مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 331 ـ 340
(331)
جوانحها هذه الخاصيّة الروحيّة ، وأنّ هذه الخاصيّة تنمو وتتكامل مع تكامل الخليّة ونموّها.
    وبهذا البيان أغنى الإمام الأُمّة عن كثير من الوجوه المذكورة في الآية التي لا تنطبق على ظاهرها ، وأوضح أنّ المفاد هو كون الإنسان مفطوراً على التوحيد.
    3. كانت المرجئة من أخطر الطوائف الإسلاميّة على شباب المسلمين ، حيث ذهبوا إلى أنّ الإيمان قول بلا عمل ، ونيّة بلا فصل ، وأنّه لا يزيد ولا ينقص ، وبذلك أعطوا للعصاة الضوء الأخضر حتى يقترفوا المعاصي الكبيرة ، و الآثام الموبقة ، من دون أن يكون لذاك تأثير على إيمانهم. وقد حذّر الإمام في خطبه وكلمه الشيعة من هذه الطائفة ، وقال : « بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » .
    وعند ما سأل أبو عمرو الزبيريّ الإمام الصادق عن الإيمان قائلاً : هل هو عمل أو قول بلا عمل ؟ يجيب الإمام قائلاً : « الإيمان عمل كلّه ، والقول بعد ذلك العمل » . ثمّ عندما يسأله هل الإيمان يتمّ وينقص ويزيد ؟ يقول الإمام : « نعم » . فقال السائل : فما الدليل على أنّه يزيد ؟ فقال : « قول اللّه عزّوجلّ : « وَإِذا ما أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمّا الّذينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمّا الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون » (1) وقال سبحانه : « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً » (2) فلو كان الإيمان واحداً ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، لم يكن لأحدٍ منهم فضل على الآخر » . (3)
1 ـ التوبة : 144 ـ 145.
2 ـ الكهف : 13.
3 ـ تفسير البرهان : 173/2 ـ 175 ، وقد أخذنا موضع الحاجة من الحديث.


(332)
    4. روى مسعدة بن صدقة ، قال : قيل لأبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) : إنّ الناس يروون أنّ عليّاً ( عليه السّلام ) قال على منبر الكوفة : أيّها الناس ؛ إنّكم ستُدعَون إلى سبّي ، ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي ، فلا تبرّأوا منّي ، فقال الإمام الصادق ( عليه السّلام ) : « ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ ( عليه السّلام ) ، ثمّ قال : إنّما قال : إنّكم ستدعون إلى سبّي ، فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي ، وإنّي لعلى دين محمّد ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ولم يقل : ولا تبرّأوا منّي » فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ قال : « واللّه ما ذلك عليه ، وما له إلا ما مضى عمار بن ياسر ، حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالإيمان ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : « إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمان » ، فقال له النبيّ عندها : يا عمّار إن عادوا فعد ، فقد أنزل اللّه عزّوجلّ عذرك « إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمان » وآمرك أن تعود إن عادوا » . (1)
    ترى أنّ الإمام يرجع الحديث إلى الآية ، ويقضي بها في حقّه ، وأنّه كيف لا يجوز البراءة مع أنّ عماراً ، حسب الرواية ، وظهور الآية ، تبرّأ من النبيّ ، ولم يكن عليه شيء قال سبحانه : « إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمان » ، وأئمّة الشيعة ـ مع شدّة تركيزهم على هذا الموقف ، من إرجاع الأحاديث المشكوكة إلى القرآن ، فما خالف منها القرآن ، يضرب عرض الجدار ـ قاموا بتطبيق هذا المبدأ عمليّاً في غير واحد من الأحاديث التي لا يسع المقام ذكرها.
    5. وقد ورد « الفقراء والمساكين » في آية الصدقات ، وجعلا من الأصناف الثمانية الذين تقسّم الزكاة بينهم. وأمّا الفرق بين الصنفين ، فقد كثر البحث فيها بين الفقهاء تبعاً للمفسّرين ، ولكنّ الإمام الصادق ( عليه السّلام ) يفسّر الفقراء في ضوء ما يمليه الذكر الحكيم ، ويقول في تفسير قوله سبحانه : « إِنَّما الصَّدقاتُ للفُقراءِ
1 ـ تفسير البرهان : 385/2.

(333)
وَالمَساكين وَالعامِلينَ عَلَيها وَالمُوَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقابِ وَالغارِمينَ وَفي سَبيلِ اللّهِ وابْنِ السَّبِيلِ فَريضَة مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكيمٌ » . (1)
     « أخرج اللّه من الصدقات جميع الناس ، إلا هذه الثمانية الأصناف الذي سمّاهم ، والفقراء هم الذين لا يسألون الناس ، وعليهم مؤونات من عيالهم ، والدليل على أنّهم لا يسألون قول اللّه : « للفُقراءِ الّذينَ أُحصرُوا في سَبيلِ اللّهِ لا يَستَطيعُونَ ضَرباً فِي الأَرضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أَغْنياءَ مِنَ التّعفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسيماهُمْ لا يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً ... » (2) ، والمساكين هم أهل الزمانة من العميان والعرجان والمجذومين ، وجميع أصناف الزمنى من الرجال والنساء والصبيان ... » . (3)
    والإمام ـ كما ترى ـ يفسّر الآية بالآية ، و القرآن بالقرآن ، وكم له من نظير في أحاديثهم ( عليهم السّلام ) ؟ وهذا من أحسن الطرق ، وأتقنها للتفسير ، ولو قام باحث بجمع ما أُثر عنهم في ذاك المجال لجاء بكتاب.
    6. قال الصادق ( عليه السّلام ) : « ما من شيء إلا وله حدّ ينتهي إليه ، إلا الذكر فليس له منتهى إليه. فرض اللّه عزّوجلّ الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان ، فمن صامه فهو حدّه ، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه ، إلا الذكر فإنّ اللّه عزّوجلّ لم يرضَ منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه. قال اللّه : « يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثيراً » . (4) لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه. (5)
1 ـ التوبة : 60.
2 ـ البقرة : 273.
3 ـ تفسير البرهان : 134/2 ، الحديث 4.
4 ـ الأحزاب : 41.
5 ـ تفسير نور الثقلين : 285/4 ، الحديث 147.


(334)
    والروايات المأثورة عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في مجال التفسير كثيرة ، لا يحيط بها إلا من صرف شطراً كبيراً من عمره في علم المأثور عنهم.
    ثمّ إنّ هناك جماعة من غير الشيعة رموا الروايات المرويّة عن الباقر والصادق عليهما السَّلام في مجال التفسير بالطائفية ، وأنّها تخرج الكتاب العزيز عن كونه كتاباً عالمياً ، إلى كتاب طائفيّ ، لا يهمّه إلا أهل البيت ، وفي مقدّمتهم الإمام عليّ ابن أبي طالب ( عليه السّلام ) ، وسيوافيك الجواب عن هذا الاعتراض ، وسنثبت هناك أنّ هؤلاء الناقدين لم يفرقوا بين « التفسير » و « التطبيق » وبين « التنزيل » و « التأويل » ، وأنّ لأئمّة أهل البيت ( عليهم السّلام ) موقفين متغايرين في تبيين الذكر الحكيم. وسيوافيك توضيحه في خاتمة الفصل ، فانتظر.

    الإمام موسى الكاظم ( عليه السّلام ) والتفسير
    إنّ الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) هو الإمام السابع عند الشيعة ، وقد قام بأمر الإمامة بإيصاء من أبيه الإمام جعفر الصادق ( عليه السّلام ) وقد روى عنه لفيف من محدّثي الأُمّة وعلمائها ، وروت الشيعة عنه أحاديث كثيرة في المعارف العامّة ، والتفسير والفقه والأخلاق ، وقام الباحث عزيز اللّه العطاردي بجمع ما أُثر عنه في كتاب مستقلّ أسماه مسند الإمام الكاظم ، وقد طبع ونشر في ثلاثة أجزاء ، وخصّ باباً مفرداً في التفسير ، ذاكراً فيه كلّ ما روي عنه في هذا الصعيد على ترتيب السور ، ونقتطف منه ـ مع الإشارة إلى مصادره ـ قليلاً من كثير ليكون نماذج من تفسيره.
    1. روى سليمان الفرّاء عنه ( عليه السّلام ) في تفسير قوله تعالى : « واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » . قال : الصبر : الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم.


(335)
قال : اللّه تعالى يقول : « وَاستَعينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاة » . (1) الصبر : الصوم » . (2)
    وهذا تفسير للآية ببعض المصاديق الخفيّة ، وكم له من نظير في تفسير أئمّة أهل البيت.
    2. روى محمد بن الفضل عنه ( عليه السّلام ) في تفسير قوله سبحانه : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » . (3) قال : « من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار ، إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئاته » . (4)
    3. روى عمر بن إبراهيم أخو العباسي قال : سألت الإمام الكاظم عليه السَّلام عن قول اللّه عزّوجلّ : « وَالّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتين » . (5) فقال : « تجدّد لهم النعم مع تجديد المعاصي » . (6) فما أخصر كلامه وأبلغ معناه ! في تبيين معنى الاستدراج.
    4. روى أحمد بن عمير عن أبي الحسن الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) قال : سئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُون » . (7) قال : « إنّ أعمال العباد تعرض على رسول اللّه كلّ صباح أبرارها ، وفجّارها فاحذروا » (8) وعلى ذلك فالمراد من « المؤمنون » طبقة خاصّة منهم ، ولا يعم كلّ من يطلق عليه المؤمن ، كما ورد في تفسير الشهداء في رواية الإمام الصادق ( عليه السّلام ). (9)
1 ـ البقرة : 45.
2 ـ تفسير العياشي : 43/1.
3 ـ النساء : 31.
4 ـ تفسير العياشي : 238/1.
5 ـ الأعراف : 182 ـ 183.
6 ـ مسند الإمام الكاظم : 24/2 ، نقلاً عن أصل علي بن أسباط المخطوط.
7 ـ التوبة : 105.
8 ـ بصائر الدرجات : 204.
9 ـ لاحظ نور الثقلين : 113/1 في تفسير قوله سبحانه : « وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً » ( البقرة : 143 ).


(336)
    هذه نماذج من تفسير الإمام ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى مسند الإمام الكاظم ( عليه السّلام ).

    الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السَّلام والتفسير
    الإمام الرضا ، عالم الأُمّة وإمامها ، ولد عام ( 148 هـ ) ، وقبض في صفر سنة ( 203 هـ ) ، وقد انتشر عنه العلم ما لم ينتشر من غيره من الأئمّة سوى الصادق عليهما السَّلام ، وقد أُتيحت له الفرصة ، ولم تعارضه السلطة ، فناظر أحبار اليهود ، و بطارقة النصارى ، والمجسّمة ، والمشبّهة من أصحاب الحديث ، فظهر برهانه ، وعلا شأنه. يقول كمال الدين بن طلحة في حقّه : نما إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانه ، وظهر برهانه ... فمهما عدّ من مزاياه كان ( عليه السّلام ) أعظم منه ، ومهما فصّل من مناقبه كان أعلى رتبة منه. (1)
    كان ( عليه السّلام ) يعيش في عصر تفتّحت فيه العقول ، وانتشرت بذور الشكّ والضلال بين المسلمين عن طريق احتكاك الثقافتين الإسلاميّة والأجنبيّة ، وانتشار تراجم الكتب اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة ، وكان جبلاً صامداً في وجه الآراء الساقطة المضادة للكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعضها :
    1. روى صفوان بن يحيى قال : سألت الرضا ( عليه السّلام ) عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبراهيم : « أَوَ لَمْ تُؤمِن قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلبِي » (2) أكان في قلبه شك ؟ قال : « لا ، كان على يقين ، ولكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه » . (3)
    2. روى ابن الفضيل عن الرضا ( عليه السّلام ) قال : سألته عن قول اللّه : « إِذا حَضَرَ
1 ـ مطالب السؤول : 85.
2 ـ البقرة : 260.
3 ـ المحاسن : 247.


(337)
أَحَدَكُمُ المَوتُ حينَ الوَصِيَةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَو آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » . (1) قال : « اللّذان منكم مسلمان ، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأنّ رسول اللّه ، قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وذلك إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته ، فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما » . (2)
    قد شاع الجبر والقدر في عصر الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ، فمن قائل بالجبر السالب للاختيار الجاعل الإنسان مكتوف الأيدي أمام الميول والاحاسيس ، ومن قائل بالتفويض يصوّر الإنسان خالقاً ثانياً لأعماله ، غير أنّ « شبهة الجبر » كانت أرسخ في النفوس من « شبهة التفويض » ، فهلمّ معي نرى كيف يفسر الآيات التي جعلت ذريعة إلى الجبر عند الحشوية.
    3. روى إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن ( عليه السّلام ) عن قول اللّه تعالى : « وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ » (3) فقال : « إنّ اللّه تعالى و تبارك لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم و بين اختيارهم » . قال وسألته عن قول اللّه عزّوجلّ : « ختَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة » (4) قال : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال عزّوجلّ : « بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤمِنُونَ إِلا قَليلاً » » (5). (6) ترى أنّه ( عليه السّلام )
1 ـ المائدة : 106.
2 ـ تفسير العياشي : 349/1 بتلخيص.
3 ـ البقرة : 17.
4 ـ البقرة : 7.
5 ـ النساء : 155.
6 ـ عيون أخبار الرضا : 424/1.


(338)
يفسّر الآية بالآية ويجتث شبهة الجبر ببيان أنّ الطبع على القلوب كان عقوبة من اللّه في حقّهم لجرائم اقترفوها ، ولم يكن الطبع ابتدائياً بلا مبرر ، إذ كيف يطلب منهم الإيمان ثمّ يطبع على قلوبهم ابتداء ، أو ليس يصف نفسه بقوله : « وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيدِ » (1) (2)
    4. روى أبو ذكوان ، قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : كنّا في مجلس الرضا ( عليه السّلام ) فتذاكروا الكبائر وقول المعتزلة فيها : إنّها لا تغفر ( إذا مات صاحبها بلا توبة ) ، فقال الرضا ( عليه السّلام ) : قال أبو عبد اللّه ( عليه السّلام ) : « قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة ، قال اللّه عزّوجلّ : « وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ » (3) (4)
    وجه الاستدلال أنّ قوله : « عَلى ظُلْمِهِمْ » حال من قوله : « للنّاس » ، ومعنى الآية : أنّ غفران اللّه شامل لهم في حال كونهم ظالمين ، والآية نظير قول القائل : « أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره » ، فمن مات بلا توبة عن كبيرة فلا يحلّ لنا الحكم بأنّه لا يغفره ، لأنّ رحمة اللّه تشمل الناس في حال كونهم تائبين أو ظالمين. نعم ليس للمقترف الاعتماد على هذه الآية ، لأنّه وعدٌ مجمل كالشفاعة.
    5. وروى الحسين بن بشار ، قال : سألت علي بن موسى الرضا عليه السَّلام أيعلم اللّه الشيء الذي لا يكون أن لو كان كيف كان ؟ قال : « إنّ اللّه هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ، وقال لأهل النار : « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ » . (5)
    وقال للملائكة لما قالت : « أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها » ، قال : « إِنّي أَعْلَمُ
1 ـ فصّلت : 46.
2 ـ لاحظ ذيل الحديث.
3 ـ الرعد : 6.
4 ـ التوحيد : 406 ، ولاحظ مجمع البيان : 3/278.
5 ـ الأنعام : 28.


(339)
ما لا تَعْلَمُون » (1) فلم يزل اللّه عزّوجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها » . (2)
    6. روى الحسين بن خالد ، عن الرضا ( عليه السّلام ) قلت له : أخبرنا عن قول اللّه : « وَالسَّماء ذاتِ الحُبُك » ، قال : « هي محبوكة إلى الأرض ، مشبكة بين أصابعه » ، فقلت : كيف تكون محبوكة إلى الأرض واللّه يقول : « رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها » ؟ فقال : « سبحان اللّه أليس يقول : « بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها » ؟ » قلت : بلى ، قال : « فثمّ عمد ، لكن لا ترونها » . (3)
    والإمام يصرّح في كلامه هذا بوجود عمدٍ في السماء غير مرئية ، ولعلّه يريد قانون الجاذبيّة العامّة التي كشف عنها العلم ، والتفصيل موكول إلى محلّه.
    7. قد شاع في عصر الإمام الاعتقاد بالرؤية التي دخلت في أوساط المسلمين من طريق الأحبار والرهبان ، واغترّ بها أكثر المحدّثين البسطاء ، وربّما كانوا يستدلّون عليها بما ورد في معراج النبيّ ، وأنّه وصل في معراجه إلى مكان لم يبق بينه و بين ربّه سوى قاب قوسين أو أدنى ، قائلاً : بأنّ المراد من قوله : « ثُمَّ دَنا فَتَدلّى » أي دنا من اللّه ومقامه الكائن فيه ، ولكنّ الرضا ( عليه السّلام ) يواجه هذه الفكرة بالنقد الحاسم ، والردّ العنيف ، وإليك القصة : دخل أبو قرّة المحدّث على أبي الحسن الرضا فقال : إنّا روينا أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم الكلام لموسى و لمحمّد الرؤية ؟! فقال أبو الحسن ( عليه السّلام ) : « فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين من الجن والإنس ، « لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار » و « وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً » و « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء » ثمّ أليس محمّد ؟ » قال : بلى. قال : « كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : « لا
1 ـ البقرة : 30.
2 ـ عيون أخبار الرضا : 1/118.
3 ـ تفسير علي بن إبراهيم : 646.


(340)
تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ » و « وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً » و « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء » ثمّ يقول : انا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ؟! أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي من عند اللّه بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر » . قال أبو قرّة : فانّه يقول : « وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخرى » فقال أبو الحسن عليه السَّلام : « إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : « ما كَذب الفُوَاد ما رأى » يقول : ما كذب فوَاده ما رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى ، فقال : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ، فآيات اللّه غير اللّه ، وقد قال : « وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً » ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة » ، فقال أبو قرّة : فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن : « إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء » . (1)

    الإمام محمد الجواد ( عليه السّلام ) والتفسير
    الإمام أبو جعفر محمد الجواد من أئمّة أهل البيت ، وهو تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام ( 195 هـ ) (2) ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة ، ورضعت شجرته ثدي الرسالة ، وتهدّلت أغصانه ثمر الإمامة. قام بأمر الولاية ، بعد شهادة والده الرضا ( عليه السّلام ) عام ( 203 هـ ) ، واستشهد هو مثل الوالد ببغداد عام ( 220 هـ ) أدرك خلافة المأمون ، وأوائل خلافة المعتصم. روى عنه لفيف من المحدّثين والفقهاء ، يربو عددهم على ( 121 ) (3) ، وروى عنه في مجال
1 ـ تفسير البرهان : 248/4.
2 ـ تاريخ بغداد : 55/3 ؛ وابن خلكان في وفيات الأعيان : 315/3.
3 ـ مسند الإمام محمد الجواد العطاردي ، وقد خصّ باباً للرواة عن الإمام ( عليه السّلام ).
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس