كتاب كشف الغطاء ::: 461 ـ 470
(461)
     « والّذين إذا فعلوا حشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا ». (1)
     وإمّا أن يستقيم عليها مدّة ثم ينقضها في بعض شهواته بقصد وصدق شهوة لعجزه عن قهرها مع المواظبة على الطاعات وتركه لجملة من السيّئات مع شهوته لها أيضاً بقهره لها والندم على ما فعله بعد الفراغ وتسويف نفسه بالتوبة والمجاهدة في تركها مرّة بعد أخرى ، نفسه مسولة.
     « وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ». (2)
     وعاقبته مخطرة بالتسويف ، فربّما اختطفه الموت قبل التوبة ، فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتنّ عليه بالتوبة لحق بالسابقين ، وإن قهرته شهوته فغلبت عليه شقوته فيخشى عليه أن يحقّ عليه في الخاتمة ماسبق عليه القول في الأزل ، فإنّ ارتباط سعادات الآخرة وشقاوتها بالحسنات والسيّئات بحكم المقدّر الأزلي كارتباط المرض والصحّة بتناول الأدوية والأغذية ، فكون الذنب نقداً والتوبة نسية من علامات الخذلان كما أنّ التدافع من الأدوية والأغذية النافعة للمرض من علامات الممات ، فلا يصحّ لملك نعيم العقبى والقرب من جوار ربّ العلى الا القلب المزكّى ، كذا جرى الحكم في الأزل من خالق القضاء والقدر.
     « ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها ». (3)
     وإمّا أن يستقيم مدّة ثم يعود من غير إحداث للنفس بالتوبة وأسف على الفعل ، بل ينهمك كالغافل في شهواته فهو من المصرّين ونفسه أمّارة ، وأمره في المشيّة ، فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة الهالكين ، وإن مات على
1 ـ آل عمران : 1335.
2 ـ التوبة : 102.
3 ـ الشمس : 7 ـ 10.

(462)
التوحيد انتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ، ولا يستحيل شمول العفو له بسبب خفيّ لايطلع عليه كما لايستحيل أن يدخل الانسان خراباً ليجد فيه كنزاً فيجده أو يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلّم كما للأنبياء عليهم السلام ، فطلب المغفرة بالطاعة كطلب العلم بالجهد والتكرار والمال بالتجارة وركوب البحار وإن لم يكن كل طالب واصلاً إلى مطلوبه ، وطلبه بالرجاء دون عمل كطلب الكنز من المواضع الخربة ، فإن كان المضيّع نفسه وعياله منتظراً الكنز يجده في بيته مغروراً أحمق عند ذوي البصائر وإن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى قدرة القادر ، فكذا الراجي للمغفرة من دون عمل ، فالناس محرومون الا العالمون ، وهم كذلك الا العاملون ، وهم كذلك الا المخلصون ، وهم على خطر عظيم.

تنبيه
     لايمنع العاصي من التوبة بها عدم وثوقه بها فيقول لافائدة فيها ، فإنّه غرور من الشيطان ، فلعلّه يموت تائباً قبل العود إلى الذنب وليتدارك الخوف بتجريد القصد وصدق العزم ، فإن وفي به نال مطلبه والا غفرت له ذنوبه السابقة ، ولم يكن عليه الا الحادث ، ثم إن لم يساعده النفس على العزم على الترك فلا يترك الاشتغال بحسنة تضادها وتكفّرها حتى يكون ممّن خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وهي بالقلب بالندم والتذلّل والتضرّع وإضمار الخير للمسلمين والعزم على الطاعات ، وباللسان بالاعتراف بالظلم والاستغفار وبالجوارح بالطاعات والصدقات ، ولايمنعه عن الاستغفار عدم حلّه لعقدة الإصرار لما في الخبر : « إنّ المستغفر من الذنوب مع إصراره عليها كالمستهزىء بآيات الله ». (1)
     فإنّ الأخبار في فضله كثيرة ، والكذب والاستهزاء إنّما يتمّان مع عدم تأثّر القلب به ، ومشاركته له بالغفلة عنه فيكون مجرّد تحريك لسان.
1 ـ المحجة البيضاء : 7/85 ـ 86 مع اختلاف.
(463)
     وأمّا مع انضياف التضرّع والابتهال في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نيّة فهي حسنة في نفسها تصلح لدفع السيّئة.
     وعليه يحمل ما ورد في فضله وليس وجودها كعدمها ، إذ لايخلو ذرّة من الخير من أثر كما لاتخلو شعيرة تطرح في الميزان عنه ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره أو شرّاً يره ، فكّل ذرّة ترجّح الميزان حتّى تثقل إحدى الكفّتين على الاخرى ، فإيّاك وأن تستصغر ذرّات الطاعات فلا تأتيها أو المعاصي فلا تنقيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللّاً بأنّها لاتقدر في كلّ ساعة الا على خيط واحد ، وأيّ غنى يحصل منه ولاتدري أنّ ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً [ خيطاً ] (1) بل الاستغفار اللساني الخالي عن الحضور القلبي أيضاً حسنة ، إذ هو خير من حركة اللسان بغيبة أو فحش ، بل من السكوت أيضاً.
     نعم هو نقص بالاضافة إلى عمل القلب ، فمهما عوّدت الجوارح بالخيرات منعتها عن المعاصي فلا تفترنّ رغبتك فيها بهذه الخيالات التي هي من مكائد الشيطان فتسعف بذلك حاجته ، ولا تظن أنّ ذمّنا لحركة اللسان من جهة مكانها ذكراً ، بل هي عبادة من تلك الجهة ، بل من جهة غفلة القلب ، والحاجة إلى الاستغفار لأجلها ، فتارك الذكر اللساني محتاج إلى الستغفارين ، فهي أمور إضافية ، كما قيل : إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

تذنيب
     ثمّ الطريق إلى تحصيل التوبة وعلاج حلّ عقدة الإصرار تذكّر ما دلّ على الحثّ عليها وذمّ المعصية والتأمّل في أحوال الأنبياء وحكايات أكابر الأولياء وما جرى عليهم من المصائب بسبب تركهم الأولى والعلم بأن كلّ عقوبة تصل إلى العبد في الدنيا فهو بسبب المعصية كما ورد في الأخبار ، والتذكّر لعجزه وضعفه عن قليل من مكاره الدنيا وقوباتها فكيف بالآخرة
1 ـ في « ج » فقط.
(464)
وبلائها مما تطول مدته ويدوم بقاؤه ، ثم لخساسة الدنيا وشرف الآخرة وقرب الموت ولذة المناجاة مع الله سبحانه مع ترك الذنوب.
     فمن تأمل فيما ذكر انبعث منه خاطر التوبة وإلا فهو أحمق أو منكر للمعاد. ومن أعظم أسبابها قلع حب الدنيا عن القلب ، فإن المعاصي بأسرها ناشئة عنه.
     ويعالج تسويفه وطول أمله بالتفكر في أن بناء الموت على أمر ليس إليه ، وهو البقاء إلى تلك المدة ، فلعله يموت قبلها أو لايقدر على الترك فيها كما لايقدر عليه الآن ، فعجزه الآن ليس إلا من غلبة الشهوة ، وهي إن لم تتضاعف غداً بالعادة فلا تنقص قطعاً.
     ويعالج رجاءه الكاذب بفضل الله وعفوه أيضاً بالتفكر في أن إمكان العفو من الذنب ليس بأقوى من إمكان أن يعطيه الله مالا بغتة من غير كد ، فإن أنفق ماله وضيع عياله على ذلك فليفعل هنا أيضاً كذلك ، فإن الكريم في الحالين واحد ، وإن نسب المتكل في ذلك عليه إلى الحمق والغرور فهنا أولى بذلك وأحرى.
     ويعالج ضعف خوفه بسبب تأخر العقاب في الآخرة والإمهال في الدنيا بالحياة بالفكر في أن حصوله مجزوم به بعد ثبوت الايمان بالله ورسوله وما أتى به الرسول من الوعد والوعيد ، غاية ما في الباب فرض تأخره وهو فرض باطل ، إذ لعل أجله قريب فإن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله ، ولو أخبره نصراني بضرر الغذاء الفلاني وسوقه إياه إلى المرض والممات لتركه وإن كان ألذ شيء عنده مع أن ألم الموت لحظة لاخوف بعده أصلاً ، وهو أمر لابد منه ، فكيف يطمئن بقول كافر يدعي الطب من غير معجزة بمجرد شهادة العوام ويترك ما يأمره بتركه ولايثق بقول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات القاهرة والبراهين الظاهرة ولا يتصور أن النار أعظم وأشد من المرض وأن كل عند ربه مقدار ألف سنة مما تعدون.


(465)
     وبمثله يعلج الصبر على ترك اللذّة التي يعتقدها في فعل المعصية ، فإنّه إذا لم يقدر على الصبر على هذه اللذّة الضعيفة في المدّة القليلة فكيف يقدر على ألم النار العظيم أبد الآباد.
     واعلم أنّه ربما ينجرّ كثرة المعصية والاستخفاف بحدود الله إلى قساوة القلب وانظلامه بحيث يشكّ في التهديدات الواردة من الشرع الشريف والمواعيد المختلفة المنساقة إلى أهل التكليف وهو كفر في الاعتقاد يخلّد به في النار مع الكفّار ، نعوذ بالله من ذلك.
     ويمكن علاجه بالتفكّر في أنّ ما قالوه وإن لم يجزم به فلا أقلّ من عدم الجزم بكذبه ، إذ لابرهان عقلياً على استحالته والعاقل يدفع الضرر المحتمل عن نفسه ، إذ لا ضرر يلحقه في الإطاعة ، ولعلّ ضرراً يلحقه في العصيان ، وهذا نظير مناظرة الصادق عليه السلام مع ابن أبي العوجاء. (1)
     قال أبو العلاء المعرّي :
قال المنجم والطبيب كلاهما إن صحّ قولكما فلست بخاسر لاتحشر الأموات قلت إليكما أو صحّ قولي فالخسار عليكما
فصل
     لمّا علم أصحاب القلوب أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ، حيث قال :
     « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً » (2)
     « ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه » . (3)
     « ووفّيت كلّ نفس ما كسبت ». (4)
1 ـ الكافي : 1/75 ، كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح2.
2 ـ الأنبياء : 47.
3 ـ الكهف : 49.
4 ـ آل عمران : 25.

(466)
     « اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت لاظلم اليوم ». (1)
     فيطالبون بمثقال ذرّة من الخطرات ، ولاينجيهم منه الا المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات واللحظات والحركات ، ولذا أمرهم بالصبر والمرابطة ، فرابطوا أنفسهم أوّلاً بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمعاقبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة ، فلابدّ من شرح هذه المقامات التة :

أمّا المشارطة
     فكما أنّ التاجر يستعين بشريكه ويسلّم إليه مالاً للتجارة ثم يحاسبه ، فكذا العقل تاجر في طريق الآخرة وربحه فلاح النفس ، وفلاحها بالأعمال الصالحة ، والعقل يستعين بها في التجارة ، وكما أنّ التاجر يشارطه النفس أولاً فيوظّف عليها الوظائف ويشترط عليها ويرشدها إلى ما فيه صلاحها ، ويجزم عليها ، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنّها لو أهملها لم ير منها الا الخيانة والتضييع ، ثم بعد الفراغ يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط ، فهذه تجارتها وربحها الفردوس الأعلى وهو أحسن الأرباح لكونه باقياً لايفنى ، وسائرها فانية لاتبقى ، ولاخير في خير فإن ، بل الشرّ الفاني أهون منه ، فإنّه إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائماً ، وقدً انقضى ، والثاني يبقى أسفه على انقطاعه دائماً.
أشدّ الغم عندي في سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالاً
     فكلّ نفس جوهر نفيس لاعوض له ممكن أن يشترى به كنز لايتناهى نعيمه أبداً ، فتضييعه أو صرفه إلى ما يؤدّي إلى الهلاك خسران عظيم لا تسمح به نفس عاقل ، فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضته فرّغ قلبه لمشارطة النفس وقال لها : « مالي بضاعة الا العمر وبفنائه يفنى رأس المال ، فلا يمكن الربح وهذا يوم جديد ، أمهلني الله فيه وأنعم به عليّ ، ولو متّ تمنّيت أن
1 ـ غافر : 17.
(467)
يرجعني إلى الدنيا ساعة أعمل فيها صالحاً ، فاحسبي وفاتك ثم ردّك ، فإيّاك والتضييع ، فإنّه لاغبن ولاحسرة أعظم من ذلك ، ولذا سمّي يوم القيامة بيوم التغابن » ، فهذه وصيّة لنفسه في أوقاته ، ثم يستأنف لها وصيّة في أعضائه السبعة ويسلّمها إليها لكونها خادمة لها ، وبها يتمّ أعمال التجارة ، فإنّ لجهنّم سبعة أبواب ، لكلّ باب منها جزء مقسوم ، فيتعيّن تلك الأبواب بالمعاصي بأحد هذه ، فيوصيها بحفظها عنها كالنظر إلى عورة المسلم أو وجه محرّم أو إلى المسلم بعين الحقارة ، بل عن كلّ فضول ولايقنع به ، بل يشغله بالنظر إلى عجائب صنع الله للاعتبار وإلى أعمال الخير للاقتداء وإلى مطالعة الكتاب والسنّة وكتب الحكمة للاتّعاظ ، وكذا يفعل في كلّ عضو سيّما البطن واللسان لانطلاق الثاني بالطبع وكثرة آفاته مع كونه مخلوقاً للذكر وغيره من الخيرات فيكلّفه ويشترط عليه عدم تحريكه الا بها ويكلّف البطن بترك الشره وتقليل الأكل والاجناب عن الشبهات فضلاً عن المحرّمات ، ثم يستأنف الوصيّة بوظائف الطاعات ويرتّب لها تفصيلها ، وكيفيّة الاستعداد لها ، فإ ذا عوّد على نفسه المشارطة أيّاماً وطاوعته في الوفاء بها استغنى عن المشارطة بعده ، لكن لايخلو في كلّ يوم عن مهمّ جديد وأمر حادث لله عليه فيه حقّ فيشترط عليها الاستقامة فيها و يعظها كما يوعظ العبد المتمرّد الآبق « وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ». (1)
     وأمّا المراقبة بعد ذلك ، فإذا خاض في الأعمال لاحظتها بالعين الكالئة.
     قال الصادق عليه السلام : « اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ». (2)
1 ـ الذاريات : 55.
2 ـ المحجة البيضاء : 8/155.

(468)
     قال الله تعالى : « إنّ الله كان عليكم رقيباً ». (1)
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ألم تر أنّ اليوم أسرع ذاهب خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا أنّ ما تخفي عليه يغيب وأنّ غداً للناظرين قريب
     فالمراقبة ملاحظة الرقيب وانصراف الهمّ إليه ، وهي حالة يثمرها نوع من المعرفة بأنّ الله مطّلع على الضمائر رقيب على أعمال العباد ، قائم على كلّ نفس بما كسبت ، فهذه المعرفة إذا صارت يقيناً ، ثمّ استولت على القلب وقهرته جرّت إلى مراعاة جانب الرقيب وصرف همّته إليه.
     ومراقبة العارفين الموقنين بما ذكر إمّا مراقبة التعظيم والاجلال ، أي استغراق القلب بملاحظته والانكسار تحته فلا يلتفت إلى غيره ، وحينئذ تكون الجوارح متعطّلة عن الالتفات إلى المباحات فضلاً عن المحظورات ، وإذا تحرّكت بالطاعات كانت كالمستعمل بها ، فلا يحتاج إلى تدبّر وتثبّت على حفظها بل تكون جارية على نهج السداد من غير تكلّف.
     ومن نال هذه الدرجة استغرق همّه بالله فقد يغفل عن الخلق حتى لايرى من يحضر عنده ولايسمع ما يقال له ، ولايبعد ذلك ، فإنك ترى من استغرق قلبه بمهم حقير من مهمّات الدنيا فيعرض (2) في الفكر فيه فيمشي فربّما يتخطّى عن مقصده وينسى الشغل الذي نهض له ، فكيف بمن استغرق همّه بملوك الدنيا ثم كيف بمن استغرق همّه بمالك الملوك ، فهذه مراقبة المقرّبين.
1 ـ النساء : 1.
2 ـ كذا ، وفي المحجة البيضاء : (8/157) فيغوص.

(469)
     وإمّا بغلبة اليقين بإطّلاع تعالى على ظاهرهم وباطنهم مع عدم دهشتهم بملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال ملتفتة إلى الأعمال والأحوال الا أنّه غلب عليهم الحياء من الله تعالى ، فلا يقدمون ولا يحجمون الا بعد التثبت فيه ويمتنعون عمّا يفضحهم في الآخرة ، فإنّهم يرونه تعالى في الدنيا مطّلعاً عليهم فلايحتاجون إلى انتظار القيامة ، وفرق ما بين الدرجتين يعرف بالتأمّل فيما تتعاطاه في خلوتك من الأعمال ، فبحضور صبيّ تعلم اطلاعه عليك تستحيي منه فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم ، بل عن حياء ، وبحضور ملك أو كبير تعظّمه وتجلّه تترك ماأنت فيه شغلاً به لا حياء منه ، وهذا يحتاج إلى مراقبة جميع حركاته وسكناته وكلّ اختياراته فينظر قبل العمل فيما تحرّك إليه خاطره أهو لله خاصّة أو في هوى نفسه ، فيتوقّف حتى ينكشف له بنور الحقّ فيمضيه في الأوّل دون الثاني بل يلوم نفسه فيه على الميل والهمّ ، وهذا التوقّف في بدو (1) الأمر واجب.
     ففي الخبر : « ينشر للعبد في كلّ حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين : الأوّل لم ، والثاني كيف ، والثالث لمن ». (2)
     ولايخلص من هذا الا بالمعرفة التامّة بأسرار الأعمال واغترارات النفس ومكائد الشيطان والتمييز بين ما يحبّه هواه أو يحبّه الله ويرضى به في نيّته وفكرته وسكونه وحركته ، والجاهل غير معذور ، بل ينبغي التوقّف حتى ينكشف بنور العلم أنّه لله فيمضيه ، أو لهوى النفس فيتّقيه ، فإنّ الخطرة الاولى في الباطل إذا لم تدفع أحدثت الرغبة المورثة للهمّ المورث للقصد الجازم المورث للفعل المنتج للبوار ، فلابدّ من حسم مادة الشرّ عن أصله أعني الخاطر وإن لم يستضيء له الحق لعجزه عن الفكر بنفسه استضاء بنور علماء
1 ـ كذا ، والصحيح : « بدء » فإنّ البدو بمعنى البادية لا الابتداء.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/158.

(470)
الدين المعرضين عن الدنيا.
     ثم ينظر عند الشروع في العمل بتفقّد كيفيّته ليقضي حقّ الله فيه ويحسن النيّة في إتمامه (1) ويكمل صورته ، وهذا ملازم له في جميع الحالات ، إذ لايخلو عن حركة وسكون ، فإذا راقب الله فيها قدر على عبادته تعالى بالنيّة ومراعاة الأدب و حسن الفعل فلايخلو العبد عن طاعة أو مباح أو معصية ، فمراقبته في الطاعة بالاخلاص والاكمال ومراعاة الآداب وحراستها عن الآفات ، وفي المباح بمراعاة الأدب وشهود المنعم في النعمة والشكر عليها وفي المعصية بالتوبة والندم والحياء والتدارك لما فات ، ولايخلو أيضاً عن مصيبة لابدّ له من الصبر عليها أو نعمة لابدّ له من الشكر عليها ، بل لاينفكّ عن فرض في الفعل أو الترك أو ندب يسارع به إلى المغفرة أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه والعون على طاعته تعالى ، ولكلّ من ذلك حدود لابدّ من مراعاتها بدوام المراقبة. « ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه ». (2)
     والساعات ثلاثة : ساعة فاتت لاتعب على العبد فيها كيف ماانقضت في تعب أو راحة ، ومستقبلة لايدري العبد يعيش إليها أم لا ، وما يقضي الله فيها ، وحاضرة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب ربّه ، فإن لم تأته الساعة المستقبلة لم يتحسرّ على فوت هذه الساعة ، وإن أتته استوفى حقّها أيضاً ، ولا يطول أمله بل يكون من وقته (3) كأنّه آخر أنفاسه ، فلعلّه كذلك وهو لايدري ، فيكون على وجه لايكره أن يدركه الموت على تلك الحالة ، ويكون له كما قبل أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكّر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها للطعام والشراب (4) ،
1 ـ كما في المحجّة البيضاء (8/162) وفي النسخ : إيمانه.
2 ـ الطلاق : 1.
3 ـ في المحجّة البيضاء (8/163) : بل يكون ابن وقته.
4 ـ المحجّة البيضاء : 8/164 مرسلاً.
كشف الغطاء ::: فهرس