كفاية الاصول ::: 226 ـ 240
(226)
بحكمه ، مصداقا له ، مثل ما إذا علم أن زيدا يحرم إكرامه ، وشك في أنه عالم ، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص ( أكرم العلماء ) أنه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الاحكام.
    فيه إشكال ، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه ، كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الاصول اللفظية وإن كان حجة ، إلا أنه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل.
فصل
    هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ؟ فيه خلاف ، وربما نفي (1) الخلاف عن عدم جوازه ، بل ادعي الاجماع (2) عليه ، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام ، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا ؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به ؟ بعد الفراغ عن (3) اعتبارها بالخصوص في الجملة ، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والياس.
    فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص ، فيما إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لاجل أنه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك ،
1 ـ الغزالي في المستصفى 2 / 157.
2 ـ مطارح الانظار / 197 ، قال : « بل ادعى عليه الاجماع كما عن النهاية » ولم نعثر عليه في مظانه من النهاية ، راجع نهاية الاصول / 139. ونقل الاجماع عن الغزالي والامدي ، راجع فواتح الرحموت 1 / 267.
3 ـ في « ب » : من.


(227)
كيف ؟ وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه ، فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز ، كما لا يخفى.
    وأما إذا لم يكن العام كذلك ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به (1) أو حصول الظن بما هو التكليف (2) ، أو غير ذلك رعايتها ، فتختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى.
    ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال أنه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ، ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى.
    إيقاظ : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا ، وبينه في الاصول العملية ، حيث أنه هاهنا عما يزاحم الحجة (3) ، بخلافه هناك ، فإنه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا ، إلا أن الاجماع بقسميه على تقييده به ، فافهم.
فصل
    هل الخطابات الشفاهية مثل : ( يا أيها المؤمنون ) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين ؟
1 ـ استدل بهذا الوجه الشيخ ( قده ) مطارح الانظار / 202 ، رابعها.
2 ـ راجع زبدة الاصول / 97.
3 ـ في « ب » : الحجية.


(228)
    فيه خلاف ، ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام.
    فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين ، أم لا ؟ أو في صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها ، أو في عموم الالفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب ، للغائبين بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما ، بقرينة تلك الاداة.
    ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الاولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الاخير لغويا.
    إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة ، نعم هو بمعنى إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فيه أصلا ، فإن الانشاء خفيف المؤونة ، فالحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة ، طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر.
    ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا ، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده ، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا.
    وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط ، فإمكانه بمكان


(229)
من الامكان.
    وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة ، وعدم إمكانه ، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه.
    ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو كان موضوعا للخطاب الحقيقي ، لاوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره ، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك ، بل للخطاب الايقاعي الانشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا وتأسفا وحزنا مثل :
يا كوكبا ما كان أقصر عمره (1) .................
    أو شوقا ، ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصح مخاطبته ، نعم لا يبعد دعوى الظهور ، انصرافا في الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (2) ، من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في
1 ـ وعجزه .... وكذاك عمر كواكب الاسحار.
وهو من رائية ابو الحسن التهامي في رثاء ولده الذي مات صغيرا ، وهي في غاية الحسن والجزالة وفخامة المعنى وجودة السرد وصدرها :
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار
سجن بالقاهرة سنة 416 ثم قتل سرا. رأه بعض اصحابه بعد موته في المنام وساله عن حاله قال : غفر لي ربي ، فقال : باي الاعمال. قال : بقولي في مرثية ولدي الصغير :
جاورت اعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
( شهداء الفضيلة : 24 )
2 ـ في مبحث الاوامر / 64.


(230)
الواقعي منها انصرافا ، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : ( يا أيها الناس اتقوا ) و ( يا أيها المؤمنون ) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتياب.
    ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالادوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية.
    وتوهم كونه ارتكازيا ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزا ، وإلا فمن أين يعلم بثبوته كذلك ؟ كما هو واضح.
    وإن أبيت إلا عن وضع الادوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الالهية بأداة الخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام بدون الاداة كغيرها بالمشافهين ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.
    وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلا عن الغائبين ، لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال ، فاسد ، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى ، كما أن خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود ، كان قاصرا عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة ، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا أيها الناس اتقوا في الكتاب حقيقة إلى غير النبي صلى الله عليه وآله بلسانه.
    وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما ، فلا محيص إلا عن كون الاداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا ، وعليه لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعم المعدومين ، فضلا عن الغائبين.


(231)
فصل
    ربما قيل : إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان :
    الاولى (1) : حجية ظهور خطابات (2) الكتاب لهم كالمشافهين.
    وفيه : إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلم ، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك ، وإن لم يعمهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الاخبار.
    الثانية (3) : صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم ، لثبوت الاحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين ، وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف ، وعدم صحته على عدمه ، لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين ، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف ، حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الاحكام ، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الاجماع ، ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف ، كما لا يخفى.
    ولا يذهب عليك ، أنه يمكن إثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له ، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق ، مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان ، وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الاحكام ، لا الاتحاد فيما كثر
1 ـ ذكرها المحقق القمي ( ره ) في القوانين 1 / 233 ، في الخطابات المشافهة.
2 ـ في « ب » : الخطابات.
3 ـ راجع كلام المحقق الوحيد البهبهاني ( قده ) في كتاب ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد / 55.


(232)
الاختلاف بحسبه ، والتفاوت بسببه بين الانام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والايام ، وإلا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين ـ فضلا عن المعدومين ـ حكم من الاحكام.
    ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين ، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان ، لو [ لم ] (1) يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضا ، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم ، لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم ، فتأمل جيدا.
    فتلخص : أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه ، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام ، واشير (2) إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.
فصل
    هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، يوجب تخصيصه به أو لا ؟ فيه خلاف بين الاعلام.
    وليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين ، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ، كما في قوله تبارك وتعالى : « والمطلقات يتربصن » إلى قوله « وبعولتهن أحق بردهن » (3) وأما ما إذا كان مثل : والمطلقات ازواجهن احق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به.
1 ـ اثبتناه من « ب ».
2 ـ في رده للثمرة الاولى / 231.
3 ـ البقرة : 228.


(233)
    والتحقيق أن يقال : إنه حيث دار الامر بين التصرف في العام ، بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه ، أو التصرف في ناحية الضمير : إما بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسع في الاسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوزا ، كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير ، وذلك لان المتيقن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد ، لا في تعيين كيفية الاستعمال ، وإنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الاسناد مع القطع بما يراد ، كما هو الحال في ناحية الضمير.
    وبالجملة : أصالة الظهور إنما يكون حجة فيما إذا شك فيما أريد ، لا فيما إذا شك في أنه كيف اريد ، فافهم ، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ، بأن لا يعد ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا ، وإلا فيحكم عليه بالاجمال ، ويرجع إلى ما يقتضيه الاصول ، إلا أن يقال باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا ، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول.
فصل
    قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف ، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق ، على قولين ، وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور.
    وتحقيق المقام : أنه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما إن كانت


(234)
بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة ، أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم ، ولا مفهوم ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لاجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ، فلا بد من العمل بالاصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلا كان مانعا عن انعقاد الظهور ، أو استقراره في الآخر.
    ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ، ذاك الارتباط والاتصال ، وأنه لا بد أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل ، لو لم يكن في البين أظهر ، والا فهو المعول ، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.
فصل
    الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل (1) أو خصوص الاخيرة (2) ، أو لا ظهور له في واحد منهما (3) ، بل لابد في التعيين من قرينة ؟ أقوال.
    والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الاخيرة على أي حال ، ضرورة أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل ، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم (4) ( رحمه الله ) حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه ، أنه محل الاشكال والتأمل.
1 ـ نسبه السيد المرتضى ( ره ) إلى مذهب الشافعي وأصحابه ، الذريعة إلى أصول الشريعة : 1 / 249 ، راجع المعتمد في أصول الفقه : 1 / 245 ، وشرح المختصر للعضدي : 1 / 260.
2 ـ في المصدرين المتقدمين أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
3 ـ الذريعة إلى اصول الشريعة 1 / 249.
4 ـ معالم الدين / 127 ، حيث قال : ولنقدم على توجيه المختار مقدمة ... الخ.


(235)
    وذلك ضرورة أن تعدد المستثنى منه ، كتعدد المستثنى ، لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الاداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا ، وكان المستعمل فيه الاداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا ، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما.
    وبذلك يظهر أنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع ، أو خصوص الاخيرة ، وإن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير ، نعم غير الاخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه ، فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول.
    اللهم إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا ، لا من باب الظهور ، فيكون المرجع (1) عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا ، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ، فتأمل (2).
فصل
    الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز بالكتاب ، أو بالخبر المتواتر ، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد ، بلا ارتياب ، لما هو الواضح من سيرة الاصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الائمة عليهم السلام ، واحتمال أن يكون ذلك
1 ـ في « ب » : مرجع.
2 ـ إشارة إلى أنه يكفي في منع جريان المقدمات ، صلوح الاستثناء لذلك ، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه ، لاعتقاد أنه كاف فيه ، اللهم إلا أن يقال : إن مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه ، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، فأصالة الاطلاق مع عدم القرينة محكمة ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فافهم ( منه قدس سره ).


(236)
بواسطة القرينة واضح البطلان.
    مع أنه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.
    وكون العام الكتابي قطعيا صدورا ، وخبر الواحد ظنيا سندا (1) ، لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا ، وإلا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا ، مع أنه جائز جزما.
    والسر : أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية (2) على التصرف فيها ، بخلافها ، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره ، ولا ينحصر (3) الدليل على الخبر بالاجماع ، كي يقال بأنه فيما لا يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية (4) يسقط وجوب العمل به. كيف ؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية.
    والاخبار الدالة على أن الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها (5) أو ضربها على الجدار ، أو أنها زخرف (6) ، أو أنها مما لم يقل به الامام عليه السلام (7) ، وإن كانت كثيرة جدا ، وصريحة الدلالة على طرح المخالف ، إلا
1 ـ انظر معالم الدين / 147 ، في جواز تخصيص الكتاب بالخبر ..
2 ـ في « ب » : للقرينة.
3 ـ رد على ما أجاب به المحقق عن استدلال المجوزين لتخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، معارج الاصول / 96.
4 ـ في « ب » دلالة القرائنة.
5 ـ أصول الكافي : 1 / 69 باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب. وسائل الشيعة 18 / 78 الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
6 ـ اصول الكافي : 1 / 69 الحديث 3 ، 4 ، وسائل الشيعة 18 / 78 الحديث 12 و 14.
7 ـ اصول الكافي 1 / 69 الحديث 5 ، وسائل الشيعة / 18 / 79 الحديث 15.


(237)
أنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الاخبار غير مخالفة العموم ، إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا ، كيف ؟ وصدور الاخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم عليهم السلام كثيرة جدا ، مع قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعا ـ وإن كان هو على خلافه ظاهرا ـ شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه ، فافهم.
    والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالاجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قل الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.
فصل
    لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين ، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا ومنسوخا ، فيكون الخاص : مخصصا تارة ، وناسخا مرة ، ومنسوخا أخرى ، وذلك لان الخاص إن كان مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له.
    وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا ، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلا لكان الخاص أيضا مخصصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.
    وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له ، وإن كان الاظهر أن يكون الخاص مخصصا ، كثرة التخصيص ، حتى اشتهر ( ما من عام الا وقد خص ) مع قلة النسخ في الاحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في


(238)
الدوام ـ ولو كان بالاطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى ، هذا فيما علم تاريخهما.
    وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العملية.
    وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا ، وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا ، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب ، إلا أنه لا دليل على اعتباره ، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام اظهر من العام ، كما أشير إليه ، فتدبر جيدا.
    ثم إن تعين الخاص للتخصيص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلا فلا يتعين له ، بل يدور بين كونه مخصصا (1) وناسخا في الاول ، ومخصصا ومنسوخا في الثاني ، إلا أن الاظهر كونه مخصصا ، وإن كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام (2) ، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جدا في الاحكام.
    ولا بأس بصرف (3) الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ ، فاعلم أن
1 ـ لا يخفى أن كونه مخصصا بمعنى كونه مبينا بمقدار المرام عن العام ، وناسخا بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الامر في مورد الخاص ، مع كونه مرادا ومقصودا بالافهام في مورده بالعام كسائر الافراد ، وإلا فلا تفاوت بينهما عملا أصلا ، كما هو واضح لا يكاد يخفى ( منه قدس سره ).
2 ـ في « ب » : ولو فيما كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهور الخاص في الخصوص.
3 ـ في « ب » : لصرف.


(239)
النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلا أنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار ، أو ليس له دوام واستمرار ، وذلك لان النبي صلى الله عليه وآله الصادع للشرع ، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وأنه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.
    وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العلم ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى ، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة ، ولا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للامر به امتنع النهي عنه ، وإلا امتنع الامر به ، وذلك لان الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لارادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الامر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة ، وإنما كان إنشاء الامر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.
    وأما البداء في التكوينيات (2) بغى ذاك المعنى ، فهو مما دل عليه الروايات المتواترات (3) ، كما لا يخفى ، ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به ، مع علمه بأنه يمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشير إليه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لانه حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والاثبات اطلع على
1 ـ في بعض النسخ المطبوعة : وإلا لزم.
2 ـ في « ب » : التكوينات.
3 ـ الوافي : 1 / 112 ، باب البداء.


(240)
ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقا على [ أمر ] (1) غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : « يمحو الله ما يشاء ويثبت » (2) الآية ، نعم من شملته العناية الالهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [ هو ] من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ماهي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الانبياء ، ولبعض الاوصياء ، كان عارفا بالكائنات (3) كما كانت وتكون.
    نعم مع ذلك ، ربما يوحى إليه حكم من الاحكام ، تارة بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام ، معه أنه في الواقع له غاية وأمد يعينها (4) بخطاب آخر ، وأخرى بما يكون ظاهرا في الجد ، مع أنه لا يكون واقعا بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما أنه يؤمر وحيا أو الهاما بالاخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع ، لاجل حكمة في هذا الاخبار أو ذاك الاظهار ، فبدا له تعالى بمعنى أنه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانيا.
    وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع إنه في الحقيقة الابداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الالباب.
    ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ ، ضرورة أنه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأسا ، وعلى النسخ ، على ارتفاع حكمه عنه من حينه ، فيما دار الامر بينهما في المخصص ، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام ، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا ، وعلى النسخ كان محكوما به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى.
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الرعد : 39.
3 ـ في « ب » : على الكائنات.
4 ـ في « ب » : يتعينها.
كفاية الاصول ::: فهرس