شاذة ، وقد ظهر لك حقيقة الحال ومعنى المقال ، أما قوله : « هذه الرواية شاذة » فإنّه ما قال : كلّ رواية وردت في الاستخارة شاذة ، ولا قال : إنّ سبب شذوذها كونها يُعمل فيها بالرقاع ، ولا قال : إنّ العمل بها شاذ ، فقد ظهر (5) بذلك انّ قوله : « هذه الرواية شاذة » محتملٌ لعدّة وجوه :
    الوجه الأول : لعل مراده رحمه الله أن هذه الرواية شاذة لأجل أنه عرف أن راويها عن الأئمة صلوات الله عليهم لم يرو غيرها عنهم ، فإنّه ما ذكر اسم رواتها.
1 ـ المقنعة : 36.
2 ـ أنظرتهذيب الأحكام 3 : 181 / 6.
3 ـ في « ش » : كتاب.
4 ـ ورد هذا النص في النسخة المطبوعة من المقنعة : 36.
5 ـ في « د » زيادة : لك.


(288)
    الوجه الثاني : لعلّ مراده أنّ هذه الرواية شاذة لأجل أن راويها خاصّة كان رجلاً مجهولاً لا يُعرف بالرواية عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
    الوجه الثالث : لعلّ مراده أنّ هذه الرواية شاذة لأجل كونها تضمّنت لفلان بن فلان ، ولم تتضمّن فلان بن فلانة ، فإنّ ذكر فلان بن فلانة هو المالوف المعروف.
    الوجه الرابع : لعلّ المراد أنّ هذه الرواية شاذة أنّها تضمّنت بسم الله الرحس الرحيم ، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان ( إفعل ) وما قال : ( إفعله ) ، فإنّ المالوف المعروف ( إفعله ) بالهاء.
    الوجه الخامس : لعلّ المراد أنّ هذه الرواية شاذة كونه ذكرفيها أولاً : « فإن خرجت لا تفعل ، فأخرج ثلاثاً متواليات ، فإنْ خرجن على صفةٍ واحدة لا تفعل ، فلا تفعل » وما هكذ ا تضمّنت رواية الاستخارة بالستّ الرقاع ، إنّما تضمّنت البداة بخروج الرقاع ( إفعل ) ، فإنّ عادة كثير من أخبار النبي والأئمّة عليهم الصلاة والسلام أنّه إذا كان الأمر متردداًَ بين ( إفعل ) و ( لا تفعل ) ، يبدأون في غالب الأحوال باللفظ بإفعل ، فكانت هذه الرواية شاذة ، كيف قدّم فيها راويها ( لا تفعل ) على غيرها من الروايات المتضمنة تقديم ( افعله ) (1) ، فإنّه كشف بذلك أنّ قوله رحمه الله : « هذه الرواية شاذة وليست كالتي تقدّم » محتمل لهذه الوجوه كلّها ، ولغيرها من التأويلات ، التي تدخل تحت الاحتمالات.
    وأمّا قوله رضوان الله عليه : « لكنّا أوردناها على سبيل الرخصة ، دون تحقيق العمل بها » ، فاعلم أنّ المفهوم من قوله « على سبيل الرخصة » أنّ العمل بها جائز ، وأنّها ليست كالروايات التي قدّمها قبلها ، وهذا الجواز كافٍ مع ما ذكرناه من وجوه
1 ـ في « د » : إفعل.

(289)
احتمالات شذوذها ، وضعف نقلها ، فإنّه لولم يكن العمل بها جائزاً كانت بدعة ، وزيادة في شريعة الإسلام ، وحوشي ذلك الشيخ العظيم المقام أن يُودع كتابه بدعة ليست من الشريعة المحمدية ، بل كان يسقطها أصلاً ويحرّمها على عادته في المجاهرة وترك التقية ، ولأنّ الشيخِ المفيد ذكر في خطبة كتاب المقنعة أنّه ألف ذلك ليكون إماماً للمسترشدين ، ودليلاً للطالبين (1).
فصل :
    وبيان ما قلناه من الاعتذار ، وأن شيخنا المفيد ما كانت هذه الرواية (2) التي كشفنا شذوذها وضعفها من باب الانكار ، أنّ جدّي السعيد أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي رضوان الله عليه شرح كتاب المقنعة بتهذيب الأحكام كما ذكرناه ، وما ذكر قول شيخنا المفيد : أنّها شاذة ، ولا تعرض لذلك برواية ولا كلام ، بل أورد روايات الاستخارات بالرقاع الست وغيرها على وجه واحد عن الثقات ، وهو أعرف باسرار شيخنا المفيد ، ولو كَان يعرف منه إنكاره لمجرّد العمل بالرقاع في الاستخارات لذكره ، أو نبّه عليه ، أو أشار إليه ، مع أنّ كتاب الاستبصار عُمل لأجل ما اختلف من الأخبار ، فلو كان في هذه الاستخارة بالرقاع خلاف في التحقيق لذكره في الاستبصار ، وهذا واضح لأهل التوفيق.
فصل :
    وأما كلام الشيخ الفقيه محمد بن إدريس رحمة الله جلّ جلاله عليه فهذا لفظ ما وجدناه عنه ، بعد ما حكيناه من اختياره للاستخارة بمائة مرة في باب الاستخارة بمائة مرة.
1 ـ أنظر المقنعة : 1.
2 ـ لعل الأنسب : هذه الرواية عنده.


(290)
    قال رحمه الله : والروايات في هذا الباب كثيرة ، والأمر فيها واسع. والأولى ما ذكرناه.
    قال : فامّا الرقاع والبنادق والقرعة فمن أضعف أخبار الآحاد ، وشواذ الأخبار ، لأن رواتها فَطَحِيّة (1) ملعونون ، مثل زُرْعة (2) وسماعة (3) وغيرهما ،
1 ـ الفَطَحِية : فرقة قالت بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق بعد أببه عليه السلام ، واعتلوا في ذلك بانه كان أكبر ولد أبي عبد الله عليه السلام ، وان أبا عبد الله عليه السلام قال : الإمامة لا تكون الآ في الأكبر من ولد الإمام. وقال الشيخ المفيد في رد الفطحية : إن عبد الله كانت به عاهة في الدين ، وورد أن الم الإمامة تكون في الأكبر ما لم يكن به عاهة. وسموا بالفطحية أو الأفطحية لأن رئيساً لهم من أهل الكوفة يسمى عبد الله بن أفطح ، ويقال أنه كان أفطح الرجلين أي عريضهما ، ويقال بل كان أفطح الرأس ، ويقال أن عبد الله كان هو الأفطح ، وسميت أيضاً : العمارية ، نسبة الى زعيم منهم يسمى عماراً. وروي أن عبد الله توفي بعد أبيه عليه السلام بسبعبن أو تسعين يوماً.
    أنظر « الفَرق بين الفِرَق : 62/ 59 ، الملل والنحل 1 : 148 ، مجمع البحرين 2 : 400 ، سفينة البحار 2 : 373 ».
2 ـ زُرْعة بن محمد ، أبو محمد إلحضرمي ، وثقه النجاشي وقال : روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام ، وكان صحب سماعة وأكثر عنه ووقف ، ولم تذكر كتب التراجم أنه كان فطحي المذهب ، بل اجمعت المصادر أنه كان واقفياً ، ونقل الكشي رواية صريحة الدلالة على أن زرعة كذب في ما رواه عن سماعة بتصريح الإمام الرضا عليه السلام ، الأ أن السيد الخوئي في المعجم ضعفها سنداً.
    انظر « رجال النجاشي : 176/ 466 ، رجال الشيخ : 350/ 2 ، وفهرسته : 75/ 303 ، اختيار معرفة الرجال : 476/ 904 ، نقد الرجال : 137 ، تنقيح المقال 1 : 446/ 4217 ، معجم رجال الحديث 7 : 261/ 4667 ».
3 ـ سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي مولى عبد بن وائل بن حجر الحضرمي ، يكنى أبا ناشرة ، وقيل : أبا محمد ، كان يتجر في القز ويخرج به الى حران ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام ، ومات بالمدينة ، وثقْه النجاشي مرتين ، ولم تذكر المصادر أنه كان فطحياً ، وانما ذكر الصدوق والشيخ أته كان واقفياً ، مع العلم أن السيد الخوئي يؤيد عدم وقفه بادلة ذكرها في ترجمة الرجل ، وأن الشيخ المفيد عده في رسالته العددية من الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا في الأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا


(291)
فلا يلتفت إلى ما اختصّا بروايته ، ولا يعرّج عليه.
    ثم قال ما معناه ـ فإنّ لفظه فيه طول لا حاجة إلى إيراده ـ : إنَّ أصحابنا يذكرون في كتب الفقه ما اختاره هو رحمه الله من الاستخارة ، ولا يذكرون البنادق والرقاع والقرعة ، إلآ في كتب العبادات (1).
     يقول علي بن موسى بن جعفربن محمد بن محمد بن الطاووس : قوله رحمه الله : « والأولى ما ذكرناه » كاشفٌ عن أنّه ما أنكر العمل في الاستخارة بالرقاع ، وانما ذكر أنّ الأولى ما اختاره هو رحمه الله وارتضاه ، وقد ذكرنا في باب ترجيح العمل بالرقاع الست (2) ما فيه بلاغ لمن عرف معناه ، فانظر في المواضع الذي ذكرناه.
    وأما قوله رحمه الله : « فأمّا الرقاع والبنادق والقرعة فمن أضعف أخبار الأحاد ، وشواذ الأخبار ، لأن رواتها فطحية ملعونون ، مثل زُرْعة وسماعة وغيرهما ، فلا يلتفت إلى ما اختصّا بروايته ، ولا يعرّج عليه » فإذا كان إنّما كانت أخبار الاستخارة بالرقاع عنده رحمه الله شاذة لأجل أنّ (3) رواتها فطحيّة مثل زُرْعة وسماعة فما روينا فيما ذكرناه عن زرعة وسماعة شيئاً أبداً ، بل ما ذكرنا رواية مسندة إلا عن من يصحّ العمل بما رواه ، فقد زالت العلة التي لأجلها كانت عنده الأخبار شاذة وضعيفة ، وما روينا أخبار استخارة الرقاع إلآ عن من اعتمد عليهم ثقات أصحابنا العارفين بالأخبار ، وقد أوضحنا
طريق الى ذم أحدهم.
    انظر « الفقَيه 2 : 75 ذيل حديث 21 ، رجال النجاشي : 193/ 517 ، رجال الشيخ : 351/ 4 ، جامع المقال : 160 ، تنقيح المقال 2 : 67/ 5271 ، معجم رجال الحديث 8 : 297/ 5546 ».
1 ـ السرائر : 69.
2 ـ تقدم في الباب التاسع ص 209.
3 ـ في « د » : لأن بدل لأجل أن.


(292)
ذلك لأهل (1) الاعتبار ، وليس كلّ أخبار الفطحيّة وفرق الشيعة باطلة بالكلية ، بل فيهم من يعرف منه الثقة في الروايات ، وقد اعتمد شيوخ أصحابنا على رواية جماعة منهم في كثير من الأحكام الواجبات والمندوبات ، وهذا واضح بين أهل المعارف ، فلا يحتاج إلى زيادة قول كاشف.
    وأما قوله رحمه الله : « إن أصحابنا ما ذكروا الاستخارة بالرقاع والبنادق والقرعة في كتب الفقه ، بل في كتب العبادات » فلعلّ هذا يكون سهواً من الناسخين لكتابه ، أو يكون له عذرٌ لا أعرفه ، وإلاّ فكتب الفقه متضمّنة للقرعة ، وأنها في كلّ أمرٍ مشكل ، والاستخارة بها إنما كانت لأنّ المستخير بها كان وجه الصواب عنده مشكلاً مجهولاً ، وما أحتاج مع أهلِ العلم إلى ذكر القرعة في كتب الفقه ، إلى أن أحكي هاهنا ما وجدته مسطوراً أو منقولاً.
    وأمّا الاستخارة بالرقاع ، فيكفي ذكرها في كتاب الكليني ، وكتاب تهذيب الأحكام ، وهما من أعظم كتب الفقه كما قدمناه ، وقد ذكرنا ذلك وأوضحناه فيما ذكرناه ورويناه.
     وأمّا قوله : « بل في كتب العبادات » فهذا لعله يكون له فيه عذر غير ظاهر ، لأن الفقه إنّما كان له حكمٌ في الشرائع والديانات ، لأنه من جملة العبادات ، ولولا ذلك كان عبثاً أو ساقط الروايات (2) ، فالفقه من جملة العبادات ، ولعله أراد أنّ العرف يقتضي أن الفقه عبارة عن ذكر مسائل الفقه خالية من الأسانيد ومن العمل بالعبادات ، أو لعله أراد بذكر كتب العبادات أي في كتب العمل ، فتكون الثانية قد ذكر عوض لفظ العمل العبادات.
    وعلى كلّ حال ، سواء كان ذكرها في كتب العبادات أو كتب
1 ـ في « د » : لأجل.
2 ـ ليس في « د ».


(293)
العمل والطاعات ، فإنَ المصنّف إذا كانت كتبه على سبيل الرواية احتمل أن يقال عنه أنّه ما قصد بذلك الفتوى ولا الدراية (1) ، وأما إذا كان تصنيفه في العبادات والعمل وللطاعات ، فقد ضمن على نفسه أنّ الذي يذكره في ذلك من جملة الأحكام الشرعية ، وإلا كان قد دعا الناس إلى العمل بالبدع ، ومخالفة المراسم الإلهية والشرائع النبوية ، فصار على هذا كتب العبادات وكتب العمل والطاعات أظهر في الاحتجاَج بما تتضمّنه من كتب الفقه. أو كتب الروايات.
    وقد انكشف بذلك أن الشيخ محمد بن إدريس ما خالف مخالفة لا تحتمل التأويل فيما أشرنا إليه ، وإنّما طعن على ما يختص بروايتة الفطحية وأمثالها من ذوي العقائد الردية ، وهذا واضح فيما أوردناه (2) من هذا الباب ، وكافٍ لذوي الألباب.
    الفريق الخامس : قومٌ يستخيرون الله جلّ جلاله فيما يُشْغِلُ عنه ، ويعتقدون أنَّ ذلك ممّا يستخار الله فيه ، ومن المعلوم عند العارفين أنَّ الله جلّ جلاله لا يستخار فيما يُشْغِلُ عنه ، وأنّ الاستخارة في ذلك خلاف عليه سبحانه ، وعلى سيد المرسلين ، فإذا لم يجدوا استخارتهم في مثل هذا الحال موافقة لما استخاروا فيه من السلامة والظفر بالآمال ، يعتقدون أنَّ هذا لضعف الاستخارة ، أو للطعن في روايتها (3) ، وإنّما هو لضعف بصائرهم ، وقلة فائدتها (4).
    ومثال استخارة هذا الفريق أنّ أحدهم يكون له مال يريد أن يزرع منه زرعاً ، أو يعمل منه تجارة ، أو يسافر لأجله سفراً ، وما يقصد بالزرع ولا
1 ـ في « د » و « ش » : ولا الرواية.
2 ـ في « ش » : أردناه.
3 ـ في « د » : رواتها.
4 ـ في « د » : فائدتهم.


(294)
التجارة ولا السفر أنّه يتقرّب بذلك إلى الله جلّ جلاله ولا لامتثال أمره سبحانه ، بل لمجرّد ميل الطباع إلى الغنى ، ولأجل أنه يأنف (1) أن يرإه الناس فقيراً ، أو يرى أحد عياله محتاجين ، أو ليكون معظّماً محترماً بكثرة المال ، وأمثال هذه الخواطر والأحوال ، التي تقع من المستخيرين وهم غافلون عن الخدمة بهذه الحركات لسلطان العالمين ، فالعقل والنقل يقتضيان أنّ هذا لايُستخار الله جلّ جلاله فيه ، وأنَّ المستخير في ذلك على هذه الوجوه بعيد من الله جلّ جلاله ومن مراضيه ، ولعلك تجد أكثر الاستخارات المعكوسة من هذا القبيل ، وقد عرّفك الله جلّ جلاله هذه الجملة ، وهوجلّ جلاله أهلٌ أن يهديك إلى التفصيل.
    الفريق السادس من الذين أنكروا الاستخارة : قوم زادوا على ما قدّمناه من الاستخارة فيما يُشْغِلُ عن الله جل جلاله ، وفيما لا يتقرّبون به إلى الله جلّ جلاله ، واستخاروا في معصية الثه تعالى ، وهم يعتقدون أنّها ليست معاصي ، ومثال هؤلاء أن يستخيروا في معونة ظالم بوكالةٍ عنه ، وتكون تلك الوكالة معونةً له على ظلمه ، أو تجارةً لظالم ، وتكون تلك التجارة معونةً له على ظلمه ، أو في خدمة للظالم ، وتكون تلك الخدمة معونةً له على ظلمه ، أو دخول على الظالم وهو يعلم من نفسه أنّه ما يقوم لله جل جلاله ولرسوله صلّى الله عليه وآله بما يقدر عليه من إنكار ما يجده عند ذلك الظالم من منكَر ، أو لا يوافق الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وآله في كراهة تلك المنكرات بقلبه إذا أقبل الظالم عليه وأدنى مجلسه وقضى حاجته.
    ومثال ذلك أن يستخير الله جلّ جلاله في أن يتوِكّل لغير الظالم أو يخدمه بنيّة أنّه يغشه أو يخونه أو يمكر به ، أو يغش أحداً لا يجوز غشه ، أو
1 ـ في « د » : بخاف. ويأنف من الشيء يأنف أنفاً وأنفة ، أي استنكف « الصحاح ـأنف ـ 4 : 1333 ».

(295)
يخونه أويمكر به لموكله ، أو لمن يخدمه.
    ومثال آخر أن يستخير ـ كما قدّمته ـ في زرع يعلم من نفسه أنّه يؤثر فيه بقلبه ظلم الوالي الأكرة (1) في حفر نهر ( أو بيته يبق عن زرعه ) (2) بغير وجه مشروع ، أو يوكل على الأكرة غلاماً يعلم أنّه يظلمهم ، وهو يستخير في الزرع على هذه الوجوه وأمثالها التي لا يحلّ معها الزرع ، فكيف يجد الاستخارة فيه.
    فلعلك تجد من يستخيرفي مثل هذه المعاصي (3) ويغفل عن كونها معصية ، وإذا انعكس عليه أمره في الاستخارة في ذلك ، نسب العكس إلى الاستخارة ، وإنّما العكس كان منه ، بطريقه (4) وسوء توفيقه.
    الفريق السابع من الذين ينكرون الاستخارة : لأجل ما رأوا فيها من إكدار وانعكاس ، ولعلّ سبب اكدارها وانعكاسها عليهم أنّهم ما عملوا شروط إجابة دعاء الاستخارات ، ولا تركوا الشروط المانعة من إجابة الدعوات كما رويناه بإسنادنا في كتابنا التتمّات من تقدّم المدحة للّه جلّ جلاله في الدعاء.
    وكما رويناه بإسنادنا إلى مولانا علي عليه السلام أنّه قال : « إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى المسيح عليه السلام : قل للملأ من بني إسرائيل : لا تدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل
1 ـ الأكَرة : جمع أكار ، وهو الحرّاث « لسان العرب ـ أكر ـ 4 : 26 ».
2 ـ كذا في « م » ، وفي « د » : أو عنه هو عن زرعة. وفي « ش » : او سه تو عن زرعه ، ولعل المناسب : نيته بيع زرعه.
3 ـ ليس في « م » و « ش ».
4 ـ في « ش » : وبطريقه.


(296)
لهم : إنّي غيرمستجيب لأحد منكم دعوة ، ولأحد من خلقي قِبَله مظلمة » (1).
    وكما رويناه بإسنادنا هناك إلى الصادق عليه السلام قال : « أوحى اللّه تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام : قل للجبّارين لا يذكروني ، فإنّه لا يذكرني عبد إلآ ذكرته ، وإنْ ذكروني ذكرتهم فلعنتهم » (2).
    وكما رويناه بإسنادنا هناك أيضاً ، عن الصادق عليه السلام : « انّ رجلا كان في بني إسرائيل ، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ، يدعو ثلاث سنين ، فلّما رأى أنَّ الله لا يجيبه ، قال : يا ربّ أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت منّي فلا تجيبني ؟ قال : فاتاه آتٍ في منامه ، فقال له : إنّك تدعو منذ ثلاث سنين بلسان [ بَذِيّ ] (3) وقلب عاتٍ غير نقي ، ونيّة غير صادقة ، فاقلع عن ذلك ، وليتّق الله قلبك ، ولتحسُن نتتك ، قال : ففعل الرجل ذلكَ ثمّ دعا الله فوُلد له غلام » (4).
    وكما رويناه بإسنادنا إلى الصادق عليه السلام قال : « قال اللهّ تبارك وتعالى : وعزّتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم في مظْلَمة ظُلِمَها ، ولأحد عنده مثل تلك المَظْلمَة » (5).
    وكما روِيناه في حديث اخر : أنّ رجلاً قال للصادق عليه السلام : إنّنا
1 ـ رواه الصدوق في الخصال : 337/ 40 ، وورام في تنبيه الخواطر 1 : 254 ، وأورده المصنف في فلاح السائل : 37 ، وابن فهد في عدة الداعي : 130.
2 ـ أورده المصنف في فلاح السائل : 37.
3 ـ ما بين المعقرفين من الكافي.
4 ـ رواه الكليني في الكافي 2 : 244/ 7 ، والراوندي في قصص الأنبياء : 181 ، وأورده المصنف في فلاح السائل : 37 ، وابن فهد الحلي في عدة الداعي : 137.
5 ـ أورده المصنف في فلاح السائل : 38.


(297)
ندعو فلا يستجاب لنا ، فقال : « إنّكم تدعون من لا تعرفونه » (1).
    وفي حديث آخر معناه عن الصادق عليه السلام : إنّ العبد يدعو وهو مصرٌ على معصية الله تعالى ، فالله جلّ جلاله يطالبه بالتوبة ، والعبد يطالبه بإجابة دعائه. فإذا ردّه الله جلّ جلاله عن الإِجابة في جواب ردّه عن الإِجابة إلى التوبة ، فقد رحمه وعفا عنه.
    أقول : فإذا استخار العبد اللهّ جلّ جلاله ، وهو على صفات ، أو صفة تمنع من إجابة الدعاء ، فإذا لم تنعكس استخارته يكون ذلك من باب الفضل الذي لا يستحقّه العبد ، وللّه جلّ جلاله أن يفعله وأن لا يفعله ، فإذا انعكست الاستخارة كان ذلك من باب العدل الذي للهّ جلّ جلاله أن يفعله ( وأن لا يفعله ) (2) مع عبده ، فربّما تنعكس في مثل هذه الأسباب استخارات ، ويكون عكسها من باب العدل ، فيعتقد العبد أنّ ذلك لضعف الروايات..
    الفريق الثامن من الذين تركوا الاستخارة وتوقّفوا عنها حيث لم يظفروا بالمراد منها : وهم قوم كانوا يستخيرون اللّه جلّ جلاله مثلاً استخارة صحيحة ، ولكنْ ما كانوا يتحفّظون بعد الاستخارة من المعاصيِ الظاهرة والباطنة ، إمّا جهلاً بالمعاصي ممّا لا يعذرون (3) بجهله ، او عمداً لاعتقادهم أنّ ذلك ما يبطل (4) الاستخارات ، ولا يحول بينهم وبين ما استخاروا فيه ، فيقع منهم بعد الاستخارة من المعاصي للهّ جلّ جلاله ما يقتضي عكس الاستخارة ، بعد أن كان الله جلّ جلاله قد أذن في قضاء حاجتهم.
1 ـ رواه الصدوق في التوحيد : 288 / 7.
2 ـ ليس في « ش ».
3 ـ في « د » و « م » : مما يعذرون.
4 ـ في « د » : ما لايبطل.


(298)
    كما رويناه بإسنادنا في كتاب التتمات (1) عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « إن العبد يسأل الله تبارك وتعالى الحاجة من حوائج الدنيا ، قال : فيكون من شان اللّه قضاؤها إلى أجل قريب ووقت بطيء ، قال : فيذنب العبد عند ذلك الوقت ذنباً ، فيقول للملك الموكل بحاجته : لا تنجز له حاجته ، واحرمه إيّاها ، فإنّه قد تعرّض لسخطي ، واستوجب الحرمان مني » (2).
    الفريق التاسع من الذين توقّفوا عن الاستخارة ، وأنكروا العمل بها : وهم قوم ما كانوا يعرِفون كيف يستخيرون ، زيادةً على ما قدّمناه ، فوجدوا الاستخارات كما لا يريدون ، فاعتقدوا أن ذلك لبطلان الرواية بالاستخارة الربانيّة ، وإنّما كان لعدم معرفتهم بشروطها المرضية ، وذلك أنّ أقل مراتب المستخير أن يسلّم إلى الله تعالى طرفي التدبير : نعم ولا ، وهو ربما يستخير وأحد الطرفين في يد هواه ، لا يتركه ولا يسلّمه إلى مولاه.

    ومن آداب المستخير : أن تكون صلاته للاستخارة صلاة مضطر إلى معرفة مصلحته التي لا يعلمها إلآ (3) علام الغيوب ، فيتأدب في صلاته كما يتأدب السائل المسكين المضطر إلى نجاح المطلوب.
    ومن آداب المستخير : أن يكون عند سجوده للاستخارة وقوله : « أستخير الله برحمته خيرة في عافية » بقلب مقْبِل على الته جل جلاله ، ونية حاضرة صافية ، فإنّه يعلم أنّه ما كان يبلغ أمله إلى (4) أن يشاور الله في كل ما
1 ـ في النسخ : السمات ، والصواب ما في المتن.
2 ـ رواه الكليني في الكافي 2 : 208 / 14 ، والمفيد في الاختصاص : 31 ، وأورده المصنف في فلاح السائل : 38.
3 ـ في « ش » زيادة : من.
4 ـ في « د » : إلا.


(299)
يُمْكِن مشاورته فيه ، ولعلّه في وقت مشاورته فيه على خلاف مراضيه ، فلا أقل من أن يكون قلبه مقبلا عليه ، كما لو شاور واستشار بعض ملوك الدنيا إذا احتاج إليه ، وقدر أن يقف بين يديه.
    ومن آداب المستخير : أنّه إذا عرف من نفسه وقت سجوده للاستخارات أنّها قد غفلت عن ذكر أنّها بين يدي عالم الخفيات ، أن يستغفر ويتوب في الحال من ذلك الإهمال ، لأنه إذ اغفل عن الله جلّ جلاله وهو يستشيره في أمره ، كان كمن حضر بين يدي مولاه ، ثمّ جعل يحدّثه ويشاوره ، وقد جعل سيده وراء ظهره..
    ومن آداب المستخير : أنّه إذا رفع رأسه من سجدة الاستخارات أنّه يُقْبل بقلبه على الله جل جلاله بصدق النيات ، ويتذكّر أنّه يأخذ رقاع الاستخارة من لسان حال الجلالة الإِلهية ، وأبواب الإِشارة الربانية ، فإن الرقاع تضمّنت أنّها خيرةٌ من الله العزيز الحكيم ، لفلان بن فلان إفعل ، أفلا ترى أن رقاع الاستخارة مكتوبات من الله جلّ جلاله أعظم مالكٍ ، وأحقّه بالمراقبات إلى عبده المضطر إليه في سائر الأوقات ، فلا أقل أن يكون امتدادُ يده لأخذ رقاع الاستخارات بتأدب وذُلٍّ وإقبال السرائر ، كما لو أخذها من سلطان في الدنيا قاهرٍ ، فما يعلم أنه ياخذها ممّن كتبها إليه ، وهو الله مالك الأوائل والأواخر.
    ومن آداب المستخير : أنّه لا يتكلم بين أخذ رقاع الاستخارة مع غير الله جل جلاله ، كما تقدم روايتنا له. عن مولانا الجواد صلوات الله عليه (1) ، فإن العبد لو كان يشاور ملكاً من ملوك الدنيا ما قطع مشاورته له وحادث غيره ممن هو دونه ، بل كان يُقْبل بقلبه وقالبه وجنانه ولسانه مدة وقت المشاورة
1 ـ تقدم في ص 143.

(300)
عليه ، فلا يكون الله جلّ جلاله دون عبده من ملوك الدنيا المشار إليه.
    ومن آداب المستخير : أنّه إذا خرجت الاستخارة مخالفة لمراد المستخير ولهواه ، فإنّه لا يقابل مشورة الله جلّ جلاله بالكراهة ومخالفة رضاه ، بل يقابل ذلك بالشكر لله جلّ جلاله كيف جعله أهلاً أن يستشيره ، وجعله أهلاً أن يجيبه في الحال ، بمصلحة دنياه واُخراه ، ما كان العبد يحسن أن يتمنّاه.
    وللاستخارة آدابٌ غير ما ذكرناه ، وقد رأينا الاقتصار على ما أوضحناه ، فربما ترك العبد شيئاً من هذه الآداب أو غيرها ، ممّا يكون شرطاً في مراقبة مالك الأسباب ، فما يؤمنه من إعراض الله جلّ جلاله عنه ، ويكون الذنب للعبد حيث أغضب الله جلّ جلاله عليه بما وقع من سوء الأدب منه.
    الفريق العاشر ممن يتوقف عن الاستخارة أو ينكرها : قوم من عوام العباد ، ما في قلوبهم يقين ، ولا قوة معرفة ، ولا وثوق بسلطان المعاد ، لأنّهم ما تسكن نفوسهم إلآ إلى مشاورة من يشاهدونه ويأنسون به ويعرفونه من الأنام ، والله جلّ جلاله ما تصحّ عليه المشاهدة ، وليس لهم اُنس (1) قوة المعرفة له ، ولا لذة الوثوق به ، ولا يعرفون للمشاورة له فائدة عندهم من قصور الأفهام.
وَمَنْ يكُ ذا فمٍ مرّمريضٍ يجد مراً به الماء الزلالا
    وهؤلاء من قبيل الذين ذكرهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه الرائقة : « همج رَعاع ، لا يعبا الله بهم ، أتباع كل ناعق وناعقة » (2).
1 ـ ليس في « م ».
2 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد : الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. « نهج البلاغة : 495/ 147 ».
فـتـح الابــواب ::: فهرس