كفاية الاصول ::: 256 ـ 270
(256)

(257)
    وقبل الخوض في ذلك ، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الاحكام ، وإن كان خارجا من مسائل الفن ، وكان أشبه بمسائل الكلام ، لشدة مناسبته مع المقام.
    فاعلم : أن البالغ الذي وضع عليه القلم ، إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإما أن يحصل له القطع به ، أولا ، وعلى الثاني ، لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة ـ وإلا فالرجوع إلى الاصول العقلية : من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
    وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاصه أحكامه بما إذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به ـ على ما ستطلع عليه ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة (1) شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثليث الاقسام.
    وإن أبيت إلا عن ذلك ، فالاولى أن يقال : إن المكلف إما أن يحصل له
1 ـ فرائد الاصول / 2.

(258)
القطع أولا ، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام ، ومرجعه على الاخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق ، على تفصيل يأتي في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها.
    وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي رسم أمور :
    الامر الاول : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ، ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا ، وتأثيره في ذلك لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.
    ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضا بتبع جعله بسيطا.
    وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا ، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الاصابة ، كما لا يخفى.
    ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة ، وذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان مما سكت الله عنه ، كما في الخبر (1) ، فلاحظ وتدبر.
    نعم ، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي (2) تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو
1 ـ الفقيه 4 / 53 ، باب نوادر الحدود ، الحديث 15.
2 ـ في بداية مبحث الامارات ص 277.


(259)
التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر.
    الامر الثاني : قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الاصابة ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئا ؟
    الحق أنه يوجبه ، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتكه لحرمة مولاه (1) وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قيامه (2) بما هو قضية عبوديته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته ، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وإن كان مستحقا للوم (3) أو المدح بما يستتبعانه ، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.
    وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الاطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.
    ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى [ به ] أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن
1 ـ في الاصل : وهتك حرمته لمولاه ، والصحيح ما أثبتناه.
2 ـ في الاصل : إقامته ، والصحيح ما أثبتناه.
3 ـ في هامش « ب » من نسخة أخرى : للذم.


(260)
أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته (1) أصلا ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا ، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له ، ولو اعتقد العبد بأنه عدوه ، وكذا قتل عدوه ، مع القطع بأنه إبنه ، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا. هذا.
    مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به ، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا ، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي ، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا ؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية.
    إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار ؟
    قلت : العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
    إن قلت : إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختيارية ، وإلا لتسلسل.
    قلت : ـ مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلا أن بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه
1 ـ في هامش ( ب ) من نسخة أخرى : بجهة.

(261)
من تبعة العقوبة واللوم والمذمة ـ يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما أنه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، وإن لم يكن باختياره (1) إلا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه ، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانه (2) ، وإذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال ب‍ ( لم ) فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات. وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان ؟ والمطيع والمؤمن الاطاعة والايمان ؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا ؟ والانسان لم يكون ناطقا ؟
    وبالجملة : تفاوت أفراد الانسان في القرب منه تعالى (3) والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، [ وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ] ، وتفاوتها في ذلك بالاخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.
    إن قلت : على هذا ، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والانذار.
    قلت : ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته ، لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه « ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله » (5) ، قال الله تبارك وتعالى :
1 ـ كيف لا ، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ، فإنها هي المخالفة العمدية ، وهي لا تكون بالاختيار ، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري ، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية ، وهي غير موجبة للاستحقاق ، وإنما الموجبة له هي العمدية منها ، كما لا يخفى على أولى النهى ( منه قدس سره ).
2 ـ المطبوع في « ب » إمكانا ، ولكن صححه المصنف ( قده ) بما في المتن.
3 ـ في « ب » : جل شأنه وعظمت كبرياؤه.
4 ـ أثبتناها من « ب ».
5 ـ الاعراف : 43.


(262)
« وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين » (1) وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته « ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة » (2) كيلا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة.
    ولا يخفى أن في الآيات (3) والروايات (4) ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه لا حاجة إلى ما استدل (5) على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله : إنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ، مع بطلانه وفساده ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه ، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه ، وهو مخالفته عن عمد واختيار ، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا ، ولو بلا اختيار ، بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار ، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر ، مع أنه لم يكن بالخمر ، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.
    ثم لا يذهب عليك : إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم (6) ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة ، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما ، كما لا يخفى ؛ ولا منشأ لتوهمه ، إلا بداهة أنه ليس في
1 ـ الذاريات : 55.
2 ـ الاسراء : 36. والبقرة : 225 و 284. والاحزاب : 5.
3 ـ الكافي 2 / 69 باب النية من كتاب الايمان والكفر. وللمزيد راجع وسائل الشيعة 1 / 35 ، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10.
4 ـ استدل به المحقق السبزواري ، ذخيرة المعاد / 209 ـ 210.
5 ـ راجع الفصول / 87 ، التنبيه الرابع من مقدمة الواجب.


(263)
معصية واحدة إلا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الان عن وحدة السبب.

    الامر الثالث : إنه قد عرفت (1) أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب ، يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب ، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه ، لا يماثله ولا يضاده ، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه ( إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا ) تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ موجبا لذلك ، وأخرى بنحو يكون جزؤه وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له ، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به ، وذلك لان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ـ ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ـ صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، بإلغاء جهة كشفه ، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها ، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه ، فتكون أقسامه أربعة ، مضافا إلى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا.
    ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات المعتبرة ـ بدليل حجيتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم ، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الاقسام ، بل لابد من دليل آخر على التنزيل ، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار ، لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات.
    ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو
1 ـ في الامر الاول صفحة 258.

(264)
الكشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا ، كسائر مالها (1) دخل في الموضوعات أيضا ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته ، وقيام (2) دليل على اعتباره ، ما لم يقم دليل على تنزيله ، ودخله في الموضوع كدخله.
    وتوهم (3) كفاية دليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعا ومن جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا ، فاسد جدا. فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال ، لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين ، حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، ولحاظهما في أحدهما آلي ، وفي الآخر استقلالي ، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.
    نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين ، والمفروض أنه ليس ، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي ، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه بناء على استحقاق المتجري ، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي ، فيكون مثله في دخله في الموضوع ، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.
    لا يقال : على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين ، ما لم يكن هناك قرينة في البين.
    فإنه يقال : لا إشكال في كونه دليلا على حجيته ، فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه ، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام
1 ـ في حقائق الاصول : ماله ، الحقائق 2 : 24.
2 ـ في « ب » : أو قيام دليل ... الخ.
3 ـ تعريض بما ذكره الشيخ الانصاري ( قده ) فرائد الاصول / 4.


(265)
للاعلام.
    ولا يخفى أنه لو لا ذلك ، لامكن أن يقوم الطريق بدليل واحد ـ دال على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فيما (1) أخذ في الموضوع على نحو الصفتية ، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.
    فتلخص مما ذكرنا : إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس بمأخوذ (2) في الموضوع أصلا.
    وأما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها ـ أيضا ـ غير الاستصحاب ، لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والاحكام ، من تنجز التكليف وغيره ـ كما مرت (3) إليه الاشارة ـ وهي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا.
    لا يقال : إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان.
    فإنه يقال : أما الاحتياط العقلي ، فليس إلا لاجل حكم العقل بتنجز التكليف ، وصحة العقوبة على مخالفته ، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم.
    وأما النقلي ، فإلزام الشارع به ، وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلا أنه لا نقول به في الشبهة البدوية ، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الاجمالي ، فافهم.
    ثم لا يخفى إن دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ
1 ـ الظاهر أنه رد على الشيخ حيث فصل بين القطع الموضوعي الطريقي وبين القطع الموضوعي الصفتي ، من جهة قيام الامارة مقامه وعدم قيامها مقامه ، فرائد الاصول / 3.
2 ـ في « ب » : مأخوذا.
3 ـ في ص 264 عند قوله : ( فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ... ).


(266)
في الموضوع مطلقا ، وإن مثل ( لا تنقض اليقين ) لا بد من أن يكون مسوقا إما بلحاظ المتيقن ، أو بلحاظ نفس اليقين.
    وما ذكرنا في الحاشية (1) ـ في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع ، وأن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع ، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما ، وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة ـ لا يخلو من تكلف بل تعسف. فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع أو قيده ، بما هو كذلك بلحاظ أثره ، إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان ، أو تنزيله في عرضه ، فلا يكاد يكون دليل الامارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع ، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر ، فيما لم يكن محرزا حقيقة ، وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة ، كما في ما نحن فيه ـ على ما عرفت (2) ـ لم يكن دليل الامارة دليلا عليه أصلا ، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى ، فإن الملازمة (3) إنما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي ، وتنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى ، فتأمل جيدا ، فإنه لا يخلو عن دقة.
    ثم لا يذهب عليك أن (4) هذا لو تم لعم ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف.
    الامر الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا
1 ـ حاشية المصنف على الفرائد / 8 في كيفية تنزيل الامارة مقام القطع.
2 ـ في عدم إمكان الجمع بين اللحاظين / 264.
3 ـ في بعض النسخ المطبوعة زيادة هنا حذفها المصنف من نسختي « أ » و « ب ».
4 ـ في « أ » و « ب » : إنه.


(267)
الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولاضده للزوم اجتماع الضدين ، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده.
    وأما الظن بالحكم ، فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون ، إلا أنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، كان جعل حكم آخر في مورده ـ مثل الحكم المظنون أو ضده ـ بمكان من الامكان.
    إن قلت : إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا ، بأن يكون الظن متعلقا بالحكم الفعلي ، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله ضده ، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين ، وإنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر ، كما في القطع ، طابق النعل بالنعل.
    قلت : يمكن أن يكون الحكم فعليا ، بمعنى أنه لو تعلق به القطع ـ على ما هو عليه من الحال ـ لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف ، برفع جهله لو أمكن ، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة ، وإلى ضده أخرى ، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده ، كما لا يخفى ، فافهم.
    إن قلت : كيف يمكن ذلك ؟ وهل هو إلا أنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين ؟.
    قلت : لا بأس بإجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى ـ أي لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز ـ مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الاصل أو الامارة ، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص ، على ما سيأتي (1) من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
1 ـ في بحث الامارات / 278 ، عند قوله : لان أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه ... إلخ.

(268)
    الامر الخامس : هل تنجز التكليف بالقطع ـ كما يقتضي موافقته عملا ـ يقتضي موافقته إلتزاما ، والتسليم له اعتقادا وانقيادا ؟ كما هو اللازم في الاصول الدينية والامور الاعتقادية ، بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما بحسب القلب والجنان ، والاخرى بحسب العمل بالاركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملا ، أو لا يقتضي ؟ فلا يستحق العقوبة عليه ، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية.
    الحق هو الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بذلك ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن متسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له ، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده ، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا ، كما لا يخفى.
    ثم لا يذهب عليك ، إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، لو كان المكلف متمكنا منها لوجب ، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما ، كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته ، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا ، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ، وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة.
    وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه ، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا ، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضده تخييرا.
    ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول


(269)
الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية ، مع قطع النظر عنه ، كما لا يدفع (1) بها محذور عدم الالتزام به (2). إلا أن يقال : إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الاطراف ، ومعه لا محذور فيه ، بل ولا في الالتزام بحكم آخر.
    إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي ، مع عدم ترتب أثر علمي عليها ، مع أنها أحكام عملية كسائر الاحكام الفرعية ، مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه ، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها ، كما ادعاه (3) شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، وإن كان محل تأمل ونظر ، فتدبر جيدا.

    الامر السادس : لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا ، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف ، ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه ، كما هو الحال غالبا في القطاع ، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ، ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.
    نعم (4) ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كل مورد ، فربما يدل على اختصاصه بقسم في
1 ـ إشارة إلى ما في فرائد الاصول / 19 ، عند قوله : وأما المخالفة الغير العملية ... الخ.
2 ـ هنا زيادة في بعض النسخ المطبوعة حذفها المصنف من نسختي « أ » و « ب ».
3 ـ فرائد الاصول / 429 ، عند قوله : بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض ... الخ.
4 ـ قد نبه الشيخ في فرائد الاصول / 3 ، على هذا الاستدراك.


(270)
مورد ، وعدم اختصاصه به في آخر ، على اختلاف الادلة واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الاحكام والموضوعات ، وغيرها من الامارات.
    وبالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ، ولا من حيث المورد ، ولا من حيث السبب ، لا عقلا ـ وهو واضح ـ ولا شرعا ، لما عرفت (1) من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا ، وإن نسب إلى بعض الاخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية ، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها ، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي (2) عن السيد الصدر (3) في باب الملازمة ، فراجع.
    وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية ، لانها لا تفيد إلا الظن ، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي ـ رحمه الله ـ حيث قال ـ في جملة ما استدل به في فوائده (4) على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين ( عليهم السلام ).
    الرابع : إن كل مسلك غير ذلك المسلك ـ يعني التمسك بكلامهم ( عليهم الصلاة والسلام ) ـ إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا
1 ـ تقدم في الامر الاول : 258.
2 ـ راجع ما حكاه الشيخ عن السيد الصدر : فرائد الاصول : 11 ، وكلام السيد الصدر في شرح الوافية.
3 ـ السيد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القمي ، أخذ من أفاضل علماء إصفهان ، كالمدقق الشيرواني والاقا جمال الدين الخونساري والشيخ جعفر القاضي ، ثم إرتحل إلى قم ، فأخذ في التدريس إلى أن اشتعلت نائرة فتنة الافغان ، فانتقل منها إلى موطن أخيه الفاضل بهمدان ثم منها إلى النجف الاشرف ، فاشتغل فيها على المولى الشريف أبي الحسن العاملي والشيخ أحمد الجزائري ، تلمذ عليه الاستاذ الاكبر المحقق البهبهاني ، له كتاب « شرح الوافية » توفي في عشر الستين بعد المئة والالف وهو ابن خمس وستين سنة ( الكنى والالقاب 2 / 375 ).
4 ـ الفوائد المدنية : 129.
كفاية الاصول ::: فهرس