كفاية الاصول ::: 211 ـ 225
(211)
    ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ، وأنه لازم خصوصية الحكم في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية ، نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة ، كانت بالمنطوق ، كما هو ليس ببعيد ، وإن كان تعيين ذلك لا يكاد يفيد.
    ومما يدل على الحصر والاختصاص ( إنما ) وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك ، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة.
    ودعوى ـ أن الانصاف (1) أنه لا سبيل لنا إلى ذلك ، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا ، حتى يستكشف منها (2) ما هو المتبادر منها ـ غير مسموعة ، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.
    وربما يعد مما دل على الحصر ، كلمة ( بل ) الاضرابية.
    والتحقيق أن الاضراب على أنحاء :
    منها : ماكان لاجل أن المضرب عنه ، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له على الحصر أصلا ، فكأنه أتى بالمضرب إليه ابتداء ، كما لا يخفى.
    ومنها : ما كان لاجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له عليه أيضا.
    ومنها : ما كان في مقام الردع ، وإبطال ما أثبت أولا ، فيدل عليه (3) وهو
1 ـ المدعي هو الشيخ ( قدس ) مطارح الانظار / 188.
2 ـ في « ب » : منه.
3 ـ إذا كان بصدد الردع عنه ثبوتا ، وأما إذا كان بصدده إثباتا ، كما إذا كان مثلا بصدد بيان أنه إنما أثبته أولا بوجه لا يصح معه الاثبات اشتباها ، فلا دلالة له على الحصر أيضا ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره )


(212)
واضح.
    ومما يفيد الحصر ـ على ما قيل ـ تعريف المسند إليه باللام.
    والتحقيق أنه لا يفيده إلا فيما اقتضاه المقام ، لان الاصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، كما أن الاصل في الحمل في القضايا المتعارفة ، هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود ، فإنه الشائع فيها ، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم ، كما لا يخفى ، وحمل شيء على جنس وماهية كذلك ، لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به وحصرها عليه ، نعم ، لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق ، أو أن مدخوله أخذ بنحو الارسال والاطلاق ، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لافيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به.
    وقد انقدح بذلك الخلل في كثير من كلمات الاعلام في المقام ، وما وقع منهم من النقض والابرام ، ولا نطيل بذكرها فإنه بلا طائل ، كما يظهر للمتأمل ، فتأمل جيدا.
فصل
    لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم ، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما أصلا ، وقد عرفت أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم ، كما أن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لانه ليس بذاك الخاص والمقيد ، وأما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالاضافة إلى كلا طرفيه ، نعم لو كان لمجرد التحديد بالنظر إلى طرفه الاقل لما كان في الزيادة ضير أصلا ، بل ربما كان فيها فضيلة وزيادة ، كما لا يخفى.
    وكيف كان ، فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنما يكون لاجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق ، كما هو معلوم.


(213)
المقصد الرابع
العام والخاص


(214)

(215)
    قد عرف (1) العام بتعاريف ، وقد وقع من الاعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (2) الشارحة ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (3) الحقيقية ، كيف ؟ وكان المعنى المركوز منه في الاذهان أوضح مما عرف به مفهوما ومصداقا ، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقياس في الاشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة يعتريه من أحد ، والتعريف لابد أن يكون بالاجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.
    فالظاهر أن الغرض من تعريفه ، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الاحكام ، لا بيان ما هو حقيقته (4) وماهيته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الاحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الاحكام.
1 ـ راجع معارج الاصول / 81 ، وزبدة الاصول / 95 ، والمستصفى 2 / 32.
2 و 3 ـ في « أ » : بالما ، وفي « ب » : بالماء.
4 ـ في « ب » حقيقة.


(216)
    ثم الظاهر أن ما ذكر له من الاقسام : من الاستغراقي (1) والمجموعي والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام به ، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الامر أن تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخل بإكرام واحد في ( أكرم كل فقيه ) مثلا ، لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الاولى ، فإنه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.
    وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها ، فافهم.
فصل
    لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه ـ لغة وشرعا ـ كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ ( كل ) وما يرادفه في أي لغة كان تخصه ، ولا يخص الخصوص ولا يعمه ، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية ، بادعاء أنه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص.
    ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ، ولو في ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى ، ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع ، حتى قيل : ( ما من عام إلا وقد خص ) ، والظاهر يقتضي كونه حقيقة ، لما هو الغالب تقليلا للمجاز ، مع أن تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به ، مع
1 ـ إن قلت : كيف ذلك ؟ ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر ، مثل ( أي رجل ) للبدلي ، و ( كل رجل ) للاستغراقي.
قلت : نعم ، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الاقسام له بملاحظة إختلاف كيفية تعلق الاحكام ، لعدم إمكان تطرق هذه الاقسام إلا بهذه الملاحظة ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).


(217)
كون العموم كثيرا ما يراد ، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية ، كما يأتي توضيحه ، ولو سلم فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة ، كما لا يخفى.
فصل
    ربما عد من الالفاظ الدالة على العموم ، النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا ، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة ، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلا كانت موجودة ، لكن لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة (1) لا مبهمة قابلة للتقيد ، وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب ، لما أريد منها يقينا ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فإنها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ ( كل ) على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.
    نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا ـ بناء على إفادته للعموم ـ ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره ، وإطلاق التخصيص على تقييده ، ليس إلا من قبيل ( ضيق فم الركية ) ، لكن دلالته على العموم وضعا محل منع ، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما ، كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.
1 ـ وإحراز الارسال فيما اضيفت [ إليه ] إنما هو بمقدمات الحكمة ، فلولاها كانت مهملة ، وهي ليست إلا بحكم الجزئية ، فلا تفيد إلا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها ، فافهم فإنه لا يخلو من دقة ( منه قدس سره ).

(218)
فصل
    لا شبهة في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقى فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا ولو كان متصلا ، وما احتمل دخوله فيه أيضا إذا كان منفصلا ، كما هو المشهور (1) بين الاصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلا إلى بعض (2) أهل الخلاف. وربما فصل (3) بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه ، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته.
    واحتج النافي بالاجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات ، وتعيين (4) الباقي من بينها بلا معين ترجيح بلا مرجح.
    والتحقيق في الجواب أن يقال : إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا ، أما في التخصيص بالمتصل ، فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلا ، وإن أدوات العموم قد استعملت فيه ، وإن كان دائرته سعة وضيقا تختلف باختلاف ذوي الادوات ، فلفظة ( كل ) في مثل ( كل رجل ) و ( كل رجل عالم ) قد استعملت في العموم ، وإن كان أفراد أحدهما بالاضافة إلى الآخر بل في نفسها في غاية القلة.
    واما في المنفصل ، فلان إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاص قرينة عليه ، بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة ، وكون الخاص مانعا عن حجية ظهوره تحكيما للنص ، أو الاظهر على الظاهر ، لامصادما لاصل ظهوره ، ومعه لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل فيه مجازا ، كي يلزم الاجمال.
1 ـ أنظر مطارح الانظار / 192.
2 ـ كأبي ثور وعيسى بن أبان ، راجع الاحكام في أصول الاحكام ، الجزء الثاني / 443.
3 ـ كالبلخي ، راجع المصدر المتقدم / 444.
4 ـ في « ب » تعين.


(219)
    لا يقال : هذا مجرد احتمال ، ولا يرتفع به الاجمال ، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.
    فإنه يقال : مجرد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم ، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية تحكيما لما هو الاقوى ، كما أشرنا إليه آنفا.
    وبالجملة : الفرق بين المتصل والمنفصل ، وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الاول إلا في الخصوص ، وفي الثاني إلا في العموم ، إلا أنه لا وجه لتوهم استعماله مجازا في واحد منهما أصلا ، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الاول ، وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثاني ، فتفطن.
    وقد أجيب عن الاحتجاج (1) ، بأن الباقي أقرب المجازات.
    وفيه : لا اعتبار في الاقربية بحسب المقدار ، وإنما المدار على الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال.
    وفي تقريرات بحث شيخنا الاستاذ (2) ( قدس سره ) في مقام الجواب عن الاحتجاج ، ما هذا لفظه : والاولى أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي ، بأن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة ، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالاصل عدمه ، انتهى موضع الحاجة.
1 ـ الجواب للمحقق القمي والمحقق الحائري ، القوانين 1 / 266 الفصول / 200
2 ـ مطارح الانظار / 192 ، في العموم والخصوص.


(220)
    قلت : لا يخفى أن دلالته على كل فرد إنما كانت لاجل دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص ـ كما هو المفروض ـ مجازا ، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه ، واستعمال العام فيه مجازا ممكنا ، كان تعين (1) بعضها بلا معين ترجيحا بلا مرجح ، ولا مقتضي لظهوره فيه ، ضرورة أن الظهور إما بالوضع وإما بالقرينة ، والمفروض أنه ليس بموضوع له ، ولم يكن هناك قرينة ، وليس له موجب آخر ، ودلالته على كل فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم ، لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم ، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه ، فالمانع عنه وإن كان مدفوعا بالاصل ، إلا أنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع ، نعم إنما يجدي إذا لم يكن مستعملا إلا في العموم ، كما فيما حققناه في الجواب ، فتأمل جيدا.
فصل
    إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا ، بأن كان دائرا بين الاقل والاكثر وكان منفصلا ، فلا يسري إجماله إلى العام ، لا حقيقة ولا حكما ، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص ، لوضوح أنه حجة فيه بلا مزاحم أصلا ، ضرورة أن الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه ، تحكيما للنص أو الاظهر على الظاهر ، لا فيما لا يكون كذلك ، كما لا يخفى.
    وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا ، أو بين الاقل والاكثر فيما كان متصلا ، فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين ، وحقيقة في غيره :
1 ـ في « أ » : تعيين.

(221)
    أما الاول : فلان العام ـ على ما حققناه (1) ـ كان ظاهرا في عمومه ، إلا أنه يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.
    وأما الثاني : فلعدم (2) انعقاد ظهور من رأس للعام ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الاقل والاكثر ، أو لكل واحد من المتباينين ، لكنه حجة في الاقل ، لانه المتيقن في البين.
    فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل ، وكذا في المجمل بين المتباينين والاكثر والاقل ، فلا تغفل.
    وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق ، بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون فردا له أو باقيا تحت العام ، فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلا به ، ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص ، كما عرفت.
    وأما إذا كان منفصلا عنه ، ففي جواز التمسك به خلاف ، والتحقيق عدم جوازه ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه ، أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة ، ولا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده ، فخطاب ( لا تكرم فساق العلماء ) لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل ( أكرم العلماء ) ولا يعارضه ، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة ، وهو في غاية الفساد ، فإن الخاص وإن لم يكن دليلا في الفرد المشتبه فعلا ، إلا أنه يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوانه من الافراد ، فيكون ( أكرم العلماء ) دليلا وحجة في العالم الغير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقا للعام بلا كلام ، إلا أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة ، لاختصاص حجيته بغير الفاسق.
    وبالجملة العام المخصص بالمنفصل ، وإن كان ظهوره في العموم ، كما إذا
1 ـ في صفحة 219.
2 ـ في « ب » : ولعدم.


(222)
لم يكن مخصصا ، بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت ، إلا أنه في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله ، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين ، فلابد من الرجوع إلى ما هو الاصل في البين ، هذا إذا كان المخصص لفظيا.
    وأما إذا كان لبيا ، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم ، إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص ، وإن لم يكن كذلك ، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه.
    والسر في ذلك ، أن الكلام الملقى من السيد حجة ، ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلا إذا قال المولى : ( أكرم جيراني ) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوا له منهم ، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ، للعلم بعدواته ، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا ، فإن قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلا ، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته ، إلا فيما قطع أنه عدوه ، لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة ، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.
    وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما ، بإلقاء حجتين هناك ، تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ، كأنه لم يعمه حكما من رأس ،


(223)
وكأنه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في ( اكرم جيراني ) مثلا ، لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته ، فإنه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.
    بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك ، أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه ، فيقال في مثل ( لعن الله بني أمية قاطبة ) (1) : إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج أنه ليس بمؤمن ، فتأمل جيدا.
    إيقاظ : لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالاصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلا ما شذ ـ ممكنا ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام ، ضرورة أنه قلما لا يوجد (2) عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك أن امرأة تكون قرشية ، فهي وإن كانت وجدت اما قرشية أو غيرها ، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها ، إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش (3) تجدي في تنقيح أنها ممن لا تحيض إلا إلى خمسين ، لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش (4) انتساب أيضا باقية تحت ما دل على أن المرأة إنما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف.
    وهم وإزاحة : ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك
1 ـ كامل الزيارات / 176 ، الباب 71.
2 ـ في « ب » : لم يوجد.
3 و 4 ـ في « أ و ب » القريش.


(224)
في فرد ، لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل ( أوفوا بالنذور ) فيما إذا وقع متعلقا للنذر ، بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات (1) وفي السفر (2) إذا تعلق بهما النذر كذلك.
    والتحقيق أن يقال : إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لاحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها ، إذا أخذ في موضوعاتها أحد الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الاولية (3) ، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه في الامور المباحة أو الراجحة ، ضرورة أنه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الاطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته.
    نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه ، فيما لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا ، فإذا شك في جوازه صح (4) التمسك بعموم دليلها في الحكم بجوازها ، وإذا كانت محكومة بعناوينها الاولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية ، وقع (5) المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الاقوى منهما لو
1 ـ التهذيب 5 / 53 ، الاحاديث 8 إلى 10 من باب 6 المواقيت.
الاستبصار 2 / 161 الاحاديث 8 إلى 10 من باب 93 من أحرم قبل الميقات ، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 8 / 236 الباب 13 من ابواب المواقيت.
2 ـ التهذيب 4 / 235 الحديث 63 و 64 من باب 57 حكم المسافر والمريض في الصيام وللمزيد راجع وسائل الشيعة 7 / 139 الباب 10 من ابواب من يصح منه الصوم الحديث 1 و 7.
3 ـ في « أ » : الاولوية.
4 ـ في « أ » : فصح.
5 ـ في « أ » : فتقع.


(225)
كان في البين ، وإلا لم يؤثر أحدهما ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر ، كالاباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والآخر للحرمة مثلا.
    وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناء على عدم صحته فيه بدونه ـ وكذا الاحرام قبل الميقات ، فإنما هو لدليل خاص ، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات ، وإنما لم يأمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر ، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدل عليه ما في الخبر من كون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت (1).
    لا يقال : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما ، ضرورة كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الاتيان بالمنذور بأي داع كان.
    فإنه يقال : عباديتهما إنما تكون لاجل كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ، ملازم لتعلق النذر بهما ، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل ، وإلا أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما ، بعد تعلق النذر بإتيانهما عباديا ومتقربا بهما منه تعالى ، فإنه وإن لم يتمكن من إتيانهما كذلك قبله ، إلا أنه يتمكن منه بعده ، ولا يعتبر في حصة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمل جيدا.
    بقي شيء ، وهو أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص ؟ في إحراز عدم كون ما شك في أنه من مصاديق العام ، مع العلم بعدم كونه محكوما
1 ـ لم نعثر على الخبر المشار إليه في المتن ، ولكن ورد أنه كمن صلى في السفر اربعا وترك الثنتين.
راجع الكافي 4 / 321 الحديث 2 ، 6 من باب من احرم دون الوقت.
كفاية الاصول ::: فهرس