مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 101 ـ 110
(101)
    ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته ، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر ، ويقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.
    وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل ، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورى في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم ، كما هو واضح من التاريخ.
    2. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى ، لوجب على الرسول ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.
    فلو كانت الشورى مبدأًً للحكومة لكان على النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله ، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ).
    ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها ، هي :
    أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيون وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
    ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
    ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكم ، أم بملاك الكيف ؟
    إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها ، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟


(102)
    3. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى ، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى ، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( 364 ـ 450 هـ ) في كتابه : « الاحكام السلطانية » و يقول :
    الإمامة تنعقد بوجهين :
    أحدهما : باختيار أهل العقد والحل.
    والثاني : بعهد الإمام من قبل.
    فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة : لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
    وقالت طائفة أُخرى : أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :
    أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، و أبوعبيدة الجرّاح ، وأسيد بن حضير ، وبشر ابن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
    الثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
    وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين


(103)
ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.
    وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعلي : أُمدد يدك أُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول اللّه بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. (1)
    وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.

    هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ؟
    هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها ، وقد أمضاها النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) عن غير موضع ، حيث بايعه أهل المدينة في السنة 11و 12 و 13 من البعثة ، بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.
    كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه ، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم. (2)
    إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى ، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه : « لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
1 ـ الأحكام السلطانية : 7.
2 ـ السيرةالنبوية : 1/431 ـ 438.


(104)
فَعَلِمَ مأ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » . (1)
    يذكر المفسرون أنّ رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش ، وقد شاع أن َّ مبعوث النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) قد قتل ، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش ، ولمّا رأى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أنّ الخطر على الأبواب ، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة ، قرر رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر ، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان » . (2)
    وقد بايعت المؤمنات النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في فتح مكة ، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال : « يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جاءَكَ الْمُؤمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً ولا يَسْرِقنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَولادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرينَهُ بَيْنَ أَيدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وََاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم » . (3)

    نقد فكرة انّ البيعة أساس الحكم
    لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون ـ كلّهم أو بعضهم ـ قائدهم يقف على أنَّه لم تكن ا لغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول و رئاسته فضلاً عن نصبه و تعيينه ، بل كان الهدف التأكيد العملي
1 ـ الفتح : 18.
2 ـ السيرة النبوية : 315/2.
3 ـ الممتحنة : 12.


(105)
على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق ، ولذلك نجد جرير بن عبداللّه ، قال : بايعت رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) على إقام الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، و النصح لكلِّ مسلم. (1)
    وقال أيضاً : « و أن تدفعوا عني العدو حتى الموت (2) ولا تفرُّوا من الحرب » . (3)
    والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره ، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.
    نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية ، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلى شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.
    والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة ، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط ، و غاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.
1 ـ كتاب الإيمان. : لاحظ ايضاً صحيح البخاري ، 55/5 ، بيعة الأنصار.
2 ـ مسند أحمد : 4/15.
3 ـ مسندأحمد : 292/3.


(106)
    الفصل الثالث :
نظرية الحكم
عند النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم )
    دلّت البحوث السابقة على أنّ الشورى والبيعة ليسا أساس الحكم ، فحان البحث لبيان نظرية الحكم في كلمات النبيّ ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ).
    والسبر في كلماته طيلة حياته من البعثة إلى الوفاة ، يُثبت أنّ الإمامة عنده كالنبوة أمر موكول إلى اللّه تبارك وتعالى وليس للأُمّة حتى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) فيها دور.
    إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) وموقفه من قضية القيادة ، تعرب عن أنّه كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألة إلهية وحقاً إلهياً ، فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعّين القائد وينصب خليفة النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بعد رحيله ، نجد ذلك في كلماته بوفرة ولا نجد في كل ما نقل عن النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الأُمّة ونظرها ، أو آراء أهل الحلّ والعقد ، وها نحن نذكر هنا شاهدين من كلمات الرسول يكشف الستار عن وجه الحقيقة.
    1. لما عرض الرسول ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام. قال له كبيرهم : أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟


(107)
    فقال النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » . (1)
    2. لما بعث النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة ( هوذة بن علي الحنفي ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).
    فقدم سليط على النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما في يده » . (2)
    ونقل ابن الأثير على نحو آخر ، فقال : أرسل هوذة إلى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرّجال بن عنفوة ، يقول له :
    إن جعل الأمر له من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاقصد حربه.
    فقال رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « لا ولا كرامة ، اللّهم اكفنيه » ، فمات بعده بقليل. (3)
    إنّ هذين النموذجين التاريخيين اللَّذين لم تمسّهما يد التحريف والتغيير يدلاّن بوضوح كامل على أنّ رؤية النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في مسألة الحكم والخلافة هي انّها أمر سماويّ خارج عن صلاحيته ، فالإرجاع إلى اللّه وضرب الصفح عن الشورى والبيعة أو الاستفتاء العام خير دليل على كونه منصباً إلهياً ، والعجب انّه لم يكن هذا رُؤى النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في مورد الحكم فقط بل كانت الصحابة بعد رحيله يسيرون على هذا النهج غير انّهم بدّلوا التنصيب الإلهي بتنصيب الخليفة لمن يقوم مكانه بعده.
1 ـ السيرة النبوية : 424/2 ـ 425.
2 ـ الطبقات الكبرى : 262/1.
3 ـ الكامل في التاريخ : 146/2.


(108)
    3. وهذا هو أبو بكر عيَّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهد كتبه عثمان ابن عفان. (1)
    4. كما أنّه تم استخلاف عثمان عن طريق الشورى الستة التي عيَّن اعضاءها عمر بن الخطاب. (2)
    5. وقد كانت السيدة عائشة تتبنى نظرية التنصيب من جانب الخليفة ، وقالت لعبد اللّه بن عمر : يا بني بلِّغ عمر سلامي ، فقل له لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ؛ فأتى عبد اللّه إلى أبيه فأعلمه. (3)
    والعجب انّ أُمّ المؤمنين التفتت إلى أنَّ ترك الأُمة هملاً يورث الفتنة ، ولكن النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) حسب زعم القوم ـ لم يلتفت إلى تلك النكتة ـ فلقي اللّه سبحانه وترك الأُمّة هملاً !!!
    6. انّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قُبيل وفاته ، فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف ، وانّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس أشد. (4)
    7. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهلها البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى ابن عمر فأتاه و خلا به ، فكلّمه بكلام ، قال : إنّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضعن بلا راع لها. (5)
1 ـ الإمامة والخلافة : 18 ؛ الكامل في التاريخ : 292/2 ؛ الطبقات الكبرى : 200/3.
2 ـ الكامل في التاريخ : 35/3.
3 ـ الإمامة والسياسة : 32.
4 ـ حلية الأولياء : 44/1.
5 ـ الإمامة والسياسة : 168/1


(109)
    هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي ، أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين ، أو بالشورى ، أو بالبيعة كلها فروض اختلقها المتكلّمون بعد تمامية الخلافة للخلفاء ، ولم يكن أي أثر من هذه العناوين بعد رحيل النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) إلا شيئاً لا يذكر عند محاجة علي ( عليه السّلام ) مع المتقمّصين منصَّة الخلافة.
    هذه الكلمات تعرب عن أنّنظرية التنصيب هي التي كانت مهيمنة على الأفكار والعقول.

    بلاغات غير رسمية
    لقد بلّغ رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) خلافة علي ( عليه السّلام ) بصورة رسمية في غدير خم كما سيوافيك ، ولكن لم يكن ذلك البلاغ بصورة عفوية بل هيّأ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أرضيته منذ أن صدع بالنبوّة في مواقف مختلفة نذكر منها :

    1. دعوة الأقربين وتنصيب علي للخلافة
    يقول المفسرون : لمّا نزل قوله سبحانه : « وَأَنْذِرْ عَشيِرَتَكَ الأقْرَبيِنَ * وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبعَكَ مِنَ المُؤمِنِين » (1) أمر رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) عليّ بن أبي طالب ( عليه السّلام ) أن يعد طعاماً ولبناً ، فدعا خمسةًً وأربعين رجلاً من وجوه بني هاشم ، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ، فقال : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ؛ واللّه الذي لا إله إلا هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، واللّه لتموتُنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنَّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.
1 ـ الشعراء : 214 ـ 215.

(110)
    ثمّ قال :
    يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنّي قدجئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّوجلّ أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟
    ولمّا بلغ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) إلى هذه النقطة ، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكّرون مليّاً في ما يؤول إليه هذاالأمر العظيم ، وما يكتنفه من أخطار قام علي ( عليه السّلام ) فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول :
    أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه.
    فقال له رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كلّ مرة يحجم القوم عن تلبية دعوته ، ويقوم علي ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي ، ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين ، وقال :
    إنّ هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.
    فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميراً. (1)
    هذا موجز ما ذكره المفسرون والمحدّثون حول الآية ، وفي صحاحهم ومسانيدهم.
1 ـ تاريخ الطبري : 62/2 ـ 63 ، الكامل في التاريخ : 40/2 ـ 41 ، مسند أحمد : 111/1 ، شرح نهج البلاغة : 210/13 ـ 211.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس