مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 241 ـ 250
(241)
بل قصَّروا شيئاً فيهما.
    ج : سابق بالخيرات بإذن اللّه : هم الجماعة المثلى أدّوا وظائفهم بالحفظ والعمل على النحو الأتم ، فلذلك سبقوا إلى الخيرات كما يقول سبحانه : « سابِقٌ بالخَيرات بِإِذْنِ اللّهْ » .
    و على هذا فإنَّ ورثة الكتاب في الحقيقة هم الطائفة الثالثة أعني الذين سبقوا بالخيرات.
    وأمّا ما هو المراد من الطائفة الثالثة ، فيتكفَّل الحديث لبيان ملامحها.
    روى الكليني عن أبي جعفر الباقر ( عليه السّلام ) في تفسير الآية انّه قال : « السابق بالخيرات الإمام ، والمقتصد العارف بالإمام ، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام » .
    وروي نفس الحديث عن الإمام الرضا ( عليه السّلام ).
    وهناك روايات أُخرى تؤيد المضمون فمن أراد فليراجع. (1)
    ثمّ إنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) قد أوضح ورثة الكتاب في حديثه المعروف الذي اتّفق على نقله أصحاب الصحاح والمسانيد.
    أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي اللّه عنه ، قال : قام رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه تعالى ، وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثمّ قال :
     « أمّا بعد : ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّهُ استمسكوا به » ، فحثّ على كتاب اللّه ورغَّب فيه ؛ ثمّ قال : « وأهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل
1 ـ البرهان في تفسير القرآن : 363/3.

(242)
بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي » . (1)
    هذا ما أخرجه مسلم ، ومن الواضح انّه لم ينقل على وجه دقيق ، وذلك لأنّ مقتضى قوله : « أوّلهما » ، أن يقول النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : ثانيهما أهل بيتي ، مع أنّه لم يذكر كلمة « ثانيهما » .
    و قد رواها الإمام أحمد بصورة أفضل ممّا سبق ، كما رواه النسائي في فضائل الصحابة كذلك.
    أخرج أحمد في مسنده عن أبي الطفيل ، عن زيد بن الأرقم ، قال : لما رجع رسول اللّه من حَجّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، ثمّ قال : « كأنّي قد دعيت فأجبت : إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » .
    ثمّ قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا ولي كلّ مؤمن » ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » . (2)
    هذه إلمامة سريعة بحديث الثقلين ، ومن أراد أن يقف على أسانيده ومتونه فعليه أن يرجع إلى الكتب المؤلفة حوله ، وأبسط كتاب في هذا الموضوع ما ألفه السيد المجاهد « مير حامد حسين » حيث خصّ أجزاءً من كتابه « العبقات » لبيان تفاصيل أسانيده ومضمونه ، وقد طبع ما يخصَّ بالحديث في ستَّة أجزاء.
    كما بسط الكلام في أسانيده وأسانيد غيره سيد مشايخنا البروجردي ( 1292 ـ 1380 هـ ) في كتابه « جامع أحاديث الشيعة » ، فقال بعد استيفاء
1 ـ صحيح مسلم : 1873/3 برقم 2408 ، ط عبد الباقي.
2 ـ المسند الجامع : 505/5 برقم 3828.


(243)
نصوص الحديث وأسانيده : وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أوجب على الأُمّة قاطبة التمسُّك بالعترة الطيبة في الأُمور الشرعية والتكاليف الإلهية ، وأكَّد وجوبه وشدَّده وأوثقه وكرَّره بكلمات عديدة وألفاظ مختلفة بحيث لا يمكن إنكاره ولا يجوز تأويله ، وقد اكتفينا بذلك وأنّ كثيراً من طرق الحديث قد ضمن مضافاً إلى المذكورات ، ما يدل على حجّية أقوالهم ووجوب اتّباعهم وحرمة مخالفتهم. (1)
    والجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة ، الأُمّة المرحومة بلا راع ، وهو يعلم أنّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة ووقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب والسنَّة ، فلا محيص من وجود مرجع علمي يحُلُّ مشاكلها ويذلّل أمامها الصعاب ، وقد قام ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ببيان من يتصدّى لهذا المنصب بحديث الثقلين.
    ومن العجب أنّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلّباب إلا باب أئمّة أهل البيت ( عليهم السّلام ) مع أنّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) لم يذكر شيئاً ممّا يرجع إلى غير هؤلاء ، فلا أدري ما هو وجه الإقبال على غيرهم والإعراض عنهم ؟!
    قال السيد شرف الدين العاملي : والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة. وقد صدع بها رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) في مواقف له شتى.
    تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرّة على منبره في المدينة ، وأُخرى في حجرته المباركة في
1 ـ جامع أحاديث الشيعة : 1/131 ـ 132.

(244)
مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : « أيّها الناس يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي أهل بيتي » ، ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، فقال : « هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض » .
    وقد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور ، حتى قال ابن حجر : ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
    قال : ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق انّه قال : ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى انّه قاله بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك بغدير خم ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.
    قال : ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.
    وحسب أئمّة أهل العترة الطاهرة أن يكونوا عند اللّه ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكفى بذلك حجة تأخذ بالأعناق إلى التعبُّد بمذهبهم ، فانّ المسلم لا يرتضي بكتاب اللّه بدلاً ، فكيف يبتغي عن أعداله حولاً. (1)
1 ـ المراجعات : المراجعة رقم 8.

(245)
من سمات أهل البيت ( عليهم السّلام )
8
حرمة الصدقة عليهم
    اتّفق الفقهاء على أنّه لا تحل الصدقة المفروضة على بني هاشم الواردة في الآية المباركة ، أعني : قوله سبحانه : « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقة تُطهِّرهُمْ وتُزَكِّهِمْ بِها وَتُصلِّ عليهم انَّ صَلاتكَ سَكنٌ لَهُمْ » . (1) وذلك لأنّ التطهير والتزكية إنّما يتعلَّق بما فيه وسخ وأهل البيت أعلى من أن يعيشوا بأوساخ الناس.
    قال ابن قدامة : « لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلُّ لهم الصدقة المفروضة » . (2)
    وقد تضافرت الروايات على ذلك وجمعها ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام ، نقتبس منها ما يلي :
    1. عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، قال : قال رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس » . (3)
    وفي رواية : « وانَّها لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد » رواه مسلم. (4)
1 ـ التوبة : 103.
2 ـ المغني : 547/2.
3 و 4 ـ بلوغ المرام : 129 ، برقم 665.


(246)
    2. روى أبو هريرة ، قال : أخذ الحسن بن علي عليهما السَّلام تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « كخٍ ، كخٍ » ليطرحها ، ثمّ قال : « أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة » ، رواه الشيخان البخاري ومسلم.
    ولمسلم : أما علمت أنّا لا تحل لنا الصدقة. (1)
    3. عن أنس انّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) مرّبتمرة في الطريق ، وقال : « لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها » .
    رواه مسلم وأبو داود. (2)
    4. عن عائشة ، قالت : أُتي النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بلحم ، فقلت : هذا ما تصدّق به على بريرة ، فقال : « هو لها صدقة ، ولنا هديَّة » .
    رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. (3)
    5. كان النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) إذا أُتي بطعام سأل عنه ، فإن قيل : هدية أكل منها ، وإن قيل : صدقة ، لم يأكل منها.
    رواه الترمذي ومسلم. (4)
    6. عن عبد اللّه بن حرث الهاشمي ـ وساق حديثاً حتى قال ـ : إنّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ الناس وانّها لا تحل لمحمّد ولا لآل محمّد.
    رواه مسلم والنسائي. (5)
    7. عن أبي رافع أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم ، فقال لأبي رافع : اصحبني فإنّك تصيب منها ، قال : حتى آتي النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) فأسأله ، فأتاه فسأله ، فقال : مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلُّ لنا الصدقة.
    أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. (6)
1 ـ 6 ـ التاج الجامع للأُصول : 2/30 ـ 31 ، ط الثانية.

(247)
    الفصل الثالث
حقوق أهل البيت ( عليهم السّلام )
في القرآن الكريم
    قد عرفت من هم أهل البيت ( عليهم السّلام ) في الآيات والروايات الواردة على لسان النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ، وما جادت به القرائح العربية حولهم من قصائد وأراجيز كما عرفت سماتهم وخصوصياتهم.
    وحان البحث لبيان حقوقهم على المسلمين الَّتي نزل بها الوحي في الكتاب العزيز ، وها نحن نذكر بعض حقوقهم :


(248)

(249)
من حقوق أهل البيت ( عليهم السّلام )
1
ولاية أهل البيت ( عليهم السّلام )
    قد دلّت الروايات المتضافرة على أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ارتحل وقد نصّب عليّاً ( عليه السّلام ) للولاية والخلافة ، فأبان ولايته وولاية من بعده من الأئمّة في مواقف مختلفة ، نذكر منها موقفين :
    الأوّل : انّ سائلاً أتى مسجد النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) وعليّ عليه السَّلام راكع ، فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي ، فنزل قوله سبحانه : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُون » . (1)
    وقد تضافرت الروايات على نزول الآية في حقّ علي ( عليه السّلام ) ونقلها الحفّاظ ، منهم : ابن جرير الطبري (2) والحافظ أبو بكر الجصاص الرازي (3) والحاكم النيسابوري (4) و الحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (5) وجار اللّه الزمخشري (6) ، إلى غيرهم من أئمّة الحفاظ وكبار المفسِّرين ربَّما ناهز عددهم السبعين. وهم بين
1 ـ المائدة : 55.
2 ـ تفسير الطبري : 186/6.
3 ـ أحكام القرآن : 542/2.
4 ـ معرفة أُصول الحديث : 102.
5 ـ أسباب النزول : 113.
6 ـ الكشاف : 1/ 468.


(250)
محدِّث ومفسّر وموَرِّخ.
    والذي يجب التركيز عليه هو فهم معنى الولي الوارد في الآية المباركة والذي وقع وصفاً للّه سبحانه ولرسوله ومن جاء بعده.
    المراد من الولي في الآية هو الأولوية الواردة في قوله سبحانه : « النَّبيُّ أولى بِالمُؤمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » . (1)
    فالنبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) أولى من المؤمنين بأنفسهم و أموالهم ، فهو بما انّه زعيم المسلمين ووليّهم ، يتصرّف فيهم حسب ما تقتضيه المصالح في طريق حفظ كيان الإسلام وصيانة هويَّتهم والدفاع عن أراضيهم لغاية نشر الإسلام.
    وليست الغاية من هذه الولاية الموهوبة للنبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) هي حفظ مصالح النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) الشخصية ، بل الغاية كما عرفت صيانة مصالح الإسلام والمسلمين.
    فالولاية بهذه المعنى هي المراد من قوله سبحانه : « إِنَّما وَليّكُمُ اللّهَُ وَرَسُولُه » والقرائن الدالَّة على تعُّين هذا المعنى كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
    الأوّل : إذا كان المراد من الوليّ هو الزعامة ، يصحّ تخصيصها باللّه سبحانه ورسوله ومن أعقبه ، وأمّا لو كان المراد منه هو الناصر والمحب ، فهو ليس مختصاً بهؤلاء ، لأنّ كلّ مؤمن محب للآخرين أو ناصر لهم كما يقول سبحانه : « وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِناتُ بَعْضُهُمْ أَولياءُ بَعْضٍ » . (2)
    الثاني : انّ ظاهر الآية انّ هناك أولياء وهناك مولّى عليهم ، ولا يتحقّق التمايز إلا بتفسير الولاية بمعنى الزعامة حتى يتميّز الزعيم عن غيره ، وهذا بخلاف ما لو فسرّناه بمعنى الحب والود أو النصر ، فتكون الطوائف الثلاث عندئذ على حد سواء
1 ـ الأحزاب : 6.
2 ـ التوبة : 71.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس