كفاية الاصول ::: 271 ـ 285
(271)
سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها ) وقال في جملتها أيضا ـ بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ـ ما هذا لفظه (1) :
    ( وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسكنا بغيره لم يعصم عنه ، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا ، ألا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلك الامر محل ، لانه قبيح ، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى ) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ في الرسالة (2).
    وقال في فهرست فصولها (3) أيضا :
    ( الاول : في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله ، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام ) ، انتهى.
    وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه ، هو العقلي الغير المفيد للقطع ، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.
    وكيف كان ، فلزوم اتباع القطع مطلقا ، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته ، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا ، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن
1 ـ المصدر السابق : 130 ، مع اختلاف يسير.
2 ـ فرائد الاصول / 9 مبحث القطع.
3 ـ الفوائد المدنية / 90 ، باختلاف غير قادح في العبارة.


(272)
فاضل ، فلابد فيما يوهم (1) خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي (2) لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له ، ولو إجمالا ، فتدبر جيدا.
    الامر السابع : إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علة تامة لتنجزه ، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا ، فهل القطع الاجمالي كذلك ؟
    فيه إشكال ، ربما يقال : إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، جاز الاذن من الشارع بمخالفته احتمالا بل قطعا ، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا [ إلا ] (3) محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة ، بل الشبهة البدوية (4) ، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والاذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلا ، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في الاطراف المحصورة أيضا ، كما لا يخفى ، [ وقد أشرنا إليه سابقا ، ويأتي (5) إن شاء الله مفصلا ] (6).
    نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء ، لا في العلية التامة (7) ، فيوجب تنجز التكليف أيضا لو لم يمنع عنه مانع عقلا ، كما كان في أطراف كثيرة غير
1 ـ المحاسن / 286 ، الحديث 430 ـ الكافي : 2 / 16 ، الحديث 5. الوسائل : 18 / الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 37.
2 ـ في هامش « ب » عن نسخة أخرى : العقلي.
3 ـ أثبتناه من « ب ».
4 ـ كان هنا اشكال آخر ضرب عليه المصنف في نسختي « أ » و « ب ».
5 ـ تقدم في الامر الرابع / 267 ، عند قوله : قلت : لا بأس باجتماع ... الخ ، ويأتي في أوائل البحث عن حجية الامارات.
6 ـ شطب المصنف على هذه العبارة في ( ب ).
7 ـ لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة ـ على ما يأتي ـ لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعليا والحكم الظاهري الفعلي ، كان الحكم الواقعي في موارد الاصول والامارات المؤدية


(273)
محصورة ، أو شرعا كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها ، كما هو ظاهر ( كل شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه ) (1).
    وبالجملة : قضية صحة المؤاخذة على مخالفته ، مع القطع به بين أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها ، أو مع الاذن في الاقتحام فيها ، هو كون القطع الاجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة.
    وأما احتمال (2) أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية ، وبنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية ، فضعيف جدا. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجبا لجواز الاذن في الاقتحام ، بل لو صح الاذن في المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا ، فافهم.
    ولا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك ، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال ـ بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية ـ هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا وعدم ثبوته ، كما لا مجال بعد
إلى خلافه لا محالة غير فعلي ، فحينئذ فلا يجوز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الاذن في مخالفته ، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالا بلزوم موافقته وإطاعته. نعم لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعا أو عقلا ، كما إذا كان مخلا بالنظام ، فلا تنجز حينئذ ، لكنه لاجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك ، كان الامر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام ، فإنه أيضا موجب للخلل في المعلوم ، لا المنع عن تأثير العلم شرعا ، وقد انقدح بذلك أنه لا مانع عن تأثيره شرعا أيضا ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).
1 ـ باختلاف يسير في العبارة : الكافي 5 / 313 باب النوادر من كتاب المعيشة ، الحديث 39. التهذيب 7 / 226 ، الباب 21 من الزيادات ، الحديث 8 ، الفقيه 3 / 216 ، الباب 96 الصيد والذبايح الحديث 92.
2 ـ هذه إشارة إلى التفصيل في حجية العلم الاجمالي كما يستفاد من كلمات الشيخ الانصاري في مبحث العلم الاجمالي / 21 ، عند قوله : ( وأما المخالفة العملية فإن كانت ... ) ، ومبحث الاشتغال / 242 ، عند قوله : ( نعم لو أذن الشارع ... ).


(274)
البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلا ، كما لا يخفى.
    هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به ، وأما سقوطه به بأن يوافقه إجمالا ، فلا إشكال فيه في التوصليات. وأما [ في ] (1) العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ، كما إذا تردد أمر عبادة بين الاقل والاكثر ، لعدم الاخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها ، مما لا يمكن أن يؤخذ فيها ، فإنه نشأ من قبل الامر بها ، كقصد الاطاعة والوجه والتمييز فيما إذا أتى بالاكثر ، ولا يكون إخلال حينئذ إلا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها ، واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.
    وأما فيما احتاج إلى التكرار ، فربما يشكل (2) من جهة الاخلال بالوجه تارة ، وبالتمييز أخرى ، وكونه لعبا وعبثا ثالثة.
    وأنت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه ، غاية الامر أنه لا تعيين له ولا تمييز فالاخلال إنما يكون به ، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف ، لعدم عين منه ولا أثر في الاخبار ، مع أنه مما يغفل عنه غالبا ، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلا لاخل بالغرض ، كما نبهنا عليه سابقا (3).
    وأما كون التكرار لعبا وعبثا ، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي ، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى ، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها ، كما لا يخفى ، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال.
    وأما إذا لم يتمكن الا من الظن به كذلك ، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره ، إلا فيما إذا لم يتمكن منه ، وأما لو قام على اعتباره
1 ـ من هامش ( ب ) عن نسخة أخرى.
2 ـ راجع كلام الشيخ قدس فرائد الاصول / 299 ، في الخاتمة في شرائط الاصول.
3 ـ في مبحث التعبدي والتوصلي ، 76.


(275)
مطلقا ، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال الظني ، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد ، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه العسر المخل بالنظام ، أو لانه ليس من وجوه الطاعة والعبادة ، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار ، كما توهم ، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك.
    وعليه : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ، وإن احتاط فيها ، كما لا يخفى.
    هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام ، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.
    فيقع المقام فيما هو المهم من عقد هذا المقصد ، وهو بيان ما قيل باعتباره من الامارات ، أو صح أن يقال ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور :
    أحدها : إنه لا ريب في أن الامارة الغير العلمية ، ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية ، بل مطلقا ، وأن ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا ، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف ، ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين (1) الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل.
    ثانيها : في بيان إمكان التعبد بالامارة الغير العلمية شرعا ، وعدم لزوم
1 ـ لعله المحقق الخوانساري ( ره ) كما قد يستظهر من بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك ( الخلل ) ، راجع مشارق الشموس / 147.

(276)
محال منه عقلا ، في قبال دعوى استحالته للزومه ، وليس (1) الامكان بهذا المعنى ، بل مطلقا أصلا متبعا (2) عند العقلاء ، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه ، ومنع حجيتها ـ لو سلم ثبوتها ـ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه ، فما ظنك به ؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه ، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا ، أو على الحكيم تعالى ، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الامكان ، وبدونه لا فائدة في إثباته ، كما هو واضح.
    وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ من كون الامكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا ، والامكان في كلام الشيخ الرئيس (4) : ( كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان ) ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والايقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلا الوجدان ، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.
    وكيف كان ، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال ، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور :
    أحدها : إجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب ، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام.
1 ـ هذا تعريض بالشيخ ( ره ) حيث اعترض على المشهور بما لفظه : ( وفي هذا التقرير نظر ... ) ، فرائد الاصول / 24 ، في إمكان التعبد بالظن.
2 ـ في « أ » : بأصل متبع.
3 ـ فرائد الاصول / 24 ، في إمكان التعبد بالظن.
4 ـ راجع الاشارات والتنبيهات : 3 / 418 ، النمط العاشر في أسرار الآيات ، نصيحة.


(277)
    ثانيها : طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.
    ثالثها : تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وكونه محكوما بسائر الاحكام.
    والجواب : إن ما ادعي لزومه ، إما غير لازم ، أو غير باطل ، وذلك لان التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجريا وانقيادا مع عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة ، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والارادة ، كما لا يخفى.
    وأما تفويت مصلحة الواقع ، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا ، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء.
    نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للاحكام التكليفية ، أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الاحكام ، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم ، إلا أنهما ليسا بمثلين أو ضدين ، لان احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه الموجب للتنجز ، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما ، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الاعلى ، إلا أنه إذا أوحى بالحكم الناشئ (1) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي ، أو ألهم به الولي ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (2) ، الارادة أو الكراهة الموجبة للانشاء بعثا أو زجرا ، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل إنما كانت في نفس
1 ـ في « ب » : الشاني.
2 ـ أثبتناها من « أ ».


(278)
إنشاء الامر به طريقيا. والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، موجبة لارادته أو كراهته ، الموجبة لانشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية ، وإن لم يكن في المبدأ الاعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة وكراهة ، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا ، ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ، فافهم.
    نعم يشكل الامر في بعض الاصول العملية ، كأصالة الاباحة الشرعية ، فإن الاذن في الاقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا ، كما فيما صادف الحرام ، وإن كان الاذن فيه لاجل مصلحة فيه ، لا لاجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه ، فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا ، كما في المبدأ الاعلى ، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي ، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية ، فيما إذا لم ينقدح فيها الاذن لاجل مصلحة فيه.
    فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاصول والامارات فعليا ، كي يشكل تارة بعدم لزوم الاتيان حينئذ بما قامت الامارة على وجوبه ، ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الاتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
    لا يقال : لا مجال لهذا الاشكال ، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الامارة إليها إنشائية ، لانها بذلك تصير فعلية ، تبلغ تلك المرتبة.
    فإنه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبدا ، إلا حكم إنشائي تعبدا ، لا حكم إنشائي أدت إليه الامارة ، أما


(279)
حقيقة فواضح ، وأما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها (1) هو الواقع تعبدا ، لا الواقع الذي أدت إليه الامارة ، فافهم.
    أللهم إلا أن يقال : إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ الذي صار مؤدى لها ـ هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء ، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا ، وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى.
    وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك ؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاصول العملية المتكلفة لاحكام فعلية ، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله.
    فلا يصح التوفيق بين الحكمين ، بالتزام كون الحكم الواقعي ـ الذي يكون مورد الطرق ـ إنشائيا غير فعلي ، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك لا يكاد يجدي ، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلا أنه يكون في مرتبته أيضا.
    وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة ، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.
    ثالثها : إن الاصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به واقعا ، عدم حجيته جزما ، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا ، فإنها لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها ، إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا ، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون
1 ـ في « أ » : مؤداه.

(280)
مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا ، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
    وأما صحة الالتزام (1) بما أدى إليه من الاحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى ، فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا ـ على تقرير الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها ، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا ، كما أشرنا إليه آنفا.
    فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز إسناده (2) إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ نفسه الزكية ، بما أطنب من النقض والابرام ، فراجعه بما علقناه (4) عليه ، وتأمل.
    وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الاصل ، فتدبر جيدا.
    إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.
1 ـ هذا تعرض بالشيخ ، فرائد الاصول / 30 في المقام الثاني.
2 ـ في « ب » : الاستناد.
3 ـ راجع فرائد الاصول / 30.
4 ـ حاشية فرائد الاصول / 44 ، عند قوله : ولا يخفى أن التعبد ... الخ.


(281)
فصل
    لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة ، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الافادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح.
    والظاهر (1) أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا ، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف.
    كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه ، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.
    ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والائمة الطاهرين ، وإن ذهب بعض الاصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب.
1 ـ إشارة إلى التفصيلين أشار إليهما الشيخ في رسائله. فرائد الاصول / 44.

(282)
    إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما (1) ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة (2) عن الفتوى به.
    أو بدعوى (3) أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية ، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الانظار الغير الراسخين العالمين بتأويله ، كيف ؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلا الاوحدي من الافاضل ، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شئ.
    أو بدعوى (4) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.
    أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا ، إلا أنه صار منه عرضا ، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره ، كما هو الظاهر.
    أو بدعوى شمول الاخبار الناهية (5) عن تفسير القرآن بالرأي ، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.
    ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الاخير والثالث يكون صغرويا ، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي ، ويكون
1 ـ وسائل الشيعة 18 : 29 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 527 ، الكافي 8 : 311 ، الحديث 485.
2 ـ هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري ، مفسر حافط ضرير أكمه ، قال أحمد بن حنبل : قتادة أحفظ أهل البصرة ، كان مع علمه بالحديث رأسا في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب ، وكان يرى القدر وقد يدلس في الحديث ، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه‍ ، وهو ابن ست وخمسين سنة. ( تذكرة الحفاظ 1 : 122 الرقم 107 ).
3 ـ حكي عن الاخباريين ، راجع فرائد الاصول / 34.
4 ـ حكاه الشيخ ( قدس سره ) عن السيد الصدر ، فرائد الاصول / 38 ، شرح الوافية.
5 ـ تفسير العياشي : 1 / 17 ـ 18 ، عيون أخبار الرضا : 1 / 59 ، الباب 11 ، الحديث 4 ، أمالي الصدوق : 155 / الحديث 3 ، التوحيد : 905 ، الحديث 5.


(283)
المنع عن الظاهر ، إما لانه من المتشابه قطعا أو احتمالا ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.
    وكل هذه الدعاوي فاسدة :
    أما الاولى ، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ، بداهة أن فيه ما لا يختص به ، كما لا يخفى. وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به ، كيف ؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات (1) الارجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته (2).
    وأما الثانية ، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام وحجيتها ، كما هو محل الكلام.
    وأما الثالثة ، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس بمتشابه ومجمل.
    وأما الرابعة ، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال.
    مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة ، فتأمل جيدا.
1 ـ مثل رواية الثقلين ، راجع الخصال : 1 / 65 ، الحديث 98 ، معاني الاخبار / 90 ، التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء ، الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.
2 ـ في « ب » : الآيات.


(284)
    وأما الخامسة ، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلم ، فليس من التفسير بالرأي ، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحانه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار ، من دون السؤال عن الاوصياء ، وفي بعض الاخبار (1) ( إنما هلك الناس في المتشابه ، لانهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم ). هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين مادل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل خبر الثقلين (2) ، وما دل على التمسك به ، والعمل بما فيه (3) ، وعرض الاخبار المتعارضة عليه (4) ، ورد الشروط المخالفة له (5) ، وغير ذلك (6) ، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلا ظاهرة في معانيها ، ليس فيها ما كان نصا ، كما لا يخفى.
    ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو : إما بإسقاط ، أو
1 ـ وسائل الشيعة 18 / 148 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 62.
2 ـ الخصال : 1 / 65 الحديث 98 ، ومعاني الاخبار / 90 ، الحديث 1.
3 ـ نهج البلاغة : باب الخطب ، الخطبة 176.
4 ـ الوسائل 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12 ، 15 ، 29.
5 ـ الوسائل 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث : 1.
6 ـ التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء. الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1. الوسائل : 1 / 327 الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث :


(285)
تصحيف (1) ، وإن كانت غير بعيدة ، كما يشهد به بعض الاخبار (2) ويساعده الاعتبار ، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع خلل (3) فيها بذلك أصلا. ولو سلم ، فلا علم بوقوعه في آيات الاحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها ، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ، والعلم الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة ، وإلا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم.
    نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به ، لاخل بحجيته ، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.
    ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل ( يطهرن ) بالتشديد والتخفيف ، يوجب الاخلال بجواز التمسك والاستدلال ، لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم يثبت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وإن نسب (4) إلى المشهور تواترها ، لكنه مما لا أصل له ، وإنما الثابث جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بينهما ، كما لا يخفى.
    ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الاصل في تعارض الامارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، والتخيير بينها بناء على السببية ، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الامارات ، فلابد من الرجوع حينئذ إلى الاصل أو العموم ، حسب اختلاف المقامات.
1 ـ في « ب » : بتصحيف.
2 ـ الاتقان : 1 / 101 ، 121. مسند أحمد : 1 / 47. صحيح مسلم : 4 / 167.
3 ـ في « ب » : الخلل.
4 ـ نسبة الشيخ ( قده ) راجع فرائد الاصول / 40.
كفاية الاصول ::: فهرس