مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 201 ـ 210
(201)
يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس ، سواءً أكانت مادية ، كما وردت في الآيات ، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه.
    فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً ، فلأجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة ، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً ، ويدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة : « ويطَّهركُم تَطْهيراً » ، فليس المراد من هذا التطهير إلا تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة.
    وقد ورد نظير قوله : « ويطهركم تطهيراً » في حق السيدة مريم عليها السَّلام ، قال سبحانه : « إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين » . (1)
    نعم : انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات ، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة ، وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا ، قال سبحانه : « فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِِّرِينَ » . (2)
    قال العلاّمة الطباطبائي : الرجس ـ بالكسر والسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها ، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى : « أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ » وبحسب باطنه ، أُخرى ، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء ، قال تعالى : « وأمّا الّذِينَ فِي ُقُلوِبِهمَ َمٌرضَ َفزَاْدُتْهمِ ْرجساً إلى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وَهُمْ كافِرون » (3) ، وقال : « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
1 ـ آل عمران : 42.
2 ـ التوبة : 108.
3 ـ التوبة : 125.


(202)
حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ » . (1)
    وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّء وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حق الاعتقاد والعمل ، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية ، تحفظ الإنسان من رجس باطني الاعتقاد وسيّء العمل. (2)

    المنفي مطلق الرجس
    إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الأفعال القبيحة عرفاً أو شرعاً والمعاصي صغيرها وكبيرها ، فيجب أن يقال : إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس ، وذلك لأنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه ، ونفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله : « ليذهب عنكم الرجس » بل أكّده بقوله : « ويطهّركم تطهيراً » ، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس ـ أعني : الشرك ، أو الأوسع منه كالمعاصي الكبيرة ـ لما كان لهذه العناية وجه.
    والحاصل : انّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة ، أو لا رجل في الدار ، هو المفهوم من قوله : ليذهب عنكم الرجس ، والتفكيك بين المقامين غير مقبول.هذا هو الأمر الأوّل وإليك الكلام في الأمر الثاني :
1 ـ الأنعام : 125.
2 ـ الميزان : 330/16.


(203)
    2. هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية ؟
    إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسط في القول ، ومجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، فهي الإرادة التكوينية ولا تتخلّف تلك الإرادة عن مراده ، وربّما يعبّر عنها بالأمر التكويني قال سبحانه : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون » . (1)
    ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تكوّن الشيء وتحقّقه وتجسّده ، واللّه سبحانه لأجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكويني عن متعلّقه.
    وأمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختاراً بواجبه ، فهي إرادة تشريعية ، ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تحقيقاً هو التشريع والتقنين ، وأمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف ، ولأجل ذلك ربّما تترتب عليه الغاية ، وربّما تنفك عنه ، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته سبحانه ، لأنّه ما أراد إلا التشريع وقد تحقق ، كما انّه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلا مختاراً ، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره ، هذا هو إجمال القول في الإرادتين ، وللتفصيل محل آخر.
    والقرائن التي ستمر عليك تدل على أنّ الإرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى انّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الأشياء وإبداعها في عالم الوجود ، تعلّقت أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، وتطهيرهم من كل رجس وقذر ، ومن كل عمل يستنفر منه ، وإليك تلك القرائن :
1 ـ يس : 82.

(204)
    1. انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، والخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الإرادة تكوينية ، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون طائفة ، لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس عامة لا لأُناس معيّنين ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء والغسل بقوله : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلأةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... » علّله بقوله : « وَلَكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (1) خاطب سبحانه المؤمنين عامة بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية التي نحن بصددها ، فإنّها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة « أهل البيت » وخصّهم بالخطاب وقال : « عنكم أهل البيت » أي لا غيركم.
    وبالجملة فتخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأُمّة جميعاً.
    نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع ، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم ، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.
    2. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالإرادة ، الإرادة التكوينية لا التشريعية ، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية ، وإليك بيان تلك العناية :
1 ـ المائدة : 6.

(205)
    أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر ، ولا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية ، لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.
    ب. عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص ، فقال : « أهل البيت » أي أخصّكم أهل البيت.
    ج. قد بيّن متعلّق إرادته بالتأكيد ، وقال بعد قوله : « ليذهب عنكم الرجس ... ويطهركم » .
    د. قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل ، وقال : « ويطهّركم تطهيراً » ليكون أوفى في التأكيد.
    هـ. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة ، ليدل على الإكبار والإعجاب ، أي تطهيراً عظيماً معجباً.
    و. انّ الآية في مقام المدح والثناء ، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.
    وعلى الجملة : العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد ، ولأجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الإرادة في المقام بالإرادة التكوينية ويجيبون عن كل سؤال يطرح عنها.
    قال الشيخ الطبرسي : إنّ لفظة « إنّما » محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل : إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد ، وعلى هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة التشريعية ، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ؛ ولا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق ، ولأنّ هذا القول يقتضي


(206)
المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح. (1)
    وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية : إنّ لفظة « إنّما » محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار سوى زيد ، إذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المطلقة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ، فلا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا شبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح ، لأنّ اللام في الرجس للجنس ، ونفي الماهية نفي لكل جزئياتها ، وقد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته ، فثبت أنّ الآية مختصة بهم ، لبطلان تعلّقها بغيرهم. وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم واسلوب البلغاء والفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد ، وهو خروج المتكلم من غرضه الأوّل إلى غرض آخر ثم عوده إلى غرضه الأوّل ، واتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك. (2)
1 ـ مجمع البيان : 357/4 تفسير سورة الأحزاب ؛ وقريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في تبيانه : 340/8.
2 ـ رياض السالكين : 497 ، الروضة السابعة والأربعون ، وقد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب منه.


(207)
    أسئلة وأجوبة
    قد تعرفت على مفاد الآية : واتضح لديك انّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم ، ويكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة في الآيات التالية ونظائرها :
    1. « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ » . (1)
    2. « وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ » . (2)
    3. « وَمَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ » . (3)
    وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بد من الإجابة عليها :
    * السؤال الأوّل : هل الإرادة التشريعيّة تتعلَّق بفعل الغير ؟
    هل يصح تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، كتكليفه سبحانه عباده بالصلاة والزكاة ، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي ؟ وإذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عمّا ذكر ، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وإرادة غيره بالأكل والشرب ؟
    الجواب : انّ تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً ، لكن
1 ـ القصص : 5.
2 ـ الأنفال : 7.
3 ـ المائدة : 41.


(208)
تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً ، وذلك لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلا بأمر اختياري وهو فعل المريد ، وأمّا فعل الشخص الآخر ، فهو بما انّه خارج عن اختيار المريد ، لا تتعلّق به إرادته ، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير وليس تابعاً لإرادة المريد الآخر ؟
    وإن شئت قلت : إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر ، فلو أراده لقام به. ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر ، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر ، لأنّ المفروض انّ الفاعل بعد ، فاعل مختار ، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله ، إرادة الغير الجدية ، لأنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله ، ويوجد بإرادته وينتفي بانتفائه ، مع أنّه ليس كذلك وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر وينتفي بانتفاء إرادته ، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ولأجل ذلك كثيراً ما يعصى ويخالف.
    وفي الجملة : ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية ، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية ، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد ، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار ، وهو في التكوينية ، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة ، كالتكوين والتصنيع ، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية باقداره ، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والإنشاء بالإيماء والإشارة واللفظ والكتابة ، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره ، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه ، وهي تترتب تارة ،


(209)
وتنفك أُخرى ، فلو تكونت في نفسه مبادئ الخوف والرجال لقام به وإلا فلا يقوم به ولا تتحقّق الغاية لكن تتم عليه الحجة.
    وعلى ذلك فما اشتهر على الألسن من أنّ الإرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها.
    والذي يوضح ذلك : انّ إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده ، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً بـ « كن » ولا يتحقّق ، ولسعة قدرته وعموميتها ، قال سبحانه : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (1) ، فلو تعلّقت إرادته بفعل العباد كالصلاة والصوم لما انفك عنهم ولو تعلّقت على إيمانهم وهدايتهم ، لما وجد على أديم الأرض عاص ومتمرد ، قال سبحانه : « وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلأ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ » (2) ، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية ، ومضطرين إلى الطاعة ، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة ، وهذا يعرب بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع وهو التشريع ، وهو بعد غير منفك عن إرادته ، موجود معها.
    السؤال الثاني : هل الإرادة التكوينيّة توجب سلب الاختيار ؟
    لو كانت الإرادة في المقام إرادة تكوينية فبما انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف ، وهذا لا يعد فضيلة وثناء لأهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم.
    وقد أجاب عنه المحقّقون على وجه الإجمال وقالوا : إنّ القدرة والتمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم ، والعصمة مانع شرعي ، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية والقدرة الذاتية ، وهذا الجواب بإجماله كاف لأهل التحقيق ولكن يحتاج
1 ـ يس : 82.
2 ـ الأنعام : 35.


(210)
إلى إيضاح ، فنقول :
    إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار.
    وبعبارة أُخرى : هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم ، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم ، فالجبر لازم القول الثاني ، والاختيار نتيجة القول الأوّل ، والحق هو القول الأوّل فنقول في توضيحه :
    إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية ـ كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين ـ هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية للّه سبحانه ، ولا يقع شيء في الكون إلا بإرادته وإذنه سبحانه ، قال تعالى : « مَا قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ » (1) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية للّه وإلا لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الأُخر مستقلة في الفعل والتأثير ، وهو يستلزم الاستقلال في الذات ، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الأفعال والخالقية.
    ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم ، لأنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم ، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.
1 ـ الحشر : 5.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس