حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 46 ـ 60
(46)
ساجد في سجدة الشكر ، فأطال سجوده ، ثم رفع رأسه ، فسألوه عن إطالة سجوده ، فأخبرهم أنه دعا بهذا الدعاء ، وحثهم عليه ، وأمرهم بكتابته فكتبوه ، وهذا نصه :
    اللهم العن اللذين بدلا دينك ، وغيرا نعمتك ، واتهما رسولك ( صلى الله عليه وآله ) ، وخالفا ملتك ، وصدا عن سبيلك وكفرا آلاءك ، وردا عليك كلامك ، واستهزءا برسولك وقتلا ابن نبيك ، وحرفا كتابك ، وجحدا آياتك ، وجلسا في مجلس لم يكن لهما بحق ، وحمله الناس على أكتاف آل محمد ، اللهم العنهما لعنا يتلو بعضه بعضا ، واحشرهما واتباعهما إلى جهنم زرقا.
    اللهم إنا نتقرب إليك باللعنة عليهما ، والبراءة منهما في الدنيا والآخرة ، اللهم العن قتلة أمير المؤمنين ، وقتلة الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، اللهم زدهما عذابا فوق عذاب ، وهوانا فوق هوان ، وذلا فوق ذل ، وخزيا فوق خزي ، اللهم دعهما في النار دعا ، واركسهما في أليم عذابك ركسا.
    اللهم احشرهما واتباعهما إلى جهنم زمرا ، اللهم فرق جمعهم وشتت أمرهم ، وخالف بين كلمتهم ، وبدد جماعتهم ، والعن أئمتهم ، واقتل قادتهم ، وسادتهم ، وكبراءهم ، والعن رؤساءهم ، واكسر راياتهم ، والق البأس بينهم ، ولا تبق منهم ديارا.
    اللهم العن أبا جهل والوليد لعنا يتلو بعضه بعضا ، ويتبع بعضه بعضا ، اللهم العنهما لعنا يلعنهما به كل ملك مقرب ، وكل نبي مرسل ، وكل مؤمن امتحنت قلبه للايمان اللهم العنهما لعنا يتعوذ منه أهل النار اللهم العنهما لعنا لم يخطر لاحد ببال.
    اللهم العنهما في ستر سرك ، وظاهر علانيتك ، وعذبهما عذابا في التقدير وشارك معهما ... وأشياعهما ومحبيهما ومن شايعهما إنك سميع الدعاء (1).
    ويمثل هذا الدعاء مدى نقمة الامام على بعض الخلفاء الذين استولوا بغير حق على السلطة العامة في البلاد ، فجروا الويل والدمار للعالم الاسلامي ، وذلك باقصاء العترة الطاهرة عن السلطة ، وهي اعلم بشؤون الاسلام واحكامه من غيرهم ، وهذا الدعاء الجليل من الأدعية السياسية. تسلحه بالدعاء : ومن مظاهر حياة الامام الروحية تسلحه بالدعاء إلى الله تعالى والتجائه إليه في
1 ـ مهج الدعوات ( ص 320 )

(47)
جميع أموره ، وكان يجد فيه متعة روحية لا تعادلها أية متعة من متع الحياة ، وقبل ان نعرض لبعض أدعيته ، نذكر ما أثر عنه من أهمية الدعاء وغيره :
    الدعاء سلاح الأنبياء :
    حث الإمام ( عليه السلام ) أصحابه على الدعاء إلى الله.
    فقال لهم : عليكم بسلاح الأنبياء.
    فقيل له : وما سلاح الأنبياء ؟
    قال : الدعاء (1).

    اخفاء الدعاء : وأوصى الامام أصحابه باخفاء الدعاء ، وأن يدعو الانسان ربه سرا لا يعلم به أحد ، قال ( عليه السلام ) : دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية (2)

    إبطاء الإجابة في الدعاء : وتحدث الإمام ( عليه السلام ) عن الأسباب التي توجب ابطاء الإجابة في الدعاء ، فقد روى أحمد بن محمد بن أبي نصر.
    قال : قلت لأبي الحسن ـ يعني الإمام الرضا ـ : جعلت فداك إني قد سألت الله حاجة منذ كذا وكذا سنة ، وقد دخل قلبي من إبطائها شئ ؟
    فقال ( عليه السلام ) : يا احمد إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك ، إن أبا جعفر ـ يعني الإمام الباقر ـ صلوات الله عليه كان يقول : إن المؤمن يسأل الله عزوجل حاجته فيؤخر عنه تعجيل إجابته حبا لصوته ، واسماع نحيبه.
    ثم قال : والله ما أخر الله عزوجل عن المؤمنين ، ما يطلبون من هذه الدنيا خير ، لهم مما عجل لهم فيها ، وأي شئ الدنيا ؟ ان أبا جعفر ( عليه السلام ) كان يقول : ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحوا من دعائه في الشدة ، ليس إذا أعطي فتر ، فلا تمل الدعاء فإنه من الله عزوجل بمكان ـ أي بمنزلة ـ وعليك بالصبر ، وطلب الحلال ، وصلة الرحم ، وإياك ومكاشفة الناس.
    فانا أهل بيت نصل من قطعنا ، ونحسن إلى من أساء إلينا ، فنرى والله في ذلك العاقبة الحسنة ، إن صاحب النعمة في عينه ، فلا يشبع من شئ ، وإذا أكثرت النعم كان المسلم من ذلك في خطر للحقوق التي تجب عليه ، وما يخاف من الفتنة فيها.
1 ـ أصول الكافي 2 / ج 368.
2 ـ أصول الكافي 2 / 476.


(48)
    اخبرني عنك لو اني قلت لك قولا ، أكنت تثق به مني ؟ وسارع أحمد قائلا : جعلت فداك إذا لم أثق بقولك فبمن أثق ، وأنت حجة الله على خلقه .. فاجابه الامام.
    فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله ، أليس الله عزوجل يقول : ( وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) (1) ، وقال : ( لا تقنطوا من رحمة الله ) (2) وقال : ( والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ) (3).
    فكن بالله عزوجل أوثق منك بغيره ، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيرا فإنه مغفور لكم (4).
    وأعرب الإمام ( عليه السلام ) عن الأسباب التي تحجب الدعاء ، وتؤخر اجابته ، كما دعا إلى التحلي بأخلاق أهل البيت ( عليه السلام ) والاقتداء بهم.

    حرزه : كان الإمام ( عليه السلام ) يتسلح بهذا الدعاء الشريف
    بسم الله الرحمن الرحيم ، يا من لا شبيه له ، ولا مثال ، أنت الله لا إله إلا أنت ، ولا خالق إلا أنت ، تفني المخلوقين ، وتبقى ، أنت حلمت عمن عصاك وفي المغفرة رضاك (5).
    كما كان متشبثا بهذا الدعاء الجليل :
    استسلمت يا مولاي لك وأسلمت نفسي إليك ، وتوكلت في كل أموري عليك ، وأنا عبدك وابن عبديك ، فأخبأني اللهم في سترك عن شرار خلقك ، واعصمني من كل اذى وسوء بمنك.
    واكفني شر كل ذي شر ، بقدرتك. اللهم من كادني أو أرادني فاني أدرأ بك في نحره ، فسد عني أبصار الظالمين إذ كنت ناصري ، لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين وإله العالمين.
    أسألك كفاية الأذى ، والعافية والشفاء والنصر على الأعداء ، والتوفيق لما تحب ربنا ، ويرضي ، يا رب العالمين ، يا جبار السماوات والأرضين ، يا رب محمد وآله الطيبين الطاهرين ،
1 ـ سورة البقرة / آية 186.
2 ـ سورة الزمر / آية 53.
3 ـ سورة البقرة / آية 268.
4 ـ أصول الكافي 2 / 489.
5 ـ مهج الدعوات ( ص 44 ).


(49)
صلواتك عليهم أجمعين (1).
    لقد استسلم الإمام ( عليه السلام ) ، وأسلم نفسه ، وجميع أموره للواحد القهار الذي بيده جميع مجريات الاحداث ، وقد احتجت بهذا الدعاء ليرد الله عنه كيد المعتدين ، وظلم الظالمين.

    من ادعيته : وأثرت عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كوكبة من الأدعية الشريفة كان من بينها ما يلي :
    1 ـ من أدعيته هذا الدعاء يطلب فيه الإمام ( عليه السلام ) الامن والايمان قال : يامن دلني على نفسه ، وذلل قلبي بتصديقه ، أسألك الامن والايمان في الدنيا والآخرة .. (2).
    وحفل هذا الدعاء على ايجازه ، بظاهرة من ظواهر التوحيد وهي ان الله تعالى دلل على ذاته ، وعرف نفسه لخلقه ، وذلك بما أودعه ، وأبدعه ، في هذا الكون من العجائب والغرائب ، وكلها تنادي بوجوده.
    2 ـ وكان ( عليه السلام ) يدعو بهذا الدعاء الجليل :
    اللهم اعطني الهدى وثبتني عليه ، واحشرني عليه آمنا أمن من لا خوف عليه ، ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى ، وأهل المغفرة ... (3).
    لقد دعا الإمام ( عليه السلام ) بطلب الهداية ، والانقياد الكامل إلى الله الذي هو من أعلى درجات المقربين والمنيبين إلى الله تعالى.
    3 ـ من ادعيته هذا الدعاء الشريف ، وقد علمه لصاحبه وتلميذه موسى بن بكير ، وقال له : احفظ ما اكتبه لك ، وادع به في كل شدة تخاف منها ، وقد جاء فيه تعد البسملة :
    اللهم ان ذنوبي وكثرتها قد أخلقت وجهي عندك ، وحجبتني عن استيهال رحمتك ، وباعدتني عن استيجاب مغفرتك ، ولولا تعلقي بآلائك ، وتمسكي بالدعاء
1 ـ المصباح ( ص 217 ).
2 ـ أصول الكافي 2 / 579.
3 ـ أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 197.


(50)
وما وعدت أمثالي من المسرفين ، وأشباهي من الخاطئين ، وأوعدت القانطين من رحمتك بقولك :
    ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم ) وحذرت القانطين من رحمتك فقلت :
    ( ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون ) ثم ندبتنا برأفتك إلى دعائك فقلت :
    ( ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ). الهي اليأس علي مشتملا ، والقنوط من رحمتك علي ملتحفا ، الهي لقد وعدت المحسن ظنه بك ثوابا ، وأوعدت المسئ ظنه بك عقابا.
    اللهم وقد أمسك رمقي حسن الظن بك في عتق رقبتي من النار ، وتغمد زلتي ، وإقالة عثرتي.
    اللهم قولك الحق الذي لا خلف له ، ولا تبديل : ( يوم ندعو كل أناس بامامهم ) وذلك يوم النشور ، إذا نفخ في الصور ، وبعثر ما في القبور ، اللهم فاني أؤمن ، واشهد ، وأقر ، ولا أنكر ، ولا أجحد ، وأسر وأعلن ، وأظهر وأبطن ، بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك ( صلى الله عليه وآله ).
    وان عليا أمير المؤمنين سيد الأوصياء ووارث علم الأنبياء ، علم الدين ، ومبير المنافقين ، ومجاهد المارقين امامي وحجتي ، وعروتي وصراطي ودليلي وحجتي ، ولا أثق بأعمالي ، ولو زكت ، ولا أراها منجية لي ولو صلحت إلا بولايته والائتمام به ، والاقرار بفضائله ، والقبول من حملتها ، والتسليم لرواتها ، وأقر بأوصيائه من آبائه أئمة وحججا وأدلة وسرجا ، وأعلاما ومنارا وسادة وأبرارا ، وأومن بسرهم وجهرهم وظاهرهم وباطنهم وشاهدهم وغائبهم ، وحيهم وميتهم ، لا شك في ذلك ولا ارتياب عند تحولك ، ولا انقلاب.
    اللهم فادعني يوم حشري ونشري بإمامتهم وأنقذني بهم ، يا مولاي من حر النيران ، وإن لم ترزقني روح الجنان ، فإنك ان أعتقتني من النار كنت من الفائزين.
    اللهم وقد أصبحت يومي هذا ، لا ثقة لي ولا رجاء ولا ملجأ ولا مفزع ولا منجى ، غير من توسلت بهم إليك متقربا إلى رسولك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ثم علي أمير المؤمنين والزهراء سيدة نساء العالمين ، والحسن والحسين ، وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن ، ومن بعدهم يقيم المحجة إلى الحجة المستورة ، من ولده ، المرجو للأمة من بعده.


(51)
    اللهم فاجعلهم في هذا اليوم وما بعده حصني من المكاره ومعقلي من المخاوف ، ونجني بهم من كل عدو وطاغ وباغ وفاسق ومن شرما أعرف ، وما أنكر ، وما استتر عني ، وما أبصر ومن شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها انك على صراط مستقيم.
    اللهم بتوسلي بهم إليك ، وتقربي بمحبتهم ، وتحصني بإمامتهم افتح علي في هذا اليوم أبواب رزقك ، وانشر علي رحمتك وحببني إلى خلقك ، وجنبني بغضهم ، وعداوتهم انك على كل شئ قدير ..
    اللهم ولكل متوسل ثواب ، ولكل ذي شفاعة حق ، فأسألك بمن جعلته وليك ، وقدمته أمام طلبتي أن تعرفني بركة يومي هذا ، وشهري هذا ، وعامي هذا.
    اللهم وهم مفزعي ومعونتي في شدتي ورخائي وعافيتي وبلائي ، ونومي ويقظتي ، وظعني وإقامتي ، وعسري ويسري ، وعلانيتي وسري ، واصباحي وامسائي ، وتقلبي ومثواي وسري وجهري.
    اللهم فلا تخيبني بهم من نائلك ، ولا تقطع رجائي من رحمتك ، ولا تؤيسني من روحك ، ولا تبتلني بانغلاق أبواب الأرزاق ، وانسداد مسالكها ، وارتياح مذاهبها ، وافتح لي من لدنك فتحا يسيرا واجعل لي من كل ضنك مخرجا ، والى كل سعة منهجا ، إنك ارحم الراحمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين أمين رب العالمين (1).
    وحكى هذا الدعاء مدى اعتصام الإمام ( عليه السلام ) بالله تعالى وعبوديته المطلقة له ، كما حكى فضل الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) ، الذين هم اعلام الدين ، وسدنة حكمة سيد المرسلين.
    4 ـ وكان الإمام ( عليه السلام ) يدعو بهذا الدعاء لطلب الرزق والسعة في العيش ، وكان يدعو به عقيب كل فريضة ، وهذا نصه :
    يا من يملك حوائج السائلين ، ويعلم ضمير الصامتين لكل مسألة منك سمع حاضر ، وجواب عتيد ، ولك صامت منك علم باطن محيط أسألك بمواعيدك الصادقة ، وآياديك الفاضلة ، ورحمتك الواسعة ، وسلطانك القاهر وملكك الدائم ، وكلماتك التامات ، يا من لا تنفعه طاعة المطيعين ، ولا تضره معصية العاصين ( صل
1 ـ مهج الدعوات ( ص 315 ـ 317 ).

(52)
على محمد وآله ) ، وارزقني من فضلك ، واعطني فيما ترزقني العافية برحمتك يا ارحم الراحمين (1).
    5 ـ ومن بين ادعيته الشريفة هذا الدعاء العظيم ، وجاء فيه ، بعد البسملة :
    اللهم يا ذا القدرة الجامعة ، والرحمة الواسعة ، والمنن المتتابعة والآلاء المتوالية ، والأيادي الجميلة ، والمواهب الجزيلة ، يامن خلق فرزق ، والهم فأنطق ، وابتدع فشرع ، وعلا فارتفع ، وقدر فأحسن ، وصور فأتقن ، واحتج فابلغ ، وأنعم فأسبغ وأعطى فأجزل ، ومنح فأفضل ، يامن سما في العز ففات خواطف الابصار ، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار.
    يامن تفرد بالملك فلا ند له في ملكوت سلطانه ، وتوحد بالكبرياء فلا ضد له في جبروت شأنه ، يا من حارت في كبرياء هيبته دقايق لطائف الأوهام وانحسرت دون ادراك عظمته خطائف ابصار الأنام ، يا عالم خطرات قلوب العالمين ، وشاهد لحظات أبصار الناظرين ، يامن عنت الوجوه لهيبته ، وخضعت الرقاب لعظمته وجلاله ، ووجلت القلوب من خيفته ، وارتعدت الفرائص من فرقة.
    يا بدئ يا سميع ، يا علي يا رفيع صل على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه وانتقم لي ممن ظلمني واستخف بي ، وطرد الشيعة عن بابي ، وأذقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها ، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس والحمد لله رب العالمين ، صلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .. (2).
    وحفل هذا الدعاء الشريف بحمد الله والثناء عليه بأجمل ألوان الثناء كما حفل في آخره على ما جرى عليه من الظلم والأذى ، والاضطهاد من قبل المأمون العباسي ، فقد طرد شيعة الإمام ( عليه السلام ) ، واستخف به ، لما ظهر للعالم الاسلامي سمو مكانة الامام وعظيم شخصيته وتفاهة شخصية المأمون ، وانه لا رصيد له من الدين والأخلاق ما يستحق به مركز الخلافة الاسلامية ، ويبدو من هذا الدعاء مدى تألم الامام من المأمون حيث دعا عليه بحرارة وألم.
    6 ـ من بين أدعيته الشريفة هذا الدعاء وقد جاء فيه بعد البسملة :
    اللهم لك الحمد على مرد نوازل البلاء ، وملمات الضراء ، وكشف نوائب الأدواء ـ وهي نوازل الدهر ـ وتوالي سبوع النعماء ولك الحمد رب على هنئ
1 ـ المصباح ( ص 168 ).
2 ـ المصباح ( ص 292 ) ، البحار 12 / 24.


(53)
عطائك ومحمود بلائك ، ولك الحمد على احسانك الكثير وخيرك العزيز ، وتكليفك اليسير ، ودفعك العسير.
    ولك الحمد على تثميرك قليل الشكر ، واعطائك وافر الاجر ، وحطك مثقل الوزر ، وقبولك ضيق العذر ، ووضعك باهظ الدهر ، وتسهيلك موضع الوعر ، ومنعك مقطع الامر ، ولك الحمد على البلاء المصروف ، ووافر المعروف ، ودفع المخوف ، واذلال العسوف ، ولك الحمد على قلة التكليف وكثرة التخفيف ، وتقوية الضعيف ، وإغاثة اللهيف
    ولك الحمد على سعة امهالك ، ودوام افضالك ، وصرف امحالك ، وحميد فعالك ، وتوالي نوالك ، ولك الحمد على تأخير معاجلة العقاب ، وترك مغافصة العذاب ، وتسهيل طرق المآب ، وانزال غيث السحاب إنك المنان الوهاب (1).
    وحوى هذا الدعاء جملا من آيات الثناء على الله تعالى ، خالق الكون وواهب الحياة.
    هذه بعض ادعيته وهي تكشف عن جانب من حياته الروحية وهي الانقطاع إلى الله والاتصال به ، والاعتصام بحبله ، وبها ينتهي بنا الحديث عن بعض معالم شخصيته الكريمة.
1 ـ المصباح ( ص 415 ).

(55)
    معرض الآراء عن شخصية الإمام عليه السلام أما شخصية الامام أبي محمد الرضا ( عليه السلام ) فهي ملء فم الدنيا في فضائلها ، ومواهبها ، وقد احتلت عواطف العلماء والمؤلفين في كل جيل وعصر ، فأدلوا بجمل من الثناء والتعظيم على شخصيته ، ومن بينهم ما يلي :
    1 ـ الإمام الكاظم :
    وأشاد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بولده الإمام الرضا ، وقدمه على السادة الاجلاء من أبنائه ، وأوصاهم بخدمته ، والرجوع إليه في أمور دينهم.
    فقال لهم : هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، سلوه عن أديانكم ، واحفظوا ما يقول لكم ، فاني سمعت أبي جعفر بن محمد ( عليه السلام ) يقول لي : إن عالم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) لفي صلبك ، وليتني أدركته فإنه سمي أمير المؤمنين .. (1).
    لقد أعلن الإمام الكاظم ان نجله المعظم عالم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو أعظم وسام قد منحه له فآل محمد هم معدن العلم والحكمة في الاسلام ، والامام سيدهم في هذه الظاهرة الكريمة ... وسنعرض لكلمات أخرى أثرت عنه في شأن ولده
    2 ـ المأمون :
    وأعلن المأمون الملك العباسي فضل الإمام الرضا وسمو مكانته ومنزلته في كثير من المناسبات.
    وهذه بعضها :
    أ ـ قال المأمون للفضل بن سهل وأخيه : ما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل
1 ـ كشف الغمة 3 / 107 ، أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 100 البحار

(56)
ـ يعني الإمام علي بن موسى ـ على وجه الأرض فالامام حسب قول المأمون أعلم علماء الدنيا ، وأفضلهم في جميع أنحاء المعارف والعلوم.
    ب ـ أشاد المأمون بالامام الرضا ( عليه السلام ) في رسالته التي بعثها للعباسيين الذين نقموا عليه تقليده للامام بولاية العهد قال :
    ما بايع له المأمون ـ أي للإمام الرضا ـ الا مستبصرا في أمره عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها ـ أي على ظهر الأرض ـ أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ، ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه ، وان البيعة له لموافقة لرضى الرب (2).
    وحددت هذه الكلمات بعض الصفات الرفيعة الماثلة في الإمام ( عليه السلام ) ، والتي تميز بها على غيره ، وهي :
    أ ـ إن الامام أبين الناس فضلا وعلما.
    ب ـ انه أعف انسان على وجه الأرض.
    ج ـ إنه أزهد الناس في مباهج الحياة وزينتها.
    ه‍ ـ انه أندى الناس كفا وأوفرهم جودا وعطاء للمحرومين.
    و ـ ان الخاصة والعامة قد أجمعت على الاقرار له بالفضل ولم يظفر بذلك أحد غيره.
    ز ـ انه من أشد الناس في ذات الله ، فإنه لا يخشى في جنب الله لومة لائم.
    ح ـ ان بيعة المأمون للامام بولاية العهد كانت موافقة لرضى الله تبارك وتعالى.
    ج ـ جاء في الوثيقة التي عهد بها بولاية العهد للإمام ( عليه السلام ) ما نصه :
    فكانت خيرته بعد استخارته لله ، واجهاد نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين ـ أي البيت العباسي والأسرة العلوية زادها الله شرفا ـ جميعا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، لما رأى من فضله البارع ، وعلمه الناصع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه من الناس ، وقد استبان له ما لم تزل الاخبار عليه متواطية ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا وناشئا وحدثا
1 ـ أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 133.
2 ـ البحار 12 / 63.


(57)
ومكتملا فعقد له بالعهد والخلافة من بعده (1).
    وأشادت هذه الكلمات بالصفات الكريمة التي تميز بها الإمام الرضا ( عليه السلام ) على الأسرة العلوية والأسرة العباسية وهي :
    1 ـ الفضل البارع ، والعلم الناصع.
    2 ـ الورع عن محارم الله تعالى.
    3 ـ عدم إساءته إلى أي انسان ، فقد كان مصد ر خير ورحمة للناس.
    4 ـ الزهد في الدنيا.
    5 ـ اجتماع كلمة المسلمين عليه. وقد عرف المأمون هذه الصفات الرفيعة الماثلة في الامام ، وهي التي حفزته لترشيح الامام لولاية العهد حسبما يقول.
    3 ـ إبراهيم بن العباس :
    الصولي ، الكاتب المبدع والشاعر المشهور ، قال :
    ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا .. ومن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقه ... (2).
    ان الامام نسخة من الفضائل والمواهب لا ثاني لها في عصره ، فهو من دعائم الفكر والفضل في دنيا الاسلام.
    4 ـ أبو الصلت الهروي :
    قال أبو الصلت عبد السلام الهروي ، وهو من أعلام عصره قال :
    ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا ، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان ، وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم ، حتى ما بقي منهم أحد إلا أمر له بالفضل وأقر على نفسه بالقصور .. (3).
    وحكت هذه الكلمات الطاقات العلمية الهائلة التي يملكها الإمام ( عليه السلام ) ، فهو أعلم أهل زمانه ، وأفضلهم ، ويدلل على ذلك المناظرات التي
1 ـ كشف الغمة 3 / 125 البحار 12 / 44.
2 ـ كشف الغمة.
3 ـ أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 99 ـ 100.


(58)
عقدها المأمون في بلاطه لامتحان الامام ، وقد جمع جميع علماء الأقطار والأمصار فامتحنوا الامام بأعقد المسائل ، فأجاب عنها جواب العالم المتخصص ، فبهر العلماء واعترفوا بعجزهم ، وأقروا بالفضل له.
    5 ـ الرجاء بن أبي الضحاك :
    أما الرجاء بن أبي الضحاك فهو من القادة العسكريين ، وقد أعجب بالامام يقول :
    والله ما رأيت رجلا كان أتقى لله منه ، ولا أكثر ذكرا له منه في جميع أوقاته ، ولا أشد خوفا لله عزوجل منه ... (1).
    وتناولت هذه الكلمات الجانب الروحي من شخصية الامام فقد كان من اتقى الناس ، وأكثرهم ذكرا لله وأشدهم خوفا منه.
    6 ـ الشيخ المفيد :
    قال زعيم الشيعة محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد :
    كان الإمام القائم بعد أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ابنه أبا الحسن علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) لفضله على جماعة اخوته ، وأهل بيته ، وظهور علمه وحلمه وورعه ، واجتماع الخاصة والعامة على ذلك فيه ، ومعرفتهم به منه (2).
    وألمح الشيخ المفيد إلى بعض خصال الإمام الرضا ( عليه السلام ) التي امتاز بها على بقية أخوانه وأهل بيته ، وهي :
    1 ـ العلم.
    2 ـ الحلم.
    3 ـ الورع.
    وهذه الصفات الكريمة بعض خصائصه ، ومكوناته.
    7 ـ الواقدي :
    قال الواقدي : سمع علي الحديث من أبيه وعمومته ، وغيرهم وكان ثقة يفتي
1 ـ بحار الأنوار.
2 ـ الارشاد ( ص 341 ).


(59)
بمسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ابن نيف وعشرين سنة وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل البيت (1).
    وعرض الواقدي إلى صفتين من صفات الإمام ( عليه السلام ) وهما.
    1 ـ الوثاقة.
    2 ـ فتواه بالجامع النبوي وهو ابن نيف وعشرين سنة.
    8 ـ جمال الدين :
    قال جمال الدين أحمد بن علي النسابة ، المعروف بابن عنبة ، الإمام الرضا يكنى أبا الحسن ولم يكن في الطالبيين في عصره مثله بايع له المأمون بولاية العهد ، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير ، وخطب له على المنابر (2).
    وعرض السيد جمال الدين إلى أنه مثل الامام في عصره وذلك لما يتمتع به من المواهب والعبقريات التي جعلته نادرة زمانه.
    9 ـ يوسف بن تغري بردي :
    قال جمال الدين ، أبو المحاسن يوسف بن تغري :
    الإمام أبو الحسن الهاشمي العلوي ، الحسيني ، كان إماما عالما .. وكان سيد بني هاشم في زمانه ، وأجلهم ، وكان المأمون يعظمه ويبجله ويخضع له ، ويتغالى فيه ، حتى جعله ولي عهده .. (3).
    وألقت هذه الكلمات الأضواء على بعض معالم شخصية الإمام ( عليه السلام ) ، وهي : انه كان عالما ، وانه سيد بني هاشم وأجلهم ، ونظرا لعظم شخصيته فقد جعله المأمون ولي عهده.
    10 ـ ابن ماجة :
    قال ابن ماجة : كان ـ أي الإمام الرضا ـ سيد بني هاشم ، وكان المأمون يعظمه ، ويبجله ، وعهد له بالخلافة ، واخذ له العهد ... (4).
    ونظر ابن ماجة إلى شأن من شؤون الإمام ( عليه السلام ) وهو أنه سيد بني
1 ـ تذكرة الخواص ( ص 361 ).
2 ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ( ص 198 ).
3 ـ النجوم الزاهرة 2 / 74.
4 ـ أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 85 خلاصة تهذيب الكمال ( ص 278 ).


(60)
هاشم ، ومن الطبيعي انه بذلك سيد البشر في عصره لان بني هاشم سادة الناس في آدابهم وسمو أخلاقهم ، وحسن تربيتهم.
    11 ـ ابن حجر :
    قال ابن حجر : كان الرضا من أهل العلم والفضل مع شرف النسب ... (1).
    12 ـ اليافعي :
    قال اليافعي : الامام الجليل المعظم ، سلالة السادة الأكارم : علي بن موسى الكاظم ، أحد الأئمة الاثني عشر ، أولي المناقب الذين انتسبت الامامية إليهم ، وقصروا بناء مذهبهم عليهم .... (2).
    ان الإمام الرضا ( عليه السلام ) أحد الكواكب المشرقة في دنيا الاسلام فهو من أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) الذين أضاؤوا الحياة الفكرية ووطدوا دعائم الحق والعدل في الأرض ، وإليهم ـ بشرف واعتزاز ـ تنسب الشيعة كما دانت بولائهم والاخذ بما أثر عنهم في الأحكام الشرعية ، وانما دانت الشيعة بذلك لا عن تعصب أو تقليد أعمى.
    وأنما فرضت عليهم ذلك الحجج القاطعة والأدلة الحاسمة التي يجب على المسلم الاخذ بها ، فقد فرض القرآن الكريم مودتهم ، وطهرهم من الرجس والزيغ كما جعلهم النبي سفن النجاة وأمن العباد ، وقرنهم بمحكم التنزيل ولو ساعدت الأدلة الشرعية على الاخذ بغير مذهبهم لاخذت بذلك الشيعة ودانت به.
    13 ـ عامر الطائي :
    وعلق عامر الطائي على كتاب : صحيفة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذي من مؤلفات الإمام الرضا ( عليه السلام ) بقوله :
    حدثنا علي بن موسى الرضا امام المتقين ، وقدوة أسباط سيد المرسلين ... (3).
    لقد كان الإمام الرضا ( عليه السلام ) سيد المتقين وامام العابدين ، وقد ذكرنا في البحوث السابقة أنماطا من عبادته وتقواه تدلل على ما ذكره الطائي.
1 ـ تهذيب التهذيب 7 / 389.
2 ـ مرآة الجنان 2 / 11.
3 ـ أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 188.
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس