كتاب كشف الغطاء ::: 531 ـ 540
(531)
الأخير للعلّة التامّة التي بها يصدر الفعل عن الفاعل المختار ، فلا تتحرّك الأعضاء نحو الفعل أو الترك الا بالقدرة المنتظرة للقصد المنتظر للداعي الباعث أي الشوق المنتظر للعلم أو الظنّ بكون ما يفعله أو يتركه موافقاً لغرضه أو منافياً.
     ثم الباعث قد يكون متّحداً كالانزعاج الحاصل من مشاهدة السبع مهتجماً عليه ، وحينئذ يسمّى إخلاصاً ، والنيّة خالصة عن ممازجة الغير ، وقد يتعدّد مع استقلال كلّ بالباعثية والانهاض لو انفرد كالذي يسأله الفقير القريب له فيقضي حاجته لفقره وقرابته مع العلم بأنّه لولا الفقر لحصل القضاء أيضاً بمجرّد القرابة وبالعكس ، أو عدمه مع الانفراد كمن يقصده الفقير الأجنبي أو الغنني القريب فلا يعطيه ويعطي قريبه الفقير والمتصدّق للثواب وثناء الناس ، ولو انفرد كلّ واحد لم يفعل ، أو استقلال أحدهما به دون الآخر وإن أعانه الآخر عليه وسهل الفعل بسببه على الفاعل كالذي يكون له ورد في العبادات وعادة في الصدقات فاتّفق حضور جماعة فصار بسبب ذلك أنشط على الفعل مع العلم بأنّه لو انفرد لم يترك ورده وعادته ، والباعث الذي يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً نذكر حكمه في الإخلاص.
     واعلم أنّ الطاعة غذاء للقلب والمقصود منها شفاؤه وبقاؤه وسلامته وتنعّمه بلقائه تعالى وسعادته ، ولن يتنعّم بلقائه تعالى الا من مات محبّاً لله عارفاً به ، ولن يحبّه الا من عرفه ، ولن يعرفه الا من دام فكره ، ولن يأنس به الا من طال ذكره ولن يتفرغ القلب لهما الا مع الفراغ عن شواغل الدنيا ، ولن يفرّغ عنها الا مع الانقطاع عن شهواتها حتى يميل إلى الخير ويريده وينفر عن الشر ويبغضه ، ولايتحقق الميل والنفرة الا مع العلم بإناطة السعادة بذلك.
     وإذا حصل أصل الميل بسبب المعرفة قوي بالعمل بمقتضاه والمواظبة عليه ، إذ المواظبة على صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء


(532)
والقوت لتلك الصفة حتّى تقوى بسببها فالمائل إلى العلم أو الرئاسة لايكون ميله إليهما في الابتداء الا ضعيفاً فإن اتّبع مقتضاه واشتغل به تأكّد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع والا ضعف وانكسر ، بل ربّما زال وانمحى ، وكذا سائر الصفات والخيرات ، فإنّ الطاعات ما يراد للآخرة والشرور مايراد للدنيا ، فميل النفس إلى الاولى وانصرافها عن الأخرى هو الذي يفرغها للذكر والفكر ولن يتأكّد الا بأعمال الطاعات وترك المعاصي والمواضبة عليهما بالجوارح ، لأنّ بين القلب والجوارح ارتباطاً تامّاً يتأثّر كلّ منهما بتأثّر الآخر الا أنّ القلب هو الأصل والأمير والجوارح كالخدّام والرعايا له تؤكّد فصاتها فيها ، وحينئذ يظهر أنّ أعمال القلب أفضل من الجوارح ، وانّ النيّة من بينها أفضل ، لأنّها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وليس الغرض من أعمال الجوارح الا تعويد القلب على ذلك حتّى يتفرّغ عن الشهوات وينكبّ على الذكر والفكر ، وهذا كما أنّ تداوي المعدة [ بالشرب خير من طلاء الصّدر ، إذ لم يرد من الطّلاء الا سراية الأثر من الصّدر إلى المعدة ، وتأثّر المعدة ] (1) من الشرب أكثر.
     ومنه يظهر معنى قوله صلى الله عليه وآله : « نية المرء خير من عمله » (2) أي إذا اجتمع العمل مع النيّة كان هذا الجزء أنفع من الجزء الآخر فلا تظنّن أنّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث لصوقها بها ، بل لتأكيده صفة التواضع في القلب ، وكذا مسح رأس اليتيم يؤكّد الرقّة في قلبه ، ولهذا قيل : « لا عمل الا بنية » (3) ، فإنّ الماسح لرأس اليتيم إذا كان غافلاً أو ظانّاً أنّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه بتأكّد الرقّة ، ونحوه الساجد الذاهل ، فكان وجودهما كعدمهما في الغرض المطلوب منهما فيكونان باطلين
1 ـ ساقط من « ج ».
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/109 ، وفيه : « نيّة المؤمن ».
3 ـ الكافي : 2/84 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب النيّة ، ح1 ، عن زين العابدين عليه السّلام.

(533)
لغوين. وإن انضمّ إليه قصد رياء مثلاً ازداد شرّاً لتأكّد الصفة التي أريد قمعها ، أي الرياء الذي هو من جملة الميل إلى الدنيا ، وبه يظهر سرّ ماورد من « أنّ من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة » (1) لأنّ همّ القلب ميله إى الخير وانصرافه عن الشر ، وذلك غاية الحسنات ، وإنّما العمل مؤكّد له.
     واعلم أنّ المعاصي لاتتغيّر عن موضوعاتها ولاتنقلب طاعة بالنيّة فمن يغتاب إنساناً مراعاة لغيره أو يطعم فقيراً من مال غيره و يبني مسجداً او رباطاً أو مدرسة من مال حرام وقصده الخير ونحو ذلك فهو جاهل ، إذ لاتؤثّر في إخراجها عن كونها ظلماً وعدواناً ، بل قصد الخير بالشرّ على خلاف مقتضى الشرع شرّ آخر لمعاندته للشرع مع علمه وعصيانه بجهله معه ، إذ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، والجاهل غير معذور ، الا إذا كان قريب عهد بالاسلام ولم يجد بعد مهلة التعلّم ، ومن ذلك تعليم العلم للسفهاء المقصور همّتهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء استمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين والمساكين وهم قطّاع طريق الله تعالى يتّبعون الهوى ويتباعدون عن التقوى ويستجريء الناس بسبب مشاهدتهم على معاصي الله ، ثم ينتشر ذلك العلم إلى أمثالهم وهكذا ووبال الجميع لى المعلّم الذي علّم العلم أوّلاً مع علمه بفساد نيّته.
     والعجب من جهل هذا المعلّم حيث يقول : إنّما الأعمال بالنيّات ، وقد قصدت به نشر الدين فإن استعمله في الفساد كان المعصية منه لا منّي ، وهذا تلبيس من الشيطان عليه بواسطة حبّ الرئاسة وغرور منه ، فهو كمن وهب سيفاً قاطعاً من قاطع طريق وأعدّ له أسبابه وقال : أردت البذل والسخاء وقصدت به أن يغزو بها في سبيل الله تعالى ، فإنّه من أعظم المثوبات ، فإن هو صرفه إلى المعاصي كان هو المعاصي ، ولاشكّ في حرمة ذلك ، بل إذا لاح له من عادته الاستعانة بها على الشرّ وجب السعي في سلب سلاحه لا
1 ـ الكافي : 2/428 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، ح1.
(534)
إعانته بسلاح آخر ، والعلم أيضاً سلاح يقاتل به الشيطان فمن لايزال مؤثراً لدنياه على دينه وهو عاجز عن الميل إلى الآخرة لضعف يقينه ، فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكّن معه من الوصول إلى شهواته ، فإذن المعصية لاتنقلب طاعة بالنيّة وإن تضاعف وزرها بانضمام مقاصد خبيثة إليها كما أشرنا إليها وعظم وبالها كما أشرنا إليه في باب التوبة.
     وأمّا الطاعة فهي مرتبطة بالنيّة في أصل صحّتها بأن ينوي بها عبادة الله لاغير فلو نوى الرياء صارت معصية كما مرّ ، وفي زيادة فضلها أيضاً بكثرة النيّات الحسنة فيكون له بكلّ نيّة ثواب كالقعود في المسجد الذي هو طاعة ويكثر ثوابه بكثرة النيّات الحسنة كاعتقاد أنّه بيت الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما عوده الرسول وانتظار الصلاة بعد أخرى والترهّب بكفّ السمع والبرصر سائر الأعضاء ، فإنّ الاعتكاف في المسجد نوع من الصوم الذي هو الكفّ ، ولذا ورد : « رهبانية أمّتي القعود في المساجد » (1) وعكوف الهمّ على الله تعالى ولزوم السرّ للفكر في الآخرة ورفع الشواغل عن نفسه بالاعتزال في المسجد والتجرّد لذكر الله تعالى أو استماعه أو التذكّر به لما روي : « أنّ من فعل ذلك كان كالمجاهد في سبيل الله » (2) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ لا يخلو المسجد عن تارك معروف أو الآتي بمنكر ، أو استفادة أخ في الله لكون السمجد معشر (3) أهل الدين المحبّين لله وفي الله ، وترك المعاصي حياء من الله وخوفاً من هتك حرمته ، وقس عليه سائر الطاعات.
     وأمّا المباحات فما من شيء منها إلا ويحتمل نيّة أو نيّات يصير بها من محاسن القربات وما بها يصير من المساوي والسيّئات ، فما أخسر من ذهل عنها وتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن شهوة وغفلة ، فلا ينبغي استحقار
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/117.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/117.
3 ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : (8/117) : معشّش.

(535)
خطرة أو خطوة أو لحظة لأنّ كلّ ذلك مسؤول عنه يوم القيامة ، فمن تطيّب بطيب يمكنه أن يقصد التنعّم بلذّات الدنيا الذي هو مباح أو التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق ليتحبّب به إلى الناس أو يتودّد به إلى قلوب النساء الأجنبيّات ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة التي تجعل الفعل معصية أنتن من الجيفة ، أو اتّباع سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وتعظيم المسجد واحترام بيته تعالى وترويح جيرانه ليستريحوا من روائحه في المسجد ونحوه ودفع الروائح الكرية المؤدّية إلى إيذاء الناس ومعالجة دماغه ليزيد به ذكاءه ويسهل عليه الفكر ونحو ذلك ، ولذلك قيل : « [ إنّي ] لاستحبّ أن يكون لي نيّة في كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والنوم ودخول الخلاء » (1) ونحوها ، إذ كلّ ذلك إنما يمكن أن يقصد به وجه الله تعالى كالتقوّي على العبادة من الأكل ، وتحصين دينه وتطييب قلب أهله وحصول ولد يعبد الله ويكثر به أمّة محمّد صلى الله عليه وآله من الجماع.
     فإيّاك أن تستحقر شيئاً من حركاتك وسكناتك ، فلا تحترز من غرورها وشرورها ولاتعدّ جوابها يوم السؤال والحساب ، فإنّ الله مطّلع عليك وشهيد. (ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد). (2)
     فراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرّك مالم تتأمّل أوّلاً أنّك لم تتحرّك ولم تسكن وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا وما يفوتك به من الآخرة وبماذا ترجّح الدنيا على الآخرة ، فإذا علمت أنّه لا باعث الا الدين فامض على عزمك ، وراقب أيضاً قلبك في إمساكك وتركك ، فإنّ ترك الفعل أيضاً فعل ، ولابدّ أيضاً له من نيّة صحيحة ، فلا يكون لداعي هوى خفيّ لاتطّلع عليه ولاتغرّنك ظواهر الأمور.
     فقد روي أنّ زكريّا عليه السلام كان يعمل بالطين في حائط وكان أجير القوم
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/119.
2 ـ ق : 18.

(536)
فقدّموا إليه رغيفين إذ كان يأكل الا من كسب يده ، فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ ، فتعجّبوا منه لما علموا من سخائه وزهد ، فقال : إنّي أعمل للقوم بأجرة وقدّموا إليّ الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم ، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. (1)
     فإنّ ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في نفل (2) ولا حكم للفضائل مع الفرائض. فهكذا ينبغي للبصير أن ينظر إلى البواطن بنور الله تعالى.
     واعلم أنّ النية لاتحصل بمجرّد حديث النفس وحديث اللسان أو النتقال من خاطر إلى خاطر ، بل هي على ما عرفت انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنّ فيه غرضاً عاجلاً أو آجلاً ، فلا يمكن اختراع الميل بمجرّد الارادة كما لايمكن أن يقول الفارغ : نويت أن أعشق فلاناً وأحبّه ، بل لاطريق إلى اكتساب الميل الا باكتساب أسبابه المقدورة تارة وغير المقدورة أخرى ، وإنّما ينبعث النفس إلى الفعل إجابة إلى الغرض الباعث الموافق للنفس ومالم يعتقد الإنسان أنّ غرضه منوط بفعل لم يتوجه إليه قصده ، وذلك ممّا لايقدر عليه كلّ حين ، وإذا اعتقد فإنما يتوجّه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه بشاغل أقوى ، وذلك لايمكن في كلّ حين ، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع ، وتختلف ذلك بالأشخاص والأحوال والأعمال ، فمن يغلب عليه شهوة النكاح من دون اعتقاد غرض صحيح في الولد ديناً ودني لايمكنه الوقاع على نيّة الولد إذ النيّة إجابة الباعث ولا باعث الا الشهوة ، ومن لم يغلب عليه عظم فضل النكاح اتّباعاً لسنّة الرسول صلى الله عليه وآله لايمكنه نيّة اتّباع السنّة الا بحديث اللسان أو النفس.
     نعم طريق اكتسابها تقوية إيمانه بالشرع أوّلاً وبعظم ثواب كثرة أمّة
1 ـ المحجّة البيضاء : 8/120 ـ 121.
2 ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : « فضل » ويؤيّده التعليل.

(537)
النبي صلى الله عليه وآله ثانياً ، ودفع منفّرات الولد من ثقل المؤونة وطول التعب وغيره عن نفسه ثالثاً ، فإذا فعل ذلك انبعث رغبته إلى تحصيل الولد للثواب وحركة أعضائه لمباشرة العقد ، فإذا انتهضت القدرة المحرّكة للّسان لقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغلب على القلب كان نوياً ، والا كان مايقدره في نفسه ويردّده من قصد الولد وسواساً وهذياناً ، ولمّا كان الانبعاث المذكور يجري مجرى الفتوح من الله تعالى يتيسّر في بعض الأوقات دون بعض الا لمن كان الغالب عليه أمر الدين وقلبه مائلاً إلى الخيرات إجمالاً ، فإنّه ينبعث إلى التفاصيل غالباً امتنع أكابر السلف في كثير من الأوقات عن جملة من الطاعات ، إذ لم يحضرهم النيّة خالصاً له تعالى ، والعمل بدونها رياء موجب للمقت دون القرب فالطاعة على نيّة إجلال الله تعالى واستحقاقه الطاعة والعبودية لايتيسّر للراغب في الدنيا فهذه أعزّ مراتب النيّة وأعلاها ويعزّ من يفهمها فضلاً عمّن يتعاطاها.
     وأمّا العمل إجابة لباعث الخوف من النار أو رجاء الجنّة فهو وإن كان من جملة النيّات الصحيحة لكونه ميلاً إلى الموعود في الآخرة ، الا أنّه نازل بالنسبة إلى الأوّل لكونه من جنس المألوف في الدنيا ، وباعثه باعث البطن والفرج الذي موضع قضاء وطره الجنّة ، وعبادة المقرّبين العارفين لايجاوز ذكر الله والفكر لجلاله وعظمته ودرجتهم أرفع من الالتفات إلى المنكوح المطعوم في الجنّة وإنّما يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه لاغير ، ويتنعّمون بلقاء الله تعالى كما يتنعّم عبدالبطن بأكل الحلاوات ولحوم الطيرويسخرون ممّن يتنعّم بالنظر إلى الحور العين ، كما يسخر ذلك ممّن يتنعّم بالنظر إلى الصور المصنوعة من الطين ، بل أشدّ من ذلك وأعظم بيقين ، بل عمى أكثر القلوب عن إبصار جماله وجلاله أيضاً هي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء ، ولايزال الفرق يختلفون « كلّ حزب بما لديهم فرحون ». (1)
1 ـ الروم : 32.
(538)
     وبالجملة؛ فالنيّات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها لم يتيسّر له العدول عنها ، ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً يستنكرها أكثر الخلائق من الظاهريين الذين لم يتفطّنوا لهذه الدقائق ، فمن حضرت له نيّة في مباح ولم تحضر له في فضيلة ، فالمباح أولى وانتقل (1) إلى الفضيلة كما انتقلت إلى النقيصة ، فالأكل والشرب والنوم بنيّة التقوّي للعبادة في المستقبل مع عدم انبعاثها نحو الصوم والصلاة هو الأفضل.

تلخيص
     قد علم مما ذكر ، أنّ النيّة روح الأعمال ففي الحقيقة يترتّب الجزاء عليها.
     قال النبيّ صلى الله عليه وآله : « إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ماهاجر إليه ». (2)
     وعن النبي صلى الله عليه وآله : « أن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول : ألقوا هذه فإنّه لم يرد بها وجهي ، ثم ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا ، فيقولون : ربّنا إنّه لم يعمل شيئاً من ذلك ، فيقول : إنّه نواه ، إنّه نواه ». (3)
     وقال الصادق عليه السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن ولو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : « قل كلّ يعمل على شاكلته » (4) أي على نيّته ». (5)
1 ـ أي انتقل المباح في حقّه إلى الفضيلة ، كما انتقلت الفضيلة إلى النّقيصة.
2 ـ المحجّة البيضاء : 8/103.
3 ـ المحجّة البيضاء : 8/103.
4 ـ الإسرار : 84.
5 ـ الكافي : 2/85 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب النيّة ، ح5.

(539)
     واعلم أيضاً أنّ أعلى مراتبها إرادة وجهه تعالى من حيث كونه أهلاً للعبادة ومحبّته له واستغراقه في بحار جلاله وعظمته ومشاهدته فأنس به وفرح بعبادته وإلى هذه المرتبة أشار علي عليه السلام بقوله :
     « إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك لكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ». (1)
     وأدنى منها قصد الثواب أو الخنوف من العقاب كما أشرنا إليه ولا تصغ إلى من قال ببطلان العبادة بذلك زعماً منه أنّه مناف لقصد الاخلاص الّذي هو إرادة الله وحده ، لأنّه قصد جلب نفع لنفسه ودفع ضرّ عنها لا وجه الله تعالى ، فإنّ أكثر الناس لإلفهم بالمحسوسات يتعذّر عليهم الوصول إلى مرتبة فهم تلك المرتبة ، فلا يعرفون منه تعالى الا المرجوّ والمخوف فلو كلّفوا بذلك عموماً كان تكليفاً بما لايطاق لما عرفت من عدم إمكان حصولها الا بعد قطع الشهوات وقمعها والإعراض عن الدنيا بالكليّة والإقبال إلى الله وحبّه وأنسه المتفرّعين على كمال معرفته وحصولها لعامّة الناس غير ممكن ولو كلفوا بذلك لفسدت المعائش وبطل النظام.
     والمراد من الاخلاص المشروط في صحّة النيّة المشروطة في العبادة أن لاتكون مشوبة بحظوظ الدنيا والأغراض النفسانية دون الحظوظ الأخرويّة وإن كانت ممّا يشابهها ، ولو كان ذلك مفسداً للعبادة بطل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب بالجنّة والنار.
     وأمّا قول الصادق عليه السلام : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلباً لثوابه فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّاً له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (2) فهو وإن دلّ على ذمّ القسمين ونقصان درجاتهما الا أنّ آخره صريح في صحّتهما ، بل كونهما مستلزماً لفضل وإن كان أقلّ وهو عين ما حققناه.
1 ـ بحار الأنوار : 41/14 ، غوالي اللئالي : 10/404.
2 ـ الكافي : 2/84 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب العبادة ، ح5 ، مع اختلاف.

(540)
فصل
     الإخلاص شرط في النيّة.
     « وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ». (1)
     « ألا الله الدين الخالص ». (2)
     « الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ». (3)
     وعن النبي صلى الله عليه وآله : « قال الله تعالى : الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي ». (4)
     وعن أميرالمؤمنين عليه السلام : « ما من عبد يخلص العمل لله أربعين صباحاً الا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ». (5)
     وكفاه فضلاً أنّ الشيطان اللعين لم يستثن الا المخلصين ، فلا يتخلّص العبد من حبائله الا بالإخلاص.
     واعلم أنّ كلّ شيء يتصوّر أن يشوبه غيره ، فإذا خلص وصفا عنه سمّي خالصاً.
     قال الله تعالى : « من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ». (6)
     وضدّ الإخلاص الإشراك ، وللشرك درجات ، فمنه خفي ومنه جلّي ، فهما يتواردان على القلب وإنّما يكون ذلك في القصود والنيّات ، وقد أشرنا إلى أنها ترجع إلى إجابة البواعث وأنّه إذا اتّحد الباعث سمّي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضالة إلى المنوي ، فالمتصدّق لمحض الرياء مشرك محض ولمحض التقرّب إلى الله مخلص ، وقد تكلّمنا في الرياء بما لا مزيد عليه ،
1 ـ البيّنة : 5.
2 ـ الزمر : 3.
3 ـ النساء : 146.
4 ـ المحجّة البيضاء : 8/125.
5 ـ المحجّة البيضاء : 8/126 ، عن النبي صلى الله عليه وآله.
6 ـ النحل : 66.
كشف الغطاء ::: فهرس