فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 511 ـ 525
(511)
المقصد الرابع : في العام والخاص
    وفيه مباحث. وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :
    الامر الأول :
    العموم هو الشمول وسريان المفهوم لجميع ما يصلح الانطباق عليه. وهذا الشمول والسريان قد يكون مدلولا لفظيا ، وقد يكون بمقدمات الحكمة. والمقصود بالبحث في المقام هو الأول ، لان المتكفل للبحث عن الثاني هو مبحث المطلق والمقيد. ولا فرق بين هذين القسمين من الشمول سوى انه عند التعارض يقدم الشمول اللفظي على الشمول الاطلاقي ، لان الشمول اللفظي يصلح ان يكون بيانا للمطلق الذي علق الحكم فيه على الطبيعة ، فلا تجرى فيه مقدمات الحكمة. و سيجيئ توضيحه في بعض المباحث الآتية. والغرض في المقام : هو بيان ان البحث انما هو في الشمول الذي يكون مدلولا لفظيا ، المعبر عنه بالعام الأصولي ، في مقابل الاطلاق الشمولي ، كلفظة ( كل ) وما رادفها ، من أي لغة كان ، حيث إن الشمول في مثل ذلك مدلول للفظ بحسب الوضع. وبعد ما عرفت : من أن معنى العموم هو الشمول اللفظي ، فلا حاجة إلى اتعاب النفس وتعريف العموم بما لا يسلم عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس ، فان مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى التعريف.
    الامر الثاني :
    قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ونزيده في المقام وضوحا ، لابتناء كثير من المباحث الآتية على ذلك.
    فنقول : القضية الحقيقية ، هي ما كان الحكم فيها واردا على العنوان


(512)
والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج ، بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع لها. وبذلك تمتاز القضية الحقيقية عن القضية الطبيعية ، حيث إن الحكم في القضية الطبيعية وارد على نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخارجي ، بل بلحاظ تقررها العقلي ، كما في قولك : الانسان نوع ، أو كلي ، وغير ذلك من القضايا الطبيعية. وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فان الحكم فيها و ان رتب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقررها العقلي ، بل بلحاظ تقررها الخارجي ، وهو معنى لحاظ العنوان مرآة لما في الخارج.
    ومما ذكرنا ظهر : المايز بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية أيضا ، فان الحكم في القضية الحقيقية كما عرفت مترتب على الخارج بتوسط العنوان ، واما في القضية الخارجية فالحكم فيها ابتداء مترتب على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فان الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضا انما يكون مترتبا على الافراد الخارجية ابتداء ، من دون ان يكون هناك بين الافراد جامع اقتضى ترتب الحكم عليها بذلك الجامع ، كما في القضية الحقيقية. ولو فرض ان هناك جامعا بين الافراد الخارجية فإنما هو جامع اتفاقي ، كما في قولك : كل من في العسكر قتل ، وكل ما في الدار نهب ، فان قولك : كل من في العسكر قتل ، بمنزلة قولك : زيد قتل ، عمرو قتل ، وبكر قتل ، وليس بين قتل زيد وعمرو وبكر جامع عنواني اقتضى ذلك الجامع قتل هؤلاء ، بل اتفق ان كلا من زيد وعمرو و بكر كان في المعركة ، واتفق انهم قتلوا ، وأين هذا من القضية الحقيقية التي يكون فيها جامع بين الافراد ؟ بحيث متى تحقق ذلك الجامع ترتب الحكم ، سواء في ذلك الافراد الموجودة والتي توجد بعد ذلك. ولأجل ذلك تقع القضية الحقيقية كبرى لقياس الاستنتاج ، وتكون النتيجة ثبوتا واثباتا موقوفة على تلك الكبرى ، بحيث يتوصل بتلك الكبرى بعد ضم الصغرى إليها إلى امر مجهول يسمى بالنتيجة ، كما يقال : هذا خمر وكل خمر يحرم ، فان حرمة هذا الخمر انما يكون ثبوتا موقوفا على حرمة كل خمر ، كما أن العلم بحرمة هذا الخمر يكون موقوفا على العلم بحرمة كل خمر ، فالعلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، اما العلم بكلية الكبرى فلا يتوقف


(513)
على العلم بالنتيجة ، بل العلم بكلية الكبرى يكون موقوفا على مباد اخر : من عقل ، أو كتاب ، أو سنة.
    وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فإنها لا تقع كبرى القياس بحيث تكون النتيجة موقوفة عليها ثبوتا ، وان كان قد يتوقف عليها اثباتا ، كما يقال للجاهل بقتل زيد : زيد في العسكر ، وكل من في العسكر قتل ، فزيد قتل ، فان العلم بقتل زيد وان كان يتوقف على العلم بقتل كل من في العسكر الا انه لا يتوقف على ذلك ثبوتا ، إذ ليس مقتولية كل من في العسكر علة لمقتولية زيد ، بل علة مقتولية زيد هو امر آخر بملاك يخصه ، فالقضية الكلية الخارجية ليست كبرى لقياس الاستنتاج بحيث تكون كليتها علة لتحقق النتيجة.
    ومما ذكرنا ظهر : اندفاع الدور الوارد على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج ، فان منشأ توهم الدور ليس الا تخيل توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة ، مع أن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والحال انه قد عرفت ان العلم بكلية الكبرى في القضايا الحقيقية لا يتوقف على العلم بالنتيجة ، بل يتوقف على مباد أخر : من عقل أو كتاب ، أو سنة ، أو اجماع.
    والقضايا المعتبرة في العلوم انما هي القضايا الحقيقية ، ولا عبرة بالقضايا الخارجية ، لان القضية الخارجية وان كانت بصورة الكلية ، الا انها عبارة عن قضايا جزئية لا يجمعها عنوان كلي ، كما عرفت. فالقياس الذي يتألف من كبرى كلية على نهج القضية الحقيقية لايكون مستلزما للدور ، لما تقدم من أن النتيجة ثبوتا و اثباتا تتوقف على كلية الكبرى ، ولا عكس. والقياس الذي يتألف من قضية خارجية أيضا لا يستلزم الدور ، فان النتيجة ثبوتا لا يتوقف على الكبرى ، بل ثبوت النتيجة له مبادئ أخر لا ربط لها بالكبرى ، على عكس نتيجة القضية الحقيقية.
    وكان من توهم الدور في الشكل الأول قد خلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والحال انه قد عرفت انه لا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى. وقد وقع الخلط في عدة موارد بين القضيتين ، قد أشرنا إلى جملة منها في الشرط المتأخر ، وسيأتي جملة منها في محله أيضا.


(514)
    ثم إن العموم والكلية كما تكون على نهج القضية الحقيقية وعلى نهج القضية الخارجية ، كذلك التخصيص تارة : يكون تخصيصا أنواعيا ، وأخرى : يكون تخصيصا افراديا ، سواء كان التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل. والتخصيص الانواعي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الحقيقية ، كما أن التخصيص الافرادي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الخارجية ، بل القضية الخارجية لا تصلح الا للتخصيص الافرادي ، لما عرفت : من أن القضية الخارجية ما ورد الحكم فيها على الافراد ، فالتخصيص فيها انما يكون تخصيصا أفراديا ، ولو فرض ان المخصص سيق بصورة الأنواعي ، كما لو قال : كل من في العسكر قتل الا من كان في الجانب الشرقي ، فالمراد به أيضا الافرادي ، فهو بمنزلة قوله : الا زيد وعمرو وبكر ، كما أن أصل القضية كانت بهذا الوجه.
    نعم : القضية الحقيقية تصلح لان يرد عليها المخصص الافرادي ، كما تصلح لان يرد عليها المخصص الأنواعي. ولا اشكال في أن التخصيص الأنواعي انما يهدم اطلاق مصب العموم ومدخوله ، واما التخصيص الافرادي فهو كذلك ، أي يرد على مصب العموم ، أو انه يرد على نفس العموم ويوجب هدمه ، ويكون التصرف في ( كل ) لا في ( العالم ) في قولك : أكرم كل عالم. والنتيجة وان كانت واحدة الا ان الصناعة اللفظية تختلف. وعلى كل حال : لما كانت الأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية ، كان التخصيص الوارد في الأحكام الشرعية كلها من التخصيصات الأنواعية ، الا ما كان من قبيل خصائص النبي صلى الله عليه وآله.
    الامر الثالث :
    قسموا العموم إلى : عموم استغراقي ، وعموم مجموعي ، وعموم بدلي الذي هو بمعنى أي. وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أن العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافى الشمول لا تخلو عن مسامحة. وعلى كل تقدير : العموم بمعنى الشمول ليس الا الاستغراقي والمجموعي ، وتقسيم العموم إلى هذين القسمين ليس باعتبار معناه الافرادي بحيث يكون التقسيم إلى ذلك باعتبار وضع العموم بمعناه الافرادي ، بل التقسيم إلى ذلك انما يكون باعتبار الحكم ، حيث إن الغرض من الحكم تارة : تكون


(515)
على وجه يكون لاجتماع الافراد دخل ، بحيث تكون مجموع الافراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة باكرام جميع افراد العلماء ، في مثل قوله : أكرم كل عالم ، و عصيانه يكون بعدم اكرام فرد واحد. وأخرى : يكون الغرض على وجه يكون كل فرد فرد من العالم موضوعا مستقلا ، وتتعدد الإطاعة والعصيان حسب تعدد الافراد ، وذلك أيضا واضح ، لان العموم بمعناه الافرادي بحسب الوضع ليس الا الشمول ، فالتقسيم إلى المجموعية والاستغراقية انما هو باعتبار ورود الحكم على العموم.
    ثم انه ان كان هناك قرينة على أن المراد هو الاستغراقي أو المجموعي فهو ، والا فالأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية ، لان المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعا واحدا. وهذا من غير فرق بين اقسام العموم ، سواء كان العموم مدلولا اسميا للأداة ، ككل وما شابها ، أو عرفيا ، كالجمع المحلى باللام ، بناء على أن العموم وتعيين أقصى مراتب العلماء في قوله : أكرم العلماء ، انما هو لإفادة الألف واللام ذلك ، حيث لايكون هناك عهد ـ ويلحق بذلك الأسماء التي تتضمن المعنى الحرفي ، كأسماء الاستفهام والشرط ـ أو سياقيا كالنكرة الواقعة في سياق النفي بلاء النافية للجنس ، فان العموم في جميع هذه الأقسام انما يكون على نحو العموم الاستغراقي الانحلالي ، ولا يحمل على المجموعي الا إذا قامت قرينة على ذلك ، والسر في ذلك واضح.
    اما في مثل ـ أكرم كل عالم ـ مما كان العموم فيه معنى اسميا ، فان مفاد ( كل ) انما هو استيعاب ما ينطبق عليه مدخولها ، والمدخول ينطبق على كل فرد فرد من افراد العالم ، فهي تدل على استيعاب كل فرد فرد من افراد العالم ، وهو معنى الاستيعاب الانحلالي.
    واما العموم السياقي فكذلك ، فان العموم انما يستفاد من ورود النفي أو النهى على الطبيعة وهو يقتضى انتفاء كل ما يصدق عليه الطبيعة وتنطبق عليه ، وكل فرد فرد من افراد الجنس مما تنطبق عليه الطبيعة ، فيقتضى انتفاء كل فرد فرد ، وهو معنى الاستغراق.
    واما العموم المستفاد من الجمع المحلى باللام وما يلحق به من الأسماء


(516)
المتضمنة للمعاني الحرفية ، فقد يتوهم ان ظاهره يقتضى المجموعي ، لان مدخول اللام هو الجميع ، فان مثل زيدون ، أو علماء ، لا ينطبق على كل فرد فرد ، بل ينطبق على كل جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق ، وغاية ما يستفاد من اللام ، هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب مع حفظ معنى الجمعية ، فاللام توجد معنى في المدخول كان فاقدا له ، وهو أقصى المراتب ، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية التي توجد معنى في الغير ، وذلك يقتضى العموم المجموعي ، لا الاستغراقي.
    وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله في دفع التوهم بما حاصله : ان أداة العموم من الألف واللام ان كان نفس الجمع ، بحيث كان ورود أداة العموم متأخرا عن ورود أداة الجمع : من الألف والتاء ، والواو والنون ، على المفرد لكان للتوهم المذكور مجال ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك ؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد انما يكون في مرتبة واحدة ، فالألف واللام تدل على استغراق افراد مدخولها ، وهو المفرد ، غايته انه لا مطلق المفرد حتى يقال : ان المفرد المحلى باللام لا يدل على العموم ، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم. والحاصل : ان مبنى الاشكال انما هو ورود أداة العموم على الجمع ، واما لو كانت أداة العموم واردة على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع ، فأداة العموم تدل على استغراق افراد ذلك المفرد ، ويكون حال الجمع المحلى باللام حال ( كل ) في الدلالة على استغراق الافراد على نحو الانحلال ، فتأمل. فان المقام يحتاج إلى بيان آخر.
    الامر الرابع :
    ذهب بعض إلى أن تخصيص العام يوجب المجازية مطلقا ، وبعض قال بذلك في خصوص المنفصل. وعليه رتبوا عدم حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، لاجماله بعد تعدد مراتب المجاز.
    والحق : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، كما أن تقييد المطلق لا يقتضى ذلك ، وان قال به من تقدم على سلطان المحققين (ره) وقد استقرت طريقة المحققين من المتأخرين على عدم اقتضاء التخصيص والتقييد للمجازية. اما تقييد المطلق : فسيأتي الكلام فيه في محله انشاء الله.


(517)
    واما تخصيص العام : فقد أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية ان العام لم يستعمل الا في العموم ، غايته ان العموم ليس بمراد بالإرادة الجدية النفس الامرية ، فالتخصيص انما يقتضى التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، والحقيقة المجاز انما تدور مدار الاستعمال ، لا مدار الإرادة الواقعية ، ففي مثل أكرم كل عالم لم تستعمل أداة العموم الا في الاستغراق واستيعاب جميع افراد العالم ، غايته انه لم تتعلق الإرادة الجدية باكرام جميع الافراد ، بل تعلقت الإرادة باكرام ما عدى الفاسق ، والمصلحة اقتضت عدم بيان المراد النفس الأمري متصلا بالكلام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ويكون العام قد سيق لضرب القاعدة ، ليكون عليه المعول قبل بيان المخصص والعثور عليه.
    وبذلك وجه الشيخ ( قده ) (1) في مبحث التعادل والتراجيح ، العمومات الواردة في لسان الأئمة السابقين عليهم السلام ، والمخصصات الواردة في لسان الأئمة اللاحقين عليهم السلام ، هذا.
    ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله لم يرتض هذا الوجه. وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه ، بحيث لايكون الشخص حال الاستعمال ملتفتا إلى الألفاظ ، بل هي مغفول عنها ، وانما تكون الألفاظ قنطرة ومرآة إلى المعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، فالمستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، والا كان هازلا. ودعوى : ان العام قد سيق لبيان ضرب القاعدة مما لا محصل لها ، فان أداة
1 ـ فرائد الأصول ، مبحث التعادل والتراجيح المقام الرابع المسألة الأولى ، ص 433.
    قال قدس سره :
    « فالأوجه هو الاحتمال الثالث ( كون المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا ) فكما ان رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج كما يظهر من الاخبار والآثار مع اشتراك الكل في الاحكام الواقعية ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز ان يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات وان كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك. »


(518)
العموم والمدخول انما سيقت لبيان الحكم النفس المري ، وليست القاعدة جزء مدلول الأداة ولا جزء مدلول المدخول.
    نعم : قد يعبر عن العام بالقاعدة ، الا ان المراد من القاعدة هي القاعدة العقلائية : من حجية الظهور ، وأصالة العموم. وقد تكون القاعدة مجعولة شرعية ، كاصالة الطهارة والحل ، وأمثال ذلك من الاحكام الظاهرية. وأين هذا من العام المسوق لبيان الحكم الواقعي ؟ والحاصل : ان تفكيك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا محصل له ، بل العام قبل ورود التخصيص عليه وبعده يكون على حد سواء في تعلق الإرادة به وان هناك إرادة واحدة متعلقة بمفاده ، فهذا الوجه ليس بشئ.
    بل التحقيق ، هو ان يقال : ان كل من أداة العموم ومدخولها لم يستعمل الا في معناه ، والتخصيص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل ، وسواء كان التخصيص أنواعيا أو أفراديا ، وسواء كانت القضية حقيقية أو خارجية ، لا يوجب المجازية ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.
    اما في الأداة : فلان الأداة لم توضع الا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول ، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول ، أو ضيقه. فلا فرق بين ان يقال : أكرم كل عالم ، وبين ان يقال : أكرم كل انسان ، فان لفظة ( كل ) في كلا المقامين انما تكون بمعنى واحد ، مع أن الثاني أوسع من الأول وذلك واضح.
    واما في المدخول : فلان المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية ، فالعالم مثلا لايكون معناه الا من انكشف لديه الشيء ، من دون دخل العدالة ، والفسق ، والنحو ، والمنطق فيه أصلا. فلو قيد العالم بالعادل أو النحوي أو غير ذلك من الخصوصيات والأنواع ، لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم ، لأنه لم يرد من العالم الا معناه ولم يستعمل في غير من انكشف لديه الشيء ، والخصوصية انما استفيدت من دال آخر. وعلى هذا لا يفرق الحال بين ان يكون القيد متصلا بالكلام ، أو منفصلا ، أو لم يذكر تقييد أصلا لا متصلا ولا منفصلا ، ولكن كان المراد من العالم هو العالم العادل مثلا ، فإنه في جميع ذلك لم يستعمل العالم الا في


(519)
معناه ، فمن أين تأتى المجازية ؟ وأي لفظ لم يستعمل في معناه ؟ حتى يتوهم المجازية فيه. وهذا في التخصيص الأنواعي واضح لا سترة فيه.
    نعم : في التخصيص الافرادي ربما يتوهم استلزامه المجازية ، سواء كان ذلك في القضية الحقيقية أو في القضية الخارجية ، من جهة ان التخصيص الافرادي لا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة كما في التخصيص الأنواعي ، من جهة ان المدخول كما تقدم لم يوضع الا للطبيعة ، فالتخصيص الافرادي انما يصادم نفس الأداة ، حيث إن الأداة موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، والتخصيص الافرادي يوجب عدم استيعاب الافراد ، فيلزم استعمال لفظ الأداة في خلاف ما وضع له. والذي يدل على وضع الأداة لاستيعاب افراد المدخول هو تقديم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، بعد اشتراكهما في الحاجة إلى مقدمات الحكمة لسريان الحكم إلى جميع الأنواع ، ولكن بالنسبة إلى افراد النوع الواحد يكون السريان مدلولا لفظيا في العام الأصولي ، وبحسب مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، فيكون زيد العالم الفاسق الذي تعارض فيه قوله : أكرم عالما ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، مندرجا تحت العام الأصولي بالدلالة اللفظية ، وتحت الاطلاق الشمولي بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح للبيان ، والدلالة اللفظية في العام الأصولي تصلح ان تكون بيانا ، فيحكم في المثال المتقدم بعدم وجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، فتأمل.
    وهذا لايكون الا من جهة ان لفظ ( كل ) يدل على استيعاب الافراد. فيكون التخصيص الافرادي مصادر ما لمفاد الأداة واستعمالا لها في خلاف ما وضعت له. هذا. ولكن الأقوى : ان التخصيص الافرادي أيضا لا يوجب المجازية. اما في القضية الحقيقية : فلان الافراد ليست مشمولة للفظ ابتداء ، بحيث يكون مثل أكرم كل عالم بمدلوله اللفظي يدل على اكرام زيد ، وعمرو ، وبكر ، وغير ذلك ، والا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس ، واستنتاج حكم الافراد من ضم الكبرى إلى الصغرى.
    والحاصل : ان كل فرد في القضية الحقيقية انما يعلم حكمه وبواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه ، فهذا يدل على أن اللفظ بنفسه ابتداء لا يدل على


(520)
حكم الافراد ، بل التخصيص الافرادي أيضا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة. والسر في تقدم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، ليس من جهة ان العام الأصولي بنفسه متكفل لحكم الافراد ابتداء ، بل التقدم من جهة ان القضية الشرطية التي تتكفلها القضية الحقيقة في الاطلاق الشمولي انما تكون بمقدمات الحكمة ، و في العام الأصولي انما تكون مفاد نفس اللفظ. مثلا في مثل أكرم العالم اللفظ لا يدل على أزيد من وجوب اكرام الطبيعة ، واما الشمول والاستيعاب ، بحيث كلما وجد في العالم عالم يجب اكرامه فإنما يستفاد من مقدمات الحكمة ، واما مفاد مثل أكرم كل عالم فهو بنفسه يدل على أنه كلما وجد في العالم عالم فأكرمه بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. فالفرق بين العام الأصولي والاطلاق الشمولي هو هذا ( فتأمل ) لا ان العام الأصولي ابتداء يدل على شمول الافراد ، حتى يكون التخصيص الافرادي موجبا لاستعمال أداة العموم في غير ما وضعت له ، بل التخصيص الافرادي كالأنواعي يرد على المصب ويضيق دائرته. هذا في القضية الحقيقية.
    واما التخصيص الافرادي في القضية الخارجية : فالتوهم المذكور وان كان فيها أمس من جهة ان القضية الخارجية ابتداء متكفلة لحكم الافراد ، بلا حاجة إلى تأليف القياس ثبوتا وان احتاج إليه في بعض الأحيان اثباتا ، كما تقدم ، الا انه مع ذك التخصيص الافرادي في القضية الخارجية لا يوجب المجازية أيضا ، للعلم بان استعمال أداة العموم ومدخولها في القضية الحقيقية الخارجية انما يكون بنهج واحد ، وليس للأداة في القضية الخارجية وضع واستعمال مغاير لوضع الأداة و استعمالها في القضية الحقيقية. وانقسام القضية إليهما ليس باعتبار اختلاف الوضع والاستعمال ، بل الاختلاف انما يكون باعتبار اللحاظ ، حيث لحاظ الافراد الموجودة الفعلية في القضية الخارجية ، وعدم لحاظ الموجودة بالفعل في القضية الحقيقية. واختلاف اللحاظ انما يكون باختلاف الملاك في القضيتين ، حيث إن الملاك الذي أوجب ترتب المحمول على الموضوع في القضية الحقيقية انما يكون مطردا في جميع افراد الموضوع ، ليس هناك الا ملاك واحد قائم بالجميع ، سواء كانت موجودة بالفعل أو الذي توجد بعد ذلك. بخلاف الملاك في القضية الخارجية ، فان


(521)
هناك ملاكات متعددة حسب تعدد الافراد ، فإذا لم يختلف كيفية الوضع والاستعمال في القضيتين ، فكيف يوجب التخصيص المجازية في الخارجية ولا يوجبه في الحقيقية ؟ فالتخصيص الافرادي في القضية الخارجية أيضا يرد على المصب والمدخول ويوجب تضييق دائرته.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، وانما هو يوجب تضييق دائرة المصب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل.
    ومما ذكرنا ، ظهر المناقشة فيما افاده الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) في وجه حجية العام فيما بقى بعد التخصيص ، بعد تسليم المجازية : من أن دلالة العام على كل فرد غير منوطة بالدلالة على الافراد الاخر إلى آخر ما ذكره ( قده ) فإنه يرد على ظاهر ما افاده : ان العام لا دلالة له على الافراد في القضية الحقيقية ، وانما يكون الدلالة على الافراد في القضية الخارجية ، الا ان يكون مراده من الافراد الأنواع ، أو يكون كلامه في الخارجية. مع أنه لم يظهر وجه تسليمه المجازية ، فإنه لا يمكن توجيه المجازية بوجه من الوجوه. هذا كله ، مضافا إلى ما أورد عليه : من أنه بعد تسليم المجازية لا مجال لدعوى بقاء دلالة العام على الافراد الباقية من جهة ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الافراد الاخر. وذلك لان دلالة العام على الافراد الباقية انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت ضمنية ، لان العام حسب الفرض كان
1 ـ مطارح الأنظار ، مبحث العام والخاص ، هداية 1 ص 190.
    قوله : « والأولى ان يجاب بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي انما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حد ساير المجازات حتى يحتاج إلى معين آخر بعد الصرف مع تعددها ، فان الباقي متعين على حسب تعين الجميع عند عدم المخصص مطلقا. »


(522)
موضوعا لجميع الافراد على نحو الاجتماع ، كما هو لازم تسليم المجازية ، والتخصيص يوجب عدم بقاء دلالته على الجميع ، والدلالة على الباقي لم تكن مستقلة حتى تبقى بعد التخصيص ، هذا.
    ولكن يمكن توجيه مقالة الشيخ ( قده ) بما لا يرد عليه ذلك ، بتقريب : ان توهم المجازية في العام المخصص لايكون الا بدعوى : ان المركب من الأداة والمدخول موضوع لجميع الافراد ، بحيث يكون للمركبات وضع وراء وضع المفردات. فإنه لا تستقيم دعوى المجازية الا بذلك. وحينئذ نقول : لو سلمنا هذه الدعوى الفاسدة ، فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض افراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضى عدم دلالة العام على الافراد الباقية ، إذ دلالة العام على الافراد ليست على وجه الارتباطية ، بحيث يكون خروج البعض موجبا لانعدام الدلالة بالنسبة إلى الباقي ، بل العام يدل على كل فرد بدلالة مستقلة ، لما تقدم : من أن الأصل في العموم هو الانحلال ، فالعام لامحة يدل على الباقي ، سواء خرج بعض الافراد عنه أو لم يخرج ، والمجازية انما جاءت من قبل خروج بعض الافراد ، لا من قبل دخول الباقي.
    ونظير العام في الدلالة على الباقي ، الإشارة بلفظ ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، مع عدم إرادة جميع آحاد تلك الجماعة بل بعضها ، فان عدم إرادة البعض لا يوجب عدم وقوع الإشارة على الافراد ، بل الإشارة وقعت على تلك الافراد لامحة. وليست دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة من قبيل دلالة الأسد على الرجل الشجاع ، بحيث تكن دلالة مجازية صرفة أجنبية عن المعنى الموضوع له ، بل دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة دلالة حقيقية ، فكذلك دلالة العام على الافراد الباقية تكون دلالة حقيقية ، وان خرج بعض الافراد عنه.
    هذا ما تحصل لي من توجيه شيخنا الأستاذ مد ظله لمقالة الشيخ ( قده ) ولكن بعد في النفس من ذلك شيء ، فان تسليم المجازية لا يمكن الا بدعوى وضع العام لجميع الافراد ، فإرادة البعض منه ينافي الموضوع له لامحة. وحينئذ يصح ان يقال : ان العام لا دلالة له على الباقي بعد التخصيص ، لان دلالته كانت على الجميع من حيث


(523)
المجموع ، فتأمل.
    وعلى كل حال : نحن في غنى عن هذه المقالات ، لما عرفت : من أن التخصيص لا يقتضى المجازية أصلا ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.
    إذا عرفت هذه الأمور ، فلنشرع في مباحث العام والخاص.
    المبحث الأول :
    بعد ما عرفت من أن التخصيص لا يوجب المجازية ، فلا ينبغي الاشكال في حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، إذ مبنى الاشكال في ذلك هو المجازية. وقد تقدم فساد المبنى ، وذلك واضح.
    المبحث الثاني :
    إذا كان المخصص مجملا مفهوما ، فتارة : يكون الاجمال من جهة دورانه بين المتباينين ، وأخرى : يكون بين الأقل والأكثر ، وعلى كلا التقديرين ، فتارة : يكون المخصص متصلا ، وأخرى : يكون منفصلا.
    وحكم هذه الأقسام : هو انه لو كان المخصص متصلا ، فالعام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى محتملات المخصص مطلقا ، سواء دار امره بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، لسراية اجمال المخصص إلى العام ، وعدم انعقاد ظهور له ، لاحتفافه بالمخصص المجمل ، فلا يكون للعام دلالة تصديقية على معنى بحيث يصح ان يخبر بمفاده ، ويترجم بلفظ آخر أو لغة أخرى. وما لم يحصل للكلام هذه الدلالة لايكون له ظهور في معنى ، ومع عدم الظهور لايكون حجة. فسقوط العام عن الحجية في المخصص المتصل ليس من جهة العلم بالتخصيص حتى يقال : ان العلم بالتخصيص انما يوجب سقوط العام عن الحجية في المتباينين ، لا في الأقل والأكثر لعدم العلم بتخصيص الأكثر ـ كما سيأتي بيانه في المخصص المنفصل ـ بل من جهة اجمال العام وعدم انعقاد ظهور له ، وذلك واضح.
    واما لو كان المخصص منفصلا : ففي صورة دورانه بين المتباينين يسقط العام عن الحجية أيضا في جميع الأطراف المحتملة ، فإنه وان انعقد للعام ظهور ، الا انه بعد العلم بالتخصيص يخرج العام عن كونه كبرى كلية ، ولا تجرى فيه أصالة


(524)
العموم ، لان أصالة العموم انما تجرى في صورة الشك ، ولا مجال لها مع العلم بالتخصيص. وبعبارة أخرى : يعلم أن الظهور المنعقد للعام ليس بمراد بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة. وحيث إن ذلك البعض تردد امره بين فردين ، أو افراد ، ولا معين في البين ، فلامحة يسقط العام عن الحجية في جميع الافراد المحتملة ، وذلك أيضا واضح.
    واما لو دار امر المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر : فبالنسبة إلى الأكثر العام بعد باق على حجيته ، وأصالة العموم جارية فيه ، وانما سقطت حجية العام في خصوص الأقل المتيقن التخصيص ، لأنه بالنسبة إلى الأكثر يكون شكا في التخصيص ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم وعدم التخصيص بعد ما انعقد ظهور للعام. فلو قال : أكرم العلماء ، ثم ورد : لا تكرم فساق العلماء ، وتردد الفاسق بين ان يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة العام سقط عن الحجية ، للعلم بخروجه على كل حال. واما بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فيشك في خروجه ، ومقتضى أصالة العموم عدم خروجه.
    وتوهم : ان الخارج هو عنوان الفاسق لا خصوص مرتكب الكبيرة ـ والعام ليس كبرى كلية بالنسبة إلى عنوان الفاسق للعلم بخروج هذا العنوان عن العام ، فلا مجال للتمسك بأصالة العموم بالنسبة إلى من شك في دخوله تحت عنوان الفاسق ـ فاسد ، لان الخارج ليس مفهوم الفاسق بل واقع الفاسق ، وحيث لم يعلم أن مرتكب الصغيرة مندرج في الفاسق الواقعي يشك لامحة في تخصيص العام واقعا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم.
    تنبيه : لو ورد عام وورد خاص ، ودار امر الخاص بين ان يكون مخصصا ، أو غير مخصص ، كما لو قال عقيب قوله أكرم العلماء : لا تكرم زيدا ، وكان هناك زيد عالم وزيد جاهل ، ولم يعلم أن مراده من قوله : لا تكرم زيدا أي منهما ، فالمرجع في مثل هذا أيضا أصالة العموم ، للشك في التخصيص ، وذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان المخصص مجملا مفهوما.


(525)
    وأما إذا كان مجملا مصداقا ، كما لو تردد زيد بين ان يكون فاسقا أو غير فاسق ، لأجل الشبهة المصداقية ، ففي الرجوع إلى العام وعدم الرجوع ، خلاف. والأقوى : عدم الرجوع إليه.
    اما في القضايا الحقيقية : فالامر فيها واضح ، من جهة ان عنوان العام قبل العثور على المخصص كان تمام الموضوع للحكم الواقعي بمقتضى أصالة العموم المحرزة لعدم دخل شيء في موضوع الحكم غير عنوان العام وانه يتساوى في ترتب الحكم كل انقسام ونقيضه من الانقسامات المتصورة في عنوان العام ، ويكون مفاد قوله : أكرم العلماء ـ بمقتضى أصالة العموم ـ هو وجوب اكرام كل عالم ، سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، وسواء كان نحويا أو غير نحوي. وهكذا الحال في جميع الانقسامات اللاحقة لعنوان العالم ، ولكن بعد العثور على المخصص يخرج عنوان العام عن كونه تمام الموضوع ويصير جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو عنوان الخاص ، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلى ما تكفله الخاص ، وينهدم التسوية في بعض الانقسامات التي كانت في العام ، ولا يكون مفاد العام وجوب اكرام العالم سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، بل يكون مفاد العام بضميمة المخصص هو وجوب اكرام العالم الغير الفاسق ، فيكون أحد جزئي الموضوع عنوان ( العالم ) وجزئه الآخر ( غير الفاسق ) فكما انه لو شك في عنوان العام من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام بالنسبة إلى المشتبه ، كذلك لو شك في عنوان الخاص من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام لاحراز حال المشتبه ، لأنه لا فرق حينئذ بين مشكوك العلم وبين مشكوك الفسق ، بعد ما كان لكل منهما دخل في موضوع الحكم. وكل دليل لا يمكن ان يتكفل وجود موضوعه ، بل الدليل انما يكون متكفلا لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه ، ولأجل ذلك كانت القضية الحملية متضمنة لقضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.
    وحاصل الكلام : ان القضايا الحقيقية غير متعرضة للافراد ، وانما يكون الحكم فيها مترتبا على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق عليه من الخارجيات ، وليس لها تعرض لحال المصاديق ، ومع هذا كيف يمكن ان نحرز بالعام حال المشتبه بالشبهة
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس