فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 316 ـ 330
(316)
بلا موجب ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام سواء امر بها فعلا كما إذا لم يتزاحم ما هو أهم منها ، أو لم يؤمر بها فعلا كما في صورة المزاحمة ، فوجود الامر وعدمه سيان في ذلك.
    ولكن مع ذلك لا تظهر الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لأنه هب ان الضد يكون منهيا عنه ، ولكن لما كان النهى غيريا لمكان الملازمة أو المقدمية ـ على الوجهين الذين بنوا عليهما النهى عن الضد ـ لم يكن ذلك موجبا لخلل في الملاك ، بل الضد يكون باقيا على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة ، وليس النهى في المقام عن ملاك يقتضيه ، كما في باب النهى عن العبادة ، وباب الاجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى ، فان النهى في البابين يكون استقلاليا عن ملاك يتقضيه ولم يبق معه الملاك المصحح للعبادة ، لأنه لا يتعلق النهى الاستقلالي بالعبادة الا لمكان اقوائية ملاك النهى والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها ، ومعه لايكون في العبادة ملاك تام يقتضى صحة العبادة. وهذا بخلاف النهى الغيري المتعلق بالعبادة ، فإنه لما لم يكن عن مفسدة تقتضيه بل كان لمجرد المزاحمة لواجب آخر أهم والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التام المقتضى لصحتها.
    ومما ذكرنا ظهر فساد ما تسالموا عليه من فساد العبادة بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لما عرفت من أنه لا فساد حتى بناء على الاقتضاء لصحة الضد بالملاك لذي لا يضره النهى الغيري.
    واما توهم انه لا طريق لنا إلى احراز الملاك ، لتعارض الامر بالإزالة مثلا مع الامر بالصلاة ، وبعد تقديم الامر بالإزالة ، اما لضيق وقتها ، واما لأهميتها ، لم يبق مجال لاستكشاف الملاك للصلاة كما هو الشأن في جميع موارد التعارض ، حيث إنه لا يمكن القول ببقاء الملاك لاحد المتعارضين عند تقديم الآخر لاحد موجبات التقديم.
    ففساده غنى عن البيان ، لوضوح انه ليس المقام من باب التعارض ، بل من باب التزاحم ، وكم بين البابين من الفرق بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر.


(317)
    وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتفصيل الكلام في التزاحم و احكامه ، حيث إن الاعلام أهملوا ذلك ، مع أنه مما يترتب عليه فروع كثيرة ، وكان حقه ان يفردوا له عنوانا مستقلا. وعلى كل حال : ان تفصيل القول في التزاحم يقع في مقامات ثلاثة :
المقام الأول
    في الفرق بين التزاحم والتعارض.
    وتوضيح الفرق : هو انه يفترق باب التعارض عن باب التزاحم من جهات :
    ( الجهة الأولى )
    هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت ، بحيث لا يمكن جمعهما في مرحلة الجعل والتشريع ، لاستلزامه التناقض واجتماع الإرادة و الكراهة في نفس الآمر بالنسبة إلى متعلق واحد ، أو لزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم ، كما إذا أوجب القيام دائما وأوجب القعود كذلك ، أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا أوجب استقبال المشرق وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن فيه الجمع بين الحكمين ثبوتا لتعاندهما في مقام تشريع الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، بحيث يلزم من الجمع : اما اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد ، واما لزوم التكليف بما لا يطاق ، كل ذلك في مقام الجعل والتشريع.
    وهذا بخلاف باب التزاحم ، فإنه لم يكن بين الحكمين المتزاحمين منافرة و تعاند في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملائمة والموافقة ، وانما نشأ التعاند في مقام فعلية الحكمين وتحقق موضوعهما خارجا ، كالمزاحمة بين انقاذي الغريقين ، أو بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، أو غير ذلك من اقسام التزاحم على ما يأتي بيانه ، فإنه لا محذور في تشريع انقاذ كل غريق ، أو تشريع حرمة التصرف في ملك الغير ووجوب انجاء المؤمن من الهلكة ، إذ لا ربط لاحد الحكمين بالآخر ، بل شرع كل منهما على موضوعه المقدر وجوده من دون ان يستلزم ذلك التشريع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، أو التكليف بما لا يطاق ، بل اتفق التزاحم في مقام


(318)
الفعلية كما إذا اتفق انه صار التصرف في ملك الغير مقدمة لانجاء المؤمن ، أو اتفق عدم التمكن من انقاذ كل من الغريقين ، فان هذا الاتفاق لا يضر بذلك التشريع و الجعل أصلا.
    ( الجهة الثانية )
    هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الاخر ـ بأحد وجوه التقديم المذكورة في محلها ـ ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه. وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه ، مثلا في العامين من وجه ، لو حكمنا أكرم العلماء على لا تكرم الفساق في مورد الاجتماع يكون نتيجة التحكيم هو رفع حكم لا تكرم عن موضوعه ، حيث إنه مع بقاء زيد العالم مثلا على فسقه ومع قدرة المكلف على اكرامه يرتفع حكمه. واما في مثل الغريقين ، لو قدمنا أحدهما على الآخر لاحد موجبات التقديم في باب التزاحم تكون نتيجة التقديم هو سلب قدرة المكلف عن انقاذ الاخر وتعجيزا مولويا بالنسبة إليه ، لوجوب صرف قدرته إلى الأهم ، فعدم وجوب انقاذه لعدم قدرته عليه ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.
    ( الجهة الثالثة )
    هي ان المرجحات لاحد المتعارضين على الاخر كلها ترجع ، اما إلى باب الدلالة ، واما إلى باب السند. واما في باب التزاحم : فالمرجحات هي أمور آخر لا ربط لها بباب الدلالة والسند ، بل ربما يقدم ما هو أضعف دلالة وسندا على ما هو الأقوى ، نعم : ربما يكون بعض المرجحات مرجحا لكلا البابين ، لكن لا بمناط واحد بل بمناطين ، كالأهمية مثلا ، حيث إنه في باب التعارض تكون مرجحة أيضا في بعض الأحيان ، كما قيل فيما لو تعارض الأمر والنهي قدم جانب النهى ، لأهمية التحرز عن المفسدة ، أو أولوية دفعها عن جلب المصلحة. وفي باب التزاحم أيضا يقدم ما هو الأهم ، لكن مناط التقديم ليس من جهة ان في النهى مفسدة ، بل امر آخر بحسب ما يقتضيه المقام ، وكتقديم ما لا بدل له على ماله البدل ، فإنه في باب التعارض يقدم ذلك من باب ان ما لا بدل له يكون حاكما ومبينا لما له البدل ، كما في مثل تقديم العام الأصولي والمطلق الشمولي على المطلق البدلي. وفي باب التزاحم


(319)
أيضا يقدم ما لا بدل له ، لكن لا بذلك المناط ، بل بمناط ان ماله البدل لا يصلح ان يكون معجزا مولويا لما لا بدل له ، بخلاف العكس ـ على ما سيأتي توضيحه انشاء الله تعالى وبالجملة : المرجحات في أحد البابين أجنبية عن المرجحات في الباب الاخر.
    ( الجهة الرابعة )
    هي ان التزاحم انما يكون باعتبار الشرائط المعتبرة في التكليف التي يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع ، فمثل العقل والبلوغ من الأمور التكوينية المعتبرة في التكليف لا يقع فيها التزاحم ، بل الذي يقع فيه التزاحم هو خصوص القدرة ، حيث إن للشارع تعجيز العبد وصرف قدرته إلى أحد الواجبين في عالم التشريع ، وان كان قادرا في عالم التكوين.
    وان شئت قلت : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك ، بل كانت من شرائط حسن الخطاب ، فمثل البلوغ والعقل اللذين لهما دخل في ثبوت الملاك ليسا موقعا للتزاحم ، وانما الذي يكون موقع التزاحم هو خصوص القدرة التي هي من شرائط حسن الخطاب ،
    نعم : قد يتفق التزاحم في غير باب القدرة ، كما في بعض فروع الزكاة مثل ما إذا كان مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ، ثم ملك واحدة أخرى ، فمقتضى القاعدة الأولية هو انه عند انقضاء حول الخمس والعشرين يؤدى خمس شياه ( لكل خمس شاة ) وبعد انقضاء ستة أشهر الذي به يتم حول الستة والعشرين يؤدى ( بنت لبون ) زكاة الست والعشرين ، فيلزمه في كل ستة أشهر زكاة. ولكن بعد ما قام الدليل على أنه لا يزكى المال في عام مرتين ، يقع التزاحم بين حول النصاب الخمس والعشرين والست والعشرين ولا بد من سقوط ستة أشهر من حول أحدهما ، ولعله يتفق التزاحم في غير هذا المورد ، الا ان الغالب في باب التزاحم هو التزاحم في القدرة.
    وعلى كل حال ، فقد ظهر لك الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض ، و ان بينهما بونا بعيدا ، بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر ، فلا محل بعد ذلك لان يقال : ان الأصل في الدليلين المتنافيين هو التزاحم ، أو التعارض ، إذ لم يكن مورد


(320)
يصلح لكل منهما حتى يبحث عما هو الأصل عند الشك.
    ومن جميع ما ذكرنا ظهر أيضا ضعف ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين ، والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من باب التزاحم لوجود المقتضى لكل منهما ، وليسا من باب التعارض. وذلك لان مجرد تزاحم المقتضيين لا يصحح الاندراج في باب التزاحم المقابل لباب التعارض ، والا لكان جميع موارد التعارض من باب التزاحم ، لكاشفية كل دليل عن ثبوت المقتضى لمؤداه ، فيلزم ان يكون جميع موارد تعارض الدليلين من تزاحم المقتضيين.
    فالعبرة في التزاحم انما يكون بتزاحم الحكمين في مقام الفعلية لا تزاحم المقتضيين ، والا فقد يتزاحم المقتضيان ثبوتا في نفس الامر ولا محالة يقع الكسر و الانكسار بينهما ، فينشأ الحكم على طبق أحدهما ان ترجح في نظره أحد المقتضيين ، و الا فعلى كل منهما تخييرا. وليس ذلك من تزاحم الحكمين ، ولذا يعتبر في باب التزاحم ان يكون المكلف عالما بالحكم واصلا إليه ، لان الحكم الذي لم يصل إلى المكلف لا يمكن ان يكون مزاحما لغيره ، لان المزاحمة انما تنشأ من شاغلية كل من الحكمين عن الآخر واقتضاء صرف القدرة إليه ، والحكم الغير الواصل لايكون شاغلا لنفسه ، فكيف يكون شاغلا عن غيره ؟ فالتزاحم لايكون الا بعد العلم و الوصول. وهذا لا ربط له بتزاحم المقتضيين ، لان تزاحم المقتضيين انما يكون في عالم الثبوت ونفس الامر من دون دخل لعلم المكلف وجهله ، فارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين مما لا يستقيم ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء الله تعالى في مبحث اجتماع الأمر والنهي.
المقام الثاني
    في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة :
    الأول : تضاد المتعلقين ، بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد ، بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الغريقين ، والإزالة والصلاة ، وأمثال ذلك مما اجتمع المتعلقان في زمان واحد.


(321)
    الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في أحدهما فقط. والفرق بين هذا وسابقه : هو ان عدم القدرة في هذا الوجه ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفي سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف في حد ذاته عاجزا لولا اتحاد الزمان.
    الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي ، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.
    الرابع : اتحاد المتعلقين وجودا ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز ، وسيأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي انشاء الله تعالى توضيح هذا الوجه والفرق بينه وبين الاتحاد المصداقي ، كالعالم الفاسق ، وان الثاني ليس من باب التزاحم.
    الخامس : صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الاخر ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه. وليعلم ان هذه الأمور انما تكون من باب التزاحم إذا كان وقوعها اتفاقيا لا دائميا ، بحيث اتفق تضاد المتعلقين واجتماعهما في الزمان ، أو اتفق عدم قدرة المكلف على جمعهما ، أو اتفق تلازم المتعلقين ، أو اتحادهما ، أو مقدمية أحدهما للاخر.
    وأما إذا كان التضاد أو التلازم أو الاتحاد أو غير ذلك من الأمور المذكورة دائميا ، فيخرج عن باب التزاحم ويندرج في باب التعارض ، على ما تقدم من الضابط بين البابين ، فان دائمية ذلك توجب امتناع جعل الحكمين وتشريعهما ثبوتا ، كما لا يخفى. وليعلم أيضا ان التزاحم انما يتحقق بعد البناء على كون الاحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقية. واما لو قلنا بجعلها على نهج القضايا الخارجية فالتزاحم غير معقول ، بل جميع ذلك يكون من التعارض ، لأنه يرجع إلى امتناع الجعل أيضا كما لا يخفى وجهه.
المقام الثالث
    في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور :


(322)
    ( الامر الأول )
    ترجيح ما لا بدل له ، على ما له البدل عرضا ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له ، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني ، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي ، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فان الواجب المضيق يقتضى صرف القدرة له في زمانه ، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان ، لأن المفروض انه موسع ، فلا معنى لمزاحمته للمضيق ، وذلك واضح.
    ( الامر الثاني )
    من المرجحات ، ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، والمراد من القدرة الشرعية هي ما إذا اخذت في لسان الدليل ، كما في الحج وأمثاله مما قيد المتعلق بالقدرة في نفس الخطاب. والسر في ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، هو ان الغير المشروط بها يصلح لان يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، حيث إن وجوبه لم يكن مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية ، والمفروض انها حاصلة فلا مانع من وجوبه ، ومع وجوبه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية عن تحت سلطانه وقدرته شرعا ، للزوم صرف قدرته في ذلك ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب ، لانتفاء شرط وجوبه ، وهو القدرة.
    والحاصل : ان ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية يصلح ان يكون معجزا مولويا عما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان وجوبه لا يتوقف على أزيد من القدرة العقلية الحاصلة بالفرض ، ومع التعجيز المولوي لم يتحقق شرط وجوب الواجب الاخر ، وهذا من غير فرق بين فعلية وجوب ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية لمكان تحقق شرائط وجوبه ، وبين ما إذا كان مشروطا بشرط لم يتحقق بعد ، غايته ان المزاحم لما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية نفس وجوب الواجب الغير المشروط بها على الأول ، أي إذا كان وجوب الغير فعليا قد تحقق زمان امتثاله. وعلى الثاني يكون المزاحم هو الخطاب الطريقي العقلي وهو خطاب احفظ قدرتك.
    وبعبارة أخرى : المزاحم هو عدم جواز تفويت القدرة ، فان وجوب حفظ


(323)
القدرة وعدم جواز تفويتها لا يتوقف على فعلية وجوب ما يجب حفظ القدرة له ، على ما تقدم تفصيله في المقدمات المفوتة. وكذا لافرق بين ان يكون الغير المشروط بالقدرة الشرعية أهم مما يكون مشروطا بها ، أو مساويا له ، أو أضعف منه ، لأنه على جميع التقادير يكون معجزا مولويا ، اما بنفسه ، واما بخطاب لزوم حفظ القدرة له ، فأي واجب فرض يكون مقدما على الحج مثلا عند المزاحمة ، سواء كان أهم من الحج أو أضعف ، وسواء كان وجوبه فعليا ، أو مشروطا بشرط يتحقق بعد ذلك. كل ذلك لمكان عدم اشتراط ذلك الواجب بالقدرة الشرعية.
    ثم إن في المقام اشكالا ربما يختلج في البال ، وحاصله : انه لا طريق لنا إلى معرفة تقييد المتعلق بالقدرة شرعا وعدم تقييده ، لأنه في غير المقام لو شك في التقييد وعدمه فالاطلاق يدفعه ، واما في المقام فلا سبيل إلى دفع احتمال التقييد باطلاق الخطاب.
    اما أولا : فلما عرفت من أن كل خطاب بنفسه يقتضى القدرة على متعلقه ، لان حقيقة الخطاب ليس الا ترجيح أحد طرفي المقدور ، فاعتبار القدرة على المتعلق و تقييده بها انما يكون من مقتضيات نفس الخطاب ، بناء على ما هو الحق عندنا من أن المدرك في اعتبار القدرة انما هو اقتضاء الخطاب ذلك ، لا مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وعليه بنينا فساد مقالة المحقق الكركي من صحة اتيان الفرد الواجب الموسع المزاحم للمضيق امتثالا للامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا فيجزى عقلا. ومع اقتضاء كل امر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك باطلاق الامر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة ، حتى يقال : ان القدرة المعتبرة فيه عقلية لا شرعية ، فيقدم على ما قيد بالقدرة الشرعية عند المزاحمة ، بل نتيجة اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقة هو ان القدرة في جميع التكاليف تكون شرعية ، وليس لنا ما يكون القدرة المعتبرة فيه عقلية محضة ليترتب عليها ما يترتب.
    واما ثانيا : فلانه هب ان اقتضاء الخطاب ذلك لا يوجب تقييد المتعلق شرعا بالقدرة ، الا انه لا أقل من أن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من التمسك بالاطلاق ، لأنه لا اشكال في صلاحية اقتضاء الخطاب


(324)
لان يكون مقيدا شرعا ، وكفاية اكتفاء الشارع بذلك عن التصريح بتقييد المتعلق بالقدرة ، ومع هذه الصلاحية كيف يجوز التمسك باطلاق المتعلق على عدم اخذ القدرة قيدا له ؟.
    واما ثالثا : فلان التمسك بالاطلاق في رفع ما شك في قيديته في سائر المقامات انما هو لأجل مقدمات الحكمة ، التي منها لزوم نقض الغرض ، وايقاع المكلف في خلاف الواقع ، لو كان المشكوك في الواقع قيدا ، فمن عدم بيانه نستفيد انه لم يكن في الواقع قيدا. وهذا البيان في المقام لا يتمشى لان المتعلق لو كان في الواقع مقيدا بالقدرة وكانت القدرة لها دخل في ملاكه لم يلزم من اهمال ذكر القدرة نقض الغرض ولا ايقاع المكلف في خلاف الواقع لأنه لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع. فلا مجال ح للتمسك بالاطلاق لعدم قيدية القدرة.
    وهذا الاشكال يرد على كلا المسلكين في كيفية اعتبار القدرة ، من كونها من مقتضيات الخطاب كما هو الحق عندنا ، أو كونها من باب حكم العقل بقبح مطالبة العاجز ، لان مقدمات الحكمة لا تجرى على كل تقدير.
    ولا يخفى عليك : ان هذا الاشكال يوجب هدم أساس ما قلناه من صحة الضد إذا كان عبادة بالملاك كما عليه بعض الاعلام ، أو بالامر الترتبي كما هو الحق عندنا ، لأنه لا طريق لنا إلى استكشاف الملاك واشتمال الصلاة مثلا على المصلحة الا من ناحية اطلاق الامر وعدم تقييد المتعلق بالقدرة ، فلو لم يكن للامر اطلاق كما حرر في وجه الاشكال ، فمن أين يمكن استفادة الملاك في صورة سقوط الامر للمزاحمة ؟ حتى نقول ان سقوط الامر لا يوجب سقوط الملاك فتصح العبادة به أو بالامر الترتبي.
    وبالجملة : بعد تقييد المتعلق بالقدرة ، أو احتمال تقييده ـ على اختلاف وجوه تقرير الاشكال ، حيث إن على بعض وجوهه يوجب التقييد ، كما هو مقتضى الوجه الأول ، وعلى بعض وجوهه يحتمل التقييد كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين ـ لا يمكن دعوى بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.
    ولعله لأجل ذلك حكى عن صاحب الجواهر : المنع عن ثبوت الملاك ، بعد


(325)
المنع عن كفايته في صحة العبادة واحتياج العبادة إلى الامر. فعلى كل من قال بصحة العبادة بالملاك أو بالامر الترتبي دفع هذا الاشكال. كما أنه يتوقف على دفعه دعوى ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها عند المزاحمة ، لان مقتضى الاشكال هو ان جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، فليس هناك واجب لم يكن مشروطا بها حتى يقدم على ما يكون مشروطا بها ، هذا.
    والذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال على الوجه الأخير من وجوه تقريره : هو انه ليس من مقدمات الحكمة لزوم ايقاع المكلف في خلاف الواقع ، حتى يقال في المقام انه لا يلزم ذلك ، بل الذي نحتاج إليه في مقدمات الحكمة هو كون المتكلم في مقام بيان مراده ، وحيث لم يبين القيد فلا بد ان يكون مراده الاطلاق.
    والحاصل : انه يكفي في صحة التمسك بالاطلاق مجرد عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد بيان مراده. ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى توسيط لزوم وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، مع أنه في المقام أيضا يلزم ذلك لو كانت القدرة المعتبرة قيدا في المتعلق ، لوضوح ان المراد من القدرة الأعم من القدرة العقلية المقابلة للعجز العقلي ، أو القدرة الشرعية المقابلة للعجز الشرعي ، فلو كان المتعلق مقيدا ثبوتا بالقدرة عليه وعدم العجز عنه ومع ذلك لم يبينه في لسان الدليل واخل ببيان ذلك يلزم أحيانا وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، لأنه ربما يتخيل المكلف انه قادر على ايجاد المتعلق شرعا فيأتي به ، مع أنه عاجز عنه شرعا ، فيلزم وقوعه في خلاف الواقع من جهة عدم تقييد المولى المتعلق بالقدرة ، فإنه لو قيده بذلك لم يلزم ذلك. مثلا لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها وعدم العجز عنها ولو شرعا ، بان اعتبر فيها عدم العجز الشرعي عنها ، ومع ذلك أخل ببيان ذلك في لسان الدليل ، فقد يكون الشخص عاجزا عن الصلاة شرعا لمكان مزاحمتها بالأهم ، ومع هذا يغره اطلاق الامر بالصلاة وعدم تقييدها بالقدرة عليها فيأتي بها ، مع أنه لو لم يخل ببيان التقييد لم يأت بها ، فالاتيان بها وايقاع الشخص في مخالفة الواقع انما جاء من قبل الاطلاق.
    فدعوى : ان اعتبار القدرة في المتعلق لا يضر بايراد الكلام مطلقا ولا قبح في


(326)
الاخلال ببيانه لأنه لا يلزم منه مخالفة الواقع ، فاسدة جدا. فالانصاف انه لو كان المدرك في اعتبار القدرة في التكاليف مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز و أغمضنا عن أن ذلك من مقتضيات نفس الخطاب ، لكان التمسك بالاطلاق في رفع احتمال قيدية القدرة ودخلها في الملاك في محله. فالتقرير الثالث من وجوه تقرير الاشكال ساقط.
    نعم : يبقى التقرير الأول والثاني منه ، وقد عرفت ان هذين التقريرين انما يردان بناء على المختار : من أن اعتبار القدرة ليس لمجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل لمكان اقتضاء الخطاب ذلك.
    والتحقيق في حل الاشكال بناء على المختار هو ان هذا الاقتضاء الآتي من قبل الخطاب لا يمكن ان يكون مقيدا للمتعلق وغير صالح لذلك ، وتوضيح ذلك : هو ان للاطلاق جهتين : جهة اثباته للمراد ، وجهة كشفه عن قيام الملاك بالمتعلق.
    والمحرز للجهة الأولى هو مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم ذكر القيد ، فلا بد ان يكون مراده الاطلاق. وهذه المقدمات وحدها لا تنفع في احراز الجهة الثانية ، لأنه لا يمكن اثبات كون المتكلم في مقام بيان ما قام به الملاك ومتى كان المتكلم في مقام بيان ذلك بل يحتاج في اثبات قيام الملاك بالمتعلق إلى مقدمة أخرى وهي : ما ذهب إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد الكامنة في مسألة المتعلقات ، ولولا هذه المقدمة لم يكن لنا طريق إلى قيام الملاك بالمتعلق ، فاطلاق الامر بضميمة تلك المقدمة يكون كاشفا عن قيام الملاك بذات المتعلق والمادة ، فلا بد ان يكون ذات المتعلق مما قام به الملاك ثبوتا ، ليتطابق عالم الاثبات وعالم الثبوت ، والكاشف والمنكشف ، فالاطلاق يكشف عن قيام الملاك بما يرد عليه الهيئة ، والذي يرد عليه الهيئة هو نفس المتعلق بلا قيد وان كان بورود الهيئة يتقيد ، فالتقييد الآتي من قبل الهيئة لا ينافي اطلاق ما يرد عليه الهيئة.
    والذي ينفعنا في المقام في استكشاف الملاك وعدم قيدية القدرة هو الثاني ، والمفروض ان الكلام فيما إذا كان ما يرد عليه الهيئة مط غير مقيد بالقدرة ، و ان كان يتقيد بورود الهيئة. فيصح التمسك بالاطلاق في قيام الملاك بالمتعلق وعدم


(327)
تقييده بالقدرة ، فتكون القدرة المعتبرة في مثل هذا عقلية لا شرعية ، وينحصر القدرة الشرعية بما إذا قيد المتعلق بالقدرة ، كما في مثال الحج. فارتفع الاشكال بحذافيره ، فتأمل في المقام جيدا.
    إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من مرجحات باب التزاحم. وقد ظهر لك : ان المرجح الثاني ما كان أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة الشرعية فإنه يقدم على ما كان مشروطا بها.
    ( المرجح الثالث )
    ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له البدل شرعا ، كما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له ، فإنه يقدم ما لا بدل له على ما له البدل. والسر في ذلك واضح ، لان كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة والتمكن ، لأنه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وعدم التمكن منه ، ولازم ذلك هو تقييد ذلك الواجب بصورة التمكن والقدرة ، سواء وقع التصريح بذلك في لسان الدليل ـ كما في قوله تعالى : فان لم تجدوا ماء فتيمموا ، حيث إنه قيد التيمم بصورة عدم وجدان الماء فيستفاد منه تقييد الوضوء بصورة وجدان الماء والتمكن منه ـ أو لم يقع التصريح بذلك في لسان الدليل.
    وبالجملة : نفس جعل البدلية الطولية يقتضى التقييد بالقدرة ، فتكون النسبة بين هذا المرجح والمرجح السابق العموم المطلق ، لان كل ماله البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، وليس كل ما يكون مقيدا بالقدرة الشرعية له البدل ، كما هو واضح.
    فالوضوء إذا زاحم واجبا آخر من واجبات الصلاة يسقط وينتقل التكليف إلى التيمم ، من غير فرق في ذلك بين الوقت وغيره ، فلو دار الامر بين الوضوء وادراك ركعة أو أزيد من الوقت وبين التيمم وادراك جميع الوقت ، قدم الوقت وتيمم ليدرك جميع الوقت.
    واما توهم ان الوقت أيضا مما ثبت له البدل ، حيث إن الظاهر من


(328)
قوله : (1) من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا ، هو بدلية الركعة من الوقت عن جمع الوقت ، فيكون الوقت أيضا مقيدا بالقدرة كتقييد الوضوء بها ، فلا وجه لتقديمه على الوضوء عند المزاحمة ، بل لا بد اما من التخيير ، واما من ملاحظة الأهمية على الوجهين الآتيين في تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة الشرعية ـ ولعله لذلك حكى عن بعض الاعلام تقديم الوضوء عند مزاحمته للوقت ـ فهو في غاية الفساد ، لوضوح ان الوقت غير مقيد بالقدرة من أول الامر كتقييد الوضوء بها كذلك ، بل بعد فرض تحقق العجز عن المكلف وعدم تمكنه من الوقت واداركه له ، جعل الشارع ادراك الركعة من الوقت بمنزلة ادراك جميع الوقت.
    والحاصل : انه فرق بين تقييد الشيء من أول الامر بالقدرة اما بلا واسطة واما بواسطة جعل البدلية ، وبين جعل شيء بدلا عن شيء بعد فرض تحقق العجز خارجا وعدم تمكن المكلف منه كذلك ، أي بعد فرض عدم التمكن خارجا ، فان الثاني لا يقتضى التقييد بالقدرة شرعا ، بل أقصاه جعل البدلية بعد فرض العجز عن القدرة العقلية. ومسألة من أدرك ركعة من الوقت فقد الخ يكون من هذا القبيل ، فتأمل جيدا.
    وعلى كل حال ، قد ظهر : ان المرجح الثالث من مرجحات باب التزاحم هو ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له الدبل. وفي هذه المرجحات الثلاثة لا يلاحظ مسألة الأهمية والمهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني. فيقدم ما لا بدل له أو ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، على ماله البدل أو المشروط بالقدرة الشرعية وان تأخر زمان امتثاله أو زمان خطابه ، إذا فرض تمامية ملاكه ، كالصلاة قبل الوقت ، حيث تقدم منا في الواجب المعلق : انه يستفاد من وجوب حفظ الماء قبل الوقت تمامية ملاك الصلاة قبله ، وان الوقت شرط للخطاب بالصلاة لا لملاكها.
    وحينئذ لو فرض قبل الوقت انه توجه عليه تكليف له بدل أو مشروط بالقدرة الشرعية وكان الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الصلاة في وقتها ،
1 ـ لم نجد حديثا بهذه العبارة ، ولعله مصطاد من روايات الباب ، راجع الوسائل باب 30 من أبواب المواقيت والمستدرك باب 24 منه.

(329)
فمقتضى القاعدة ترك الاشتغال بذلك الواجب ووجوب حفظ قدرته للصلاة في وقتها كما تقدم. نعم لو فرض عدم ثبوت الملاك للصلاة قبل وقتها وكان ملاكها كخطابها مشروطا بالوقت ، كان اللازم الاشتغال بذلك الواجب الذي له بدل أو المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا مزاحم له فعلا ، بل في الحقيقة هذا خارج عما نحن فيه ، فتأمل. (1).
    فتحصل : انه في هذه المرجحات الثلاث لا يلاحظ الأهمية ، ولا السبق و اللحوق الزماني ، نعم : لو فرض تساوى المتزاحمين من هذه المرجحات ، بان كان كل من المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو كان كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فتصل النوبة ح إلى الترجيح بالأهمية والمهمية ، والسبق واللحوق.
    وتفصيل ذلك : هو ان لو تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات الثلاثة المتقدمة ، فاما ان يكون الواجبان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية. فان كان الأول ، فلا يخلو اما ان يتقدم زمان امتثال أحدهما أو لا يتقدم ، فان تقدم زمان امتثال أحدهما فهو المتقدم ، وفي مثل هذا لا يلاحظ أهمية المتأخر وعدم أهميته ، لأن المفروض انه ليس هناك الا ملاك واحد ، حيث إنه لا يمكنه الجمع بينهما ، وكانت القدرة في كل منها معتبرة في الملاك ، ومع عدم القدرة على كل منهما لا يتحقق الملاك في كل منهما ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا موقع لملاحظة الأهمية والمهمية ، فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين ، فلا محيص من ترجيح المتقدم زمان امتثاله ، لقدرته عليه فعلا وعدم ما يوجب سلب قدرته عنه شرعا. فلو فرض انه نذر صوم يوم الخميس ، وصوم يوم الجمعة ، وبعد ذلك عرض له ما يمنعه من الجمع بين صوم اليومين ، ودار امره بين صوم أحدهما وترك الآخر ، كان مقتضى القاعدة تقديم صوم يوم الخميس وترك صوم يوم الجمعة ، لتقدم زمان امتثال الأول وعدم مانع شرعي عنه ، لاعتبار القدرة
1 ـ وجهه : هو انه يمكن ان يقال بلزوم حفظ القدرة في هذا الفرض أيضا ، للعلم بتحقق الملاك التام بعد ذلك ، فيكون اشتغاله بذلك الواجب موجبا لتفويت الملاك في موطنه ، فتأمل ـ منه.

(330)
الشرعية في كل منهما ، حيث إن خطاب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية ، لان دليل الوفاء بالنذر تابع لما التزم به المكلف على نفسه ، وما التزم به المكلف على نفسه هو الفعل المقدور ، فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا ، فتأمل جيدا.
    وبعد ما ظهر ان النذر مشروط بالقدرة الشرعية ، ففي الفرع المتقدم ـ من تزاحم الواجبين المشروط كل منها بالقدرة الشرعية مع تقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ـ فقد عرفت ان المتقدم زمان امتثاله هو المتقدم ، وكذا إذا فرض اتحاد زمان امتثالهما ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما ، كما إذا وجب عليه فعل شيء معين في وقت خاص مشروط بالقدرة الشرعية ، وصادف توجه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت ، فإنه يقدم الأول لمكان سبق خطابه ، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت ، فلم يبق موقع للواجب الآخر ، الا إذا كان السابق مشتملا على خصوصية توجب تأخره وتعين امتثال اللاحق خطابه ، كما في النذر و شبهه ، حيث إنه يعتبر فيه ان لايكون موجبا لتحليل حرام أو تحريم حلال ، سواء كان نفس متعلقه حراما ، كما إذا نذر ما يحرم فعله لولا النذر ، أو كان ملازما لذلك (1) كما إذا نذر ما يوجب تفويت واجب لولا النذر. كما لو نذر زيارة الحسين عليه السلام يوم عرفة قبل أشهر الحج ، ثم حصلت له الاستطاعة في أشهر الحج ، فان مقتضى القاعدة انحلال النذر وتعين الحج عليه ، وان تقدم خطاب الوفاء بالنذر وكان كل من النذر والحج مشروطا بالقدرة الشرعية.
    والسر في ذلك : هو ان النذر في المقام يوجب تفويت الحج الواجب لولا النذر ، وتفويت الواجب كذلك يوجب انحلال النذر ، والمفروض ان الحج لولا
1 ـ ولا يخفى عليك ان الظاهر من تحليل الحرام هو ان يكون نفس المتعلق موجبا لذلك ، بان نذر ما هو حرام أو نذر ترك واجب ، لا ما إذا استلزم ذلك كما في المقام ، فتأمل. منه
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس