مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 321 ـ 330
(321)
في اللّه عزّوجلّ ، قلنا : صدق اللّه ، وقالوا : كذب اللّه. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة » . (1) والإمام فسر الآية بالتنبيه على المصداق الواضح. وعلى هذا جروا في تفسيرهم للآيات القرآنية ، فهم يفسّرونها بمصاديق واضحة ، وجزئيّات خاصّة ، ولا يريدون انحصار مفهومها فيه.
    4. سئل عن معنى قول اللّه : « وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ » (2) فقال عليه السَّلام : « أمر النبيّ أن يحدّث بما أنعم اللّه به عليه في دينه » . (3) وقد لفت الإمام في هذا التفسير نظر السائل إلى أظهر مصاديق النعمة وأكملها ، بما ربما يغفل عنه الإنسان ، ويتصوّر أنّ النعم التي يجب التحدّث بها هي النعم الدنيويّة ، مع أنّها ضئيلة في مقابل النعم الأُخرويّة ، فقد قلنا : إنّ هذا النمط من التفسير في كلامهم كثير ، وهذا التفسير هو ما يسمّيه العلاّمة الطباطبائي بالجري والتطبيق. ولا يراد انحصار الآية في المصداق الخاصّ ، وربما يتصوّر الجاهل بأنّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي أو تفسير بالباطن ، غافلاً عن أنّه تفسير بالمصداق والتطبيق ، لأنّ إعطاء الضابطة بالمثال أوقع في النفوس ، وأقرب إلى ترسيخها فيها ، خصوصاً إذا كان المصداق ممّا يغفل عنه المخاطب.
    هذه نماذج ما روي عن الإمام السبط الشهيد ، حسين الإباء والعظمة أبي الشهداء ، سلام اللّه عليه سلاماً لا نهاية له.

    زين العابدين ( عليه السّلام ) والتفسير
    الإمام زين العابدين ، إمام العارفين ، وقائد الزاهدين ، وسيّد الساجدين ،
1 ـ بلاغة الحسين : 87.
2 ـ الضحى : 11.
3 ـ تفسير الصافي : 368/3 ؛ و نور الثقلين : 476/3 ، نقلاً عن الخصال.


(322)
رابع أئمّة العصمة والطهارة ، ولد بالمدينة المنورة سنة ستّ وثلاثين من الهجرة يوم فتح البصرة ونزول النصرة على أبي الأئمّة ، وتوفّي فيها سنة خمس وتسعين مسموماً ، ودفن بالبقيع ، وعاش مع جدّه عليّ أربع سنين ، ومع عمّه الحسن عشر سنين ، ومع أبيه كذلك ، إلى أن استلم الوصاية والولاية من أبيه.
    ومن آثاره الباقية أدعيته المعروفة بالصحيفة السجاديّة ، وقد بلغت في جزالة اللفظ ، وبلاغة التعبير ، وجودة السبك ، ورقة المعاني ، ولطافة المفاهيم مبلغاً ، لا يدرك شأوه. كما روي عنه ( عليه السّلام ) أحاديث وافرة في مجال التفسير ، ونأتي بنماذج قليلة منها ليكون مثالاً لما لم ننقله عنه :
    1. كان التقشّف سائداً على زهاد عصره ، فيتخيّلون أنّ الزهد في ترك ملاذّ الحياة وملابسها ، ولبس الثوب الخشن ، وأكل الطعام الجشب ، مع أنه من مظاهر الزهد لا من مقوماته وحقيقة الزهد يرجع إلى أن لا يملك الإنسان شيء ، فجاء رجل ، فسأله عن الزهد ، فقال : إنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه : « لِكَيْلا تَأْسوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » (1) (2)
    فكان يشتري كساء الخزّ بخمسين ديناراً ، ويقول : « مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ » . (3) (4)
    وعلى هذا مشى الأئمّة فكان الحسن السبط ـ كما عرفت ـ إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقتل الحسين وعليه جبّة خزّ ، وكان للإمام الصادق عليه السَّلام جبّة خزّ وطيلسان خزّ ، فإذا سئل عن لبسه قرأ قوله سبحانه : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ
1 ـ الحديد : 23.
2 ـ مجمع البيان : 240/5.
3 ـ الأعراف : 32.
4 ـ المصدر نفسه : 413/4 ؛ ورواه الآلوسيّ في روح المعاني : 111/8.


(323)
اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » . (1)
    فالجاهل ينظر إلى الصور والظواهر ، ويغترّبها ، ويتخيّل أنّ كلّ متقّشّف خشن الثوب والطعام زاهد ، وإن ملأ قلبه حبُّ الدنيا والرئاسة. والمؤمن ينظر إلى النيّات والبواطن ، فمن كان قلبه فارغاً عن كلّ شيء إلا حبّه سبحانه ، فهو زاهد بتمام معنى الكلمة ، ولكن من علّق قلبه بثوب خلق ، وعصاًبالية ، فهو راغب غير زاهد.
    2. سئل علي بن الحسين عن قوله سبحانه : « وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرْتيلاً » فقال : « معناه بيّنه تبياناً ، ولا تنثره نثر البقل ، ولا تهذّه هذّا الشعر (2) فقفوا عند عجائبه ، لتحرّكوا به القلوب ، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة » . (3)
    3. قال سعيد بن جبير : سألت عليّبن الحسين عليهما السَّلام عن قول اللّه تعالى : « قُلْ لا أَسْأَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى » ، قال : « هي قرابتنا أهل البيت » . (4). إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّ شعار الأنبياء في طريق دعوتهم كان دائماً هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأُمّة ، وكلّهم يهتفون بهذا « إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلى رَبِّ العالَمين » . (5)
    وعند ذلك كيف يصحّ للنبيّ أن يبدّل هذا الشعار ، ويجعل مودّة أقربائه أجراً على رسالته ؟! والجواب عن هذا السؤال واضح. فإنّ المراد هي الأُجور
1 ـ المصدر نفسه : 412/4.
2 ـ الهذّ : القطع بسرعة.
3 ـ نوادر الراوندي : ص 30 ، طبع مع غيبة الشيخ المفيد.
4 ـ أحكام القرآن : 475/3.
5 ـ الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.


(324)
الدنيوية التي كان بإمكان البشر تقديمها إلى الرسل. وأمّا مودّة أهل بيتهم وولائهم فليس أجراً دنيويّاً ، بل الاتّصال بهم من خلال هذه المودّة ذريعة لتكامل الأُمّة في المراحل الفكريّة والعمليّة ، فعندئذٍ تنتفع بها الأُمّة الإسلاميّة قبل أن تنتفع بها العترة ، وفي هذه الصورة لا تكون المودّة في القربى أجراً ، وإن أُخرجت في الآية بصورة الأجر. ومن المعلوم أنّ الأُمّة الإسلاميّة إنّما تنتفع ببعض أقرباء النبيّ لا كلّهم ، وهم أهل بيته الذين طهّرهم اللّه عن الرجس.
    4. روى ابن كثير في تفسيره ذكر ما جرى بين الإمام والرجل الشاميّ ، يوم جيء به أسيراً إلى الشام ، وقال له عن جهل بالإمام : الحمد للّه الذي قتلكم ، فقرأ عليّ بن الحسين عليه آيات من القرآن ومنها هذه الآية ، وقال : « نحن قرابته » . (1)

    الإمام محمّد الباقر ( عليه السّلام ) والتفسير
    الإمام محمّد الباقر ( عليه السّلام ) من أعلام أئمّة أهل البيت ( عليهم السّلام ) ، وأفذاذ العترة الطاهرة ، قام بالإمامة والقيادة الروحيّة بعد أبيه زين العابدين ، ولد عام ( 57 هـ ) ولبّى دعوة ربّه عام ( 114 هـ ) ، وقد وقف حياته كلّها لنشر العلم والحديث بين الناس ، ولم يعرف التاريخ له مثيلاً إلا ولده البارّ جعفر الصادق ، وقد غذّى رجال الفكر ، وروّاد العلم بعلمه ، وأرسى مدرسة كبيرة علميّة ، زخرت بكبار الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين ، يقف عليها من درس رجال الحديث في الشيعة ، كما صرف قسماً كبيراً من عمره في تفسير القرآن ، وقد تخرّج عليه لفيف من المفسّرين.
    فهذا أبو الجارود زياد بن المنذر فسّر القرآن من أوّله إلى آخره.
1 ـ تفسير ابن كثير : 112/4.

(325)
    يقول النجاشي : له كتاب تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر ( عليه السّلام ). (1)
    وقال ابن النديم في « الفهرست » ، عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن : « كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبوالجارود ، زياد بن المنذر » (2) قد روي قسم منه في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، وسنوافيك بأسماء لفيف من تلامذته ، وخرّيجي مدرسته ، ممّن ألّفوا في مجال التفسير كتاباً ، فانتظر.

    نماذج من تفسير الإمام الباقر ( عليه السّلام )
    1. سئل الإمام عن معنى قوله سبحانه : « وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي فَقَد ْهَوى » (3) وما هو المراد من غضب اللّه ؟ فأجاب الإمام : « طرده وعقابه » . (4)
    وبذلك أعرب الإمام عن أنّ الصفات الخبريّة ، كالغضب والرضا ، واليد والعين ، وغير ذلك إنّما تجري على اللّه سبحانه ، مجرّدة عن لوازم المادّة والجسمانيّات ، فلا مناصَ من تفسيره بمظاهر الغضب ، وهو الطرد والعقاب.
    2. سأل بريد العجليّ الإمام الباقر ( عليه السّلام ) عن الملك العظيم في قوله تعالى : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » (5) فقال : « الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، فهو الملك العظيم » . (6) فقد نوّه الإمام بتفسيره هذا أنّ الملك العظيم في لسان الشرع ليس هو السلطة الجبّارة التي تركب رقاب الناس ، من دون أن تكون لها أيّة مشروعيّة ، وإنّما الملك العظيم من استند في سلطته إلى اللّه سبحانه تكون طاعته
1 ـ رجال النجاشي : 388/1 برقم 446.
2 ـ فهرست ابن النديم : 56.
3 ـ طه : 82.
4 ـ الفصول المهمّة : 227.
5 ـ النساء : 54.
6 ـ البحار : 287/23 ح 10.


(326)
طاعته ، وعصيانه عصيانه.
    3. روى جابر الجعفي أنّه سأل الإمام ( عليه السّلام ) عن قوله سبحانه : « لَوْلا أَنْ رَأى بُرهانَ رَبِّهِ » . (1) فقال الإمام : « ما يقول فقهاء العراق في هذه الآية ؟ » قال جابر : رأى يعقوب عاضاً على إبهامه ، فقال ( عليه السّلام ) : « حدّثني أبي عن جدّي علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ) : أنّ البرهان الذي رآه أنّها حين همّت به وهم ّبها ، فقامت إلى صنم ، فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها ، أو استحياءً منه. فقال لها يوسف : تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر ولا يبصر ؟ أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ؟ ثمّ قال : واللّه لا تنالين منّي أبداً ! فهو البرهان » . (2)
    4. جلس قتادة المفسّر المعروف بين يدي الإمام الباقر ( عليه السّلام ) وقال له : لقد جلست بين يدي الفقهاء ، وقدّام ابن عبّاس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر الباقر ( عليه السّلام ) : « ويحك أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي « بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوِّ وَالآصال * رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإيتاءِ الزَّكاة » (3) فأنت ثمّ ونحن أُولئك » ، فقال له قتادة : صدقت واللّه ـ جعلني اللّه فداك ـ ما هي بيوت حجارة ولا طين. (4)
    5. روى جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام الباقر ( عليه السّلام ) أنّه سئل عن قوله سبحانه : « وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنْعامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه » (5) فقال : « المقصود دين اللّه » . (6) إنّ تفسير « خلق اللّه » بـ « دين اللّه » ليس
1 ـ يوسف : 24.
2 ـ البداية والنهاية : 310/9.
3 ـ النور : 36 ـ 37.
4 ـ الكافي : 256/6.
5 ـ النساء : 119.
6 ـ تفسير العياشي : 276/1.


(327)
بأمر غريب ، كيف لا ؟ وقد أسمى سبحانه دين اللّه فطرة اللّه ، وقال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ » . (1)
    6. إنّ مذهب الإمام في صلاة المسافر هو لزوم التقصير ، لا التخيير بينه وبين الإتمام ، كما عليه أئمّة المذاهب الأُخرى. فسأله بطلان من تلامذته ـ زرارة ومحمد بن مسلم ـ عن معنى قوله سبحانه : « وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْتَقْصروا مِنَ الصَّلاةِ » (2) وقالا : كيف صار التقصير في السفر واجباً واللّه سبحانه يقول : « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ » . ولم يقل : افعَلُوا ؟ ( فالإمام فسر الآية بأُختها ) ، فقال : أو ليس قال اللّه : « إِنَّ الصَّفا وَالمَروة من شعائِر اللّه فَمَنْ حَجَّ البَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما » (3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ وذكره اللّه تعالى في كتابه. (4)
    7. اختلفت كلمة الفقهاء في وجوب استيعاب الرأس عند المسح أو كفاية البعض ، فقد سأل زرارة الإمام الباقر ( عليه السّلام ) عن ذلك ، قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السّلام ) : ألا تخبرني من أين علمت ، وقلت ، إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ، فقال : يا زرارة قاله رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ، ونزل به الكتاب من اللّه عزّوجلّ ، لأنّ اللّه عزّوجلّ قال : « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن
1 ـ الروم : 30.
2 ـ النساء : 101.
3 ـ البقرة : 158.
4 ـ تفسير البرهان : 410/1.


(328)
يُغسل ، ثمّ قال : « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرافِق » فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما ، أن يُغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : « وَامْسَحُوا بِرءُوسِكُمْ » فعرفنا حين قال : « برءُوسكم » أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : « وَأَرجُلَكُمْ إلى الكَعبين » فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) للناس فضيّعوه .... (1)

    الإمام جعفر الصادق ( عليه السّلام ) و التفسير
    الإمام أبو عبد اللّه جعفر الصادق ( عليه السّلام ) من أبرز أئمّة المسلمين ، ولد في حجر الرسالة ، ونشأ في بيت النبوّة ، وترعرع في ربوع الوحي ، وتربّى بين جدّه زين العابدين ، وأبيه الإمام الباقر ( عليه السّلام ) ولد عام ( 83 هـ ) ، واستشهد في خلافة المنصور عام ( 148 ). نشأ في عصر تنازعت فيه الأهواء ، واضطربت فيه الأفكار ، وتلاطمت أمواج الظلم والإرهاب. فبينما كان القوم يتنازعون في الرئاسة ، والتسنّم على عرش الخلافة ، واشتعلت نيران الحرب بين الأمويّين والعباسيّين ، اغتنم ( عليه السّلام ) الفرصة وأعطى للأُمّة دروساً خالدة ، وغذّى تلاميذه بروح العلم والتفكير ، وغرس في قلوبهم بذور المعارف الإلهية ، وشحذ أذهانهم ، وأرهف طباعهم ، فتخرّج من مدرسته أعلام يستضاء بأنوارهم.
    وقد نقل المؤرّخون أنّه « نقل الناس عن الصادق ( عليه السّلام ) من العلوم ما سارت به الركبان ، و انتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) العلماء ما نقل عنه ، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم مثلما
1 ـ وسائل الشيعة : 290/1 ـ 291 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.

(329)
نقلوا عن أبي عبد اللّه ، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات ، على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا أربعة آلاف رجل » (1) وهم بين فقيه بارع ، يفتي الناس في مسجد المدينة ، كأبان بن تغلب (2) و مفسّر متضلّع ، ومحدّث واعٍ ، إلى غير ذلك ، حفظ التاريخ والرجال أسماءهم وللإمام خطوات واسعة في التفسير ، وآثار خالدة جمعها بعده تلامذته ، وسنشير إليها عند البحث عن مفسري الشيعة في القرون الإسلامية. وإليك نزراً يسيراً من تفسيره ، حتى يكون نموذجاً من الينبوع المتفجّر ، ونمير علمه الصافي :
    1. لقد كانت الزنادقة في عصر الصادق ( عليه السّلام ) بصدد التشكيك في العقائد ، وبذر الشُّبه في الأوساط. وممّا كان تلوكه أشداقهم هو ما سأله ابن أبي العوجاء ، هشام بن الحكم فقال له : فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ : « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَواحِدَة » (3) أليس هذا فرض ؟ قال هشام : بلى. وقال : فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : « وَلَنْ تَسْتَطيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقَة » (4) فقال ابن أبي العوجاء أيّ حكيم يتكلّم بهذا ؟
    فرحل هشام إلى المدينة ، و قصد دار الإمام الصادق ( عليه السّلام ) ، فقال : « يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة ؟ » قال : نعم ـ جعلت فداك ـ لأمر أهمّني. إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة ، لم يكن عندي فيها شيء قال : وما هي ؟ قال : فأخبره بالقصّة ، فقال الإمام : « فأمّا الآية الأُولى فهي في النفقة ، وأمّا الآية الثانية فإنّما
1 ـ إرشاد المفيد : 289 ، طبع إيران.
2 ـ لاحظ الفهرست لابن النديم : 322 ، ط مصر مطبعة الاستقامة ؛ رجال النجاشي : 73/1 برقم 6 ، ط بيروت ، وكلّما ننقله فهو من هذه الطبعة.
3 ـ النساء : 3.
4 ـ النساء : 129.


(330)
عنت المودّة ، فإنّه لا يقدر واحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة » . فقدم هشام بالجواب وأخبره. قال ابن أبي العوجاء : واللّه ما هذا من عندك. وفي حديث آخر قال : هذا حملته من الحجاز. (1)
    2. إنّ قوله سبحانه : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْْ قالُوا بَلى » (2) ممّا اضطرب فيه كلمات المفسّرين في تبيينها ، وذهب كلّ إلى مذهب ورأي. ولكنّ الإمام الصادق عليه السَّلام فسّرها بوجه واضح ينطبق على ظاهر الآية ، فعندما سأل عبد اللّه بن سنان عن قول اللّه عزّوجلّ : « فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيها » (3) ما تلك الفطرة ؟ قال : « هي الإسلام ، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » وفيه المؤمن والكافر » . وقد فسّر الإمام آية الذرّ بآية الفطرة ، وبيّن أنّه لم يكن هناك أيُّ كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيّين.
    وجاء في رواية أُخرى رواها أبو بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) كيف أجابوا وهم ذرّ ؟ قال : « جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه » . (4)
    وبذلك أعرب الإمام عن مفاد الآية ، و بيّن أنّ الآيتين تهدفان إلى معنى واحد ، وهو أنّ كلّ إنسان في بدء تكوّنه وظهوره ، ينطوي فطريّاً تكوينيّاً على السرّ الإلهي ، أعني : التوحيد ، منذ أن كان موجوداً ذرّياً صغيراً في رحم أُمّه ، وكأنّ أوّل خلية إنسانيّة تستقرّ في رحم الأُمّ تنطوي على هذه الوديعة الإلهيّة ، وهي الشعور الطبيعيّ باللّه ، والانجذاب إليه ، وكأنّ جينات الخليّة لدى كلّ إنسان تحمل بين
1 ـ تفسير البرهان : 420/1.
2 ـ الأعراف : 172.
3 ـ الروم : 30.
4 ـ تفسير البرهان : 47/2.
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس