مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 51 ـ 60
(51)
وبالتالي لنفي عدله سبحانه ، وإليك بيان الشبهة :
    إنّ ما علم اللّه سبحانه تحقّقه من أفعال العباد ، فهو واجب الصدور ، وما عَلِمَ عدمَه فهو ممتنع الصدور منه ، وإلا انقلب علمه جهلاً ، وليس فعل العبد خارجاً عن كلا القسمين ، فهو إمّا ضروري الوجود ، أو ضروري العدم ، ومعه لا مفهوم للاختيار ، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله أو تركه ، مع أنّ الأوّل لا يجوز تركه ، والثاني لا يجوز فعله.
    وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول ، وقال : ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلا بالتزام مذهب هشام : وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (1)
    إنّ هذه الشبهة لا تختص بعلمه سبحانه ، بل تسري أيضاً في مجال إرادته ، فانّ ما في الكون غير خارج عن إرادته ، وعند ذلك تتوجه الشبهة التي قررها الشريف الجرجاني ( المتوفّى عام 816 هـ ) بالنحو التالي :
    قالوا : ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً ، وما أراد عدمه منها ، لم يقع قطعاً ، فلا قدرة للإنسان على شيء منهما. (2)
    وأظن انّ الرازي قد بالغ في شأن هذه الشبهة ، وانّه لو تأمّل فيما حقَّقه الأعلام حول كيفية تعلّق علمه وإرادته سبحانه بمعلومه ومراده لتجلَّت الحقيقة ناصعة.
    وحاصل ما حقَّقه الفطاحل من أعلام الفلسفة والكلام ، هو ما يلي :
    إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل
1 ـ شرح المواقف : 8/155.
2 ـ شرح المواقف : 8/156.


(52)
تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. وبالتالي : تعلَّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.
    وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.
    يقول العلاّمة الطباطبائي ( 1321 ـ 1402 هـ ) : إنّ العلم الأزلي متعلق بكلّ شيء على ما هو عليه ، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية.
    وبعبارة أُخرى : المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختياراً ، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق القضاء به ، غير اختياري ناقض القضاء نفسه. (1)
    هذا هو حال تعلّق علمه سبحانه بالأشياء والأفعال ، وقد عرفت أنّه لا يستلزم الجبر وبالتالي لا يستلزم خلاف عدله.
1 ـ تعليقة الأسفار : 6/318.

(53)
وبذلك تعلم كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالأشياء والأفعال ، وانّ القول بسعة إرادته لا تستلزم الجبر شريطة أن نتأمل في متعلّق إرادته ، فنقول :
    إنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلّقت بصدور كلّ فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها. مثلاً تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه ، المكتنفة به من العلم و الاختيار وسائر الأُمور النفسانية.
    وصفحة الوجود الإمكاني زاخرة بالأسباب والمسببات المنتهية إليه سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلّقة على صدور فعل الإنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري ، توَكد الاختيار ولا تسلبه منه.
    ومع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلاً خارجاً عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به ، كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن ، ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل اللّه أيضاً بالحقيقة فكلّ حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكلّ قوة يعمل بها فهي قوته.
    إلى هنا تبيّن انّ تعلّق إرادته سبحانه بالأفعال والأشياء لا تستلزم الجبر وكون الإنسان مجبوراً في أعماله.
    هذا كلّه حول ما أفاده المحقّقون فلنرجع إلى القرآن بغية استكشاف رؤيته حول هذا الموضوع.


(54)
    فنقول : أمّا سعة إرادته سبحانه للأشياء والأفعال وعدم خروج فعل الإنسان عن حيطة علمه وإرادته فهذا ممّا يثبته القرآن الكريم بوضوح ، فمن حاول أن يُخرج فعل الإنسان من حيطة إرادته فقد خالف البرهان أوّلاً ، وخالف نص القرآن ثانياً. إذ كيف يمكن أن يقع في سلطانه مالا يريد ؟ ولذلك يقول سبحانه : إنّ الإنسان لا يشأ شيئاً إلا ما شاء اللّه ، وانّ إيمان كلّ نفس بإذنه ومشيئته ، وإنّ كلّ فعل خطير وحقير لا يتحقق إلا بإذنه.
    يقول سبحانه :
     « وَما تَشاءُونَ إلا أَنْ يَشاءَ اللّهُ ربُّ الْعالَمين » . (1)
     « ما كانَ لنفسٍ أَنْ تُؤمِنَ إِلابإذْنِ اللّه » . (2)
     « ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذْنِ اللّه وَليُخْزِيَ الفاسِقين » . (3)
    وهذه الآيات الناصعة صريحة في عدم خروج فعل الإنسان عن مجاري إرادته سبحانه ، وقد أكّدت ما نزل به الوحي ، الرواياتُ المروية عن النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أئمّة أهل البيت ( عليهم السّلام ).
    وبما انّ خروج فعل الإنسان عن حيطة إرادته ومشيئته يستلزم تحديد إرادته ، يقول النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في رد تلك المزعمة :
     « من زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه » . (4)
1 ـ التكوير : 29.
2 ـ يونس : 100.
3 ـ الحشر : 5.
4 ـ بحار الأنوار : 5/51 ، أبواب العدل ، الباب1 ، الحديث 85.


(55)
    وبما انّ خروج أفعال الإنسان عن حيطة إرادته يستلزم تحديداً في سلطانه ، يقول الإمام الصادق ( عليه السّلام ) : وَاللّهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَكُون في سُلْطانِهِ ما لا يُريد. (1)
    وقد ورد في الحديث القدسي قوله : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد » . (2)
    يقول الإمام الباقر ( عليه السّلام ) : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع : بمشيّة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة منهنّ فقد كفر » . (3)
    لا يليق لموحد أن يشك في سعة إرادته وتعلّقه بكلّ ما كان وما هو كائن وما يكون إلا أنّ اللازم هو إمعان النظر في متعلّقها ، فهل تعلّق بأصل صدور الفعل عن الإنسان ، أو تعلّق بصدوره عنه بقيد الاختيار ، والأوّل لا يفارق الجبر ، والثاني نفس الاختيار و العدل ، وقد علمت أنّ إرادته كما تتعلّق بأصل صدوره ، فهكذا تتعلق بكيفية صدوره من الاختيار ، وعند ذلك لا تكون سعة إرادته ذريعة لتوهم الجبر وخلاف العدل.

    إيضاح آيات ثلاث
    قد مضى الكلام في سعة إرادته وتعلّقها بكلّ شيء ، لكن هناك آيات ربما
1 ـ بحار الأنوار : 5/41 ، أبواب العدل ، الباب 1 ، الحديث 64.
2 ـ توحيد الصدوق : الباب 55 ، الحديث 6 ، 10 ، 13.
3 ـ بحار الأنوار : 5/121 ، باب القضاء والقدر ، الحديث 65.


(56)
توحي إلى خروج أفعال العباد عن دائرة إرادته وهي :
    1. « وَمَا اللّه يُريدُ ظُلْماً لِلْعِباد » . (1)
    فالظلم الصادر من العباد فعل من أفعالهم ، خارج عن حيطة إرادته.
    2. « وَلا يرضى لعِبادِهِ الكُفْر ... » . (2)
    فالكفر من أفعال العباد ، فهو ليس مرضياً للّه سبحانه.
    3. « وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَساد » . (3)
    لكن إيضاح مفاد الآية الأُولى يتوقف على التدبّر في الفقرات التي تسبقها ، وهي :
     « وَقالَ الّذِي آمَنَ يا قَومِ إِنّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزاب * مِثلَ دَأبِ قَومِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِباد » . (4)
    إنّ الإمعان في الآية يكشف على أنّ المراد من الظلم هو الهلاك والإبادة ، ومعنى الآية انّه سبحانه لا يريد إهلاك عباده وإبادتهم ، فإن هلكوا وابيدوا فانّما هو لأجل ما اقترفوه من الذنوب ، وعلى هذا فالظلم المنفي هو الإبادة والإهلاك بلا سبب الاستحقاق. وأين هذا من خروج أفعال العباد على وجه الإطلاق من حيطة إرادته ؟!
    وأمّا الآية الثانية والثالثة فلا صلة لها بالإرادة التكوينية وإنّما تهدف إلى عدم أمره تشريعاً بالكفر والفساد ، فوزان هاتين الآيتين وزان قوله سبحانه : « قُلْ إنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون » (5) ، وقوله سبحانه : « إِنَّ اللّهَ
1 ـ غافر : 31.
2 ـ الزمر : 7.
3 ـ البقره : 205.
4 ـ غافر : 30 ـ 31.
5 ـ الأعراف : 28.


(57)
يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسان ِو إيتاءِ ذِي القُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون » . (1)
    وعلى ذلك فما يصدر من العباد من الكفر والفساد فانَّما يصدر بحوله سبحانه و قوَّته وإرادته ومشيئته ، لا بمعنى تعلّق مشيئته بكفر العباد وفسادهم في الأرض ، مباشرة بل بكفرهم وفسادهم إذا قاموا بها عن اختيار ، ومع ذلك فهو في تشريعه ينهى عباده عن الكفر والفساد.
    روى فضيل بن يسار ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السّلام ) يقول :
     « شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض ، شاء أن لا يكون شيء إلابعلمه وأراد مثل ذلك ، ولم يحب أن يقال له : ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر » . (2)
    ويظهر ذلك ممّا نقله أبو بصير عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ) ، قال :
    قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) : شاء لهم الكفر وأراده ؟ فقال : « نعم » .
    قلت : فأحبّ ذلك ورضيه ؟ فقال : « لا » .
    قلت : شاء وأراد ، ما لم يحبّ ومالم يرض ، قال : « هكذا خرج إلينا » . (3)

    الشبهة الثالثة : العدل الإلهي والقضاء والقدر
    إنّ البحث في القضاء والقدر رهن توضيح أمرين :
    الأوّل : ما معنى القدر ؟
1 ـ النحل : 90.
2 ـ توحيد الصدوق : 339 ، باب المشية والإرادة ، الحديث 9.
3 ـ بحار الأنوار : 5/121 ، باب القضاء والقدر ، الحديث 66.


(58)
    الثاني : ما معنى القضاء ؟
    أمّا القدر بمعنى التقدير والتحديد ، فكل ظاهرة طبيعية بل كلُّ موجود إمكاني خلق على تقدير وتحديد خاص ، ولا يوجد في عالم الكون شيء غير مقدّر ولا محدّد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : « انا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَر » (1). وقوله سبحانه : « وَإِنْ مِنْ شَيءٍ إِلا عِنْدنا خَزائِنُهُ وَمانُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍمعََلُوم » . (2)
    فالموجودات من النبات إلى الإنسان محدّدة بالحدّ الذي نعبر عنه بالماهية ، وهكذا الحال في الجمادات.
    وأمّا القضاء وهو حتمية وجود الشيء بعد تقديره وتحديده ، وذلك رهن وجود سببه التام الذي يلازم وجود المسبب على وجه القطع والبت ، فقضاوَه سبحانه عبارة عن إضفاء الحتمية على وجود الشيء عند وجود علته التامة ، قال سبحانه في مورد السماوات : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَومَيْنِ وَأَوحى فِي كُلّ سَماءٍ أَمْرَها » . (3)
    ويقول في حقّ الإنسان : « هُوَ الّذي خَلَقَكُمْ مِن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً » (4) أي حكم حكماً حتمياً بأنّ لوجود الشيء مدّة محدّدة لا يتجاوز عنها.
    هذا هو معنى القضاء والقدر من غير فرق بين وجود الإنسان وأفعاله ووجود الجواهر وأعراضها ، غير انّ الجميع قبل التقدير والقضاء مكتوب في كتاب عند اللّه سبحانه ، وقد أشار إليه الكتاب العزيز في بعض الآيات : « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا في كِتابٍ مِنْ قَبلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلكَ على اللّهِ
1 ـ القمر : 49.
2 ـ الحجر : 21.
3 ـ فصّلت : 12.
4 ـ الأنعام : 2.


(59)
يَسيرٍ » . (1)
    وفي آية أُخرى : « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يعْلَمُها وَلا حَبّةٍ في ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رََطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلا في كتابٍ مُبين » . (2)
    وفي آية ثالثة : « وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَماتَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا في كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسيرٍ » . (3)
    إذا وقفت على هذه الأُمور ، فاعلم أنّه ربما يتخذ القضاء والقدر الذي نعبر عنهما بالمصير ذريعة للقول بالجبر ، وبالتالي أمراً مخالفاً للعدل بحجّة انّ اللّهَ سبحانه قدّر وجود كلّ شيء ( القدر ) أوّلاً ، وحكم على وجوده وتحقّقه حكماً باتاً ( القضاء ) ثانياً ، وكتب كلّ ما يوجد في الكون في كتاب قبل وجودها ثالثاً.
    وعلى ذلك فلا محيص من الفعل والعمل ، وإلا يلزم خلاف تقديره وقضائه أو خلاف المكتوب في الكتاب المبين.
    أقول : إنّ هذه الشبهة لم تزل عالقة بالأذهان منذ قرون ، ولكن تندفع هذه الشبهة من خلال بيان ما للقضاء والقدر من المعاني ، فنقول :
    إنّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة :
    أ : القضاء و القدر : السنن الكونية.
    ب : القضاء والقدر : التكوينيّان.
1 ـ الحديد : 22.
2 ـ الأنعام : 59.
3 ـ فاطر : 11.


(60)
    ج : القضاء والقدر : علمه السابق ومشيئته النافذة.
    وإليك البحث في كلّ واحد منها :
    أ. القضاء والقدر : السننالكونيّة
    القضاء والقدر في السنن الكونيَّة عبارة عن النظام السائد في العالم والإنسان ، فاللّه سبحانه قدّر وحتم احراق النار وتبريد الماء إلى غير ذلك من السنن التي كشفها الإنسان طيلة وجوده على هذه البسيطة ، فكلها من مظاهر القضاء والقدر ، فكلّ من اعتنى بصحته فالمقدَّر في حقّه هو السلامة ، ومن كان على خلافه فالمقضي في حقّه هو المرض ، وكذا الفارُّ من تحت جدار على وشك الانقضاض ، كتبت له النجاة ، و الواقف تحته كتب عليه الموت إلى غير ذلك ، فهذه السنن الكونية التي جعلها اللّه دعائم يقوم عليها هذا النظام ، وقد وقف على بعضها الإنسان عبر حياته ، وهناك سنن كونية ربما لا يقف عليها الإنسان إلا عن طريق الوحي ، قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السَّلام :
    1. « فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهاراً » . (1)
    فترى أنّ نوحاً ( عليه السّلام ) يجعل الاستغفار سبباً موَثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط ، وذلك لأنَّ في ظلّه تنصبّ القُوى في بناء المجتمع
1 ـ نوح : 10 ـ 12.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس