مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: 341 ـ 350
(341)
الفقه ، والدعاء ، والتفسير روايات وافرة نذكر نماذج ممّا روي عنه في مجال التفسير.
    1. روي العياشي ، قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم ، وهو يروي هذه القصّة :
    إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّعليه ، فسأل الفقهاء عن موضع القطع ، فمن قائل : يجب قطعه من الكرسوع ، لأنّ اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع لقوله تعالى : « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأيْدِيَكُمْ منْه » (1) إلى آخر يقول : يجب القطع من المرفق ، لأنّ اللّه قال : « وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِق » (2) فدلّ على أنّ حدّ اليد هو المرفق ، و لمّا رأى المعتصم اختلافهم التفت إلى « محمد بن علي » فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : « قد تكلّم القوم فيه » . قال : دعني ممّا تكلّموا به. أي شيء عندك ؟ قال : « أعفني عن هذا ، يا أمير المؤمنين ! » قال : أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه. فقال : « أمّا إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول : إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فانّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع ، فيترك الكفّ » . قال : وما الحجّة في ذلك ؟ قال : « قول رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال تعالى : « وأنَّ المساجِدَ للّهِ » يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحداً » (3) وما كان للّه لم يقطع » . فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف ، قال ابن أبي داود : قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حياً. (4)
1 ـ المائدة : 6.
2 ـ المائدة : 6.
3 ـ الجن : 18.
4 ـ تفسير العياشي : 319/1 ـ 320.


(342)
    وقد نقل ما ذكره الإمام ، عن سعيد بن جبير ، والفرّاء ، والزجّاج ، وأنّ المراد من المساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة ، وعلى هذا فالمراد أنّ مواقع السجود من الإنسان للّه ، اختصاصاً تشريعيّاً ، والمراد من الدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة ، أو المراد الصلاة بما أنّها تتضمّن السجود للّه. (1)
    وروى حماد بن عيسى ، عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في حديث : وسجد الإمام على ثمانية أعظم : الكفين ، والركبتين ، وإبهامي الرجلين ، والجبهة والأنف ، وقال : « سبعة منها فرض يسجد عليها ، وهي التي ذكرها اللّه في كتابه فقال : « وَانَّ المَساجِدَ للّهِ فَلا تَدعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً » ، وهي : الجبهة ، والكفّان ، والركبتان ، والإبهامان ، ووضع الأنف على الأرض سنّة » . (2)
    2. عن محمد بن سعيدالأزدي صاحب موسي بن محمدالرضا عن موسى قال لأخيه كتب يحيى بن أكثم المروزي إليه يسأله عن مسائل ، وقال : أخبرني عن قول اللّه : « وَرَفَعَ أَبَويهِ عَلى العرشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجّداً » أسجد يعقوب وولده ليوسف ؟ قال : « فسألت أخي عن ذلك ، فقال : أمّا سجود يعقوب وولده ليوسف فشكراً للّه ، لاجتماع شملهم ، ألا ترى أنّه يقول في شكر ذلك الوقت : « رَبّ قد آتَيْتَني مِنَ المُلْكِ وَعَلّمتني من تَأَويل الأَحاديث » » . (3)
    3. سأل عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني محمد بن علي الرضا ( عليه السّلام ) عن قول اللّه عزّوجلّ : « أَولى لَكَ فَأَولى * ثُمَّ أَولى لَكَ فَأَولى » (4) فقال : « يقول اللّه عزّوجلّ : بعداً لك من خير الدنيا بعداً ، وبعداً لك من خير الآخرة » . (5)
1 ـ الميزان : 125/20.
2 ـ تفسير البرهان : 394/4.
3 ـ تفسير العياشي : 197/2.
4 ـ القيامة : 34 ـ 35.
5 ـ عيون أخبار الرضا : 54/2.


(343)
    لا ريب أنّها كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد ، وقد جاء قبل الآية قوله : « فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى * وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطّى » . (1)
    فاللائق بهذا الإنسان الذي لم يصدق ولم يصل ، ولكن كذب وتولى ، ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى متبختراً مختالاً ، هو البعد عن غفران اللّه سبحانه ورحمته ، وخيره في الدنيا والآخرة ، ونظير الآية قوله سبحانه : « رَأَيتَ الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ ِ فَأَولى لَهُمْ » (2) ، أي هذه الحالة أولى لكم لتذوقوا وبال أمركم في الدنيا والآخرة ، وفي مورد الآية المعنى الابتدائي ، هو أنّ هذه الحالة أولى له ، لأنّه لا يستحق إلا إيّاها ليذوق وبال أمره وليبتعد من خير الدنيا والآخرة ، ففسّر الآية بما هو المقصود من كون هذه الحالة أولى له.
    4. روى علي بن أسباط ، قال : قلت لأبي جعفر محمد الجواد : يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك ( ونيلك مقام الإمامة والقيادة الروحية ) ، قال : « وما ينكرون من ذلك. فو اللّه لقد قال اللّه لنبيّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) : « قُلْ هذِهِ سَبيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... » (3) وما أتبعه غير علي ، وكان ابن تسع سنين وأنا ابن تسع سنين » .
    والآية مكّية تنطبق على ما يذكره الإمام حيث إنّ الأوّل من آمن بمحمّد من الرجال هو عليّ بن أبي طالب ( عليه السّلام ).
    هذه نماذج ممّا روي عن الإمام التاسع محمد الجواد ( عليه السّلام ) في مجال التفسير ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى مسنده وسائر الكتب الحديثيّة التي تضمّنت أخباره ( عليه السّلام ).
1 ـ القيامة : 31 ـ 33.
2 ـ محمّد : 20.
3 ـ يوسف : 108.


(344)
    الإمام علي الهادي ( عليه السّلام ) والتفسير
    الإمام علي الهادي ( عليه السّلام ) ، الإمام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام ( 212 هـ ) و توفي بسامراء سنة ( 254 هـ ) وهو من بيت الرسالة ، والإمامة ، ومقر الوصاية ، والخلافة ، وثمرة من شجرة الرسالة ، قام بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد ، وكان في سني إمامته ، بقية ملك المعتصم ثمّ الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ ، وله مع هؤلاء قضايا ليس المقام يسع ذكر البعض ، وقد روت الشيعة عنه أحاديث في مجال الفقه والتفسير ، وإليك نماذج ممّا روي عنه في الأخير :
    1. قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فأسلم فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت » ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم « فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحدَهُ وَكَفَرنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكين * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الّتي قَدْخَلَتْ في عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُون » (1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2)
    إنّ الإمام الهادي ( عليه السّلام ) ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعيّة هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصاً لا يلتفت إليه إلامن نزل القرآن في بيته ، وليس
1 ـ غافر : 84 ـ 85.
2 ـ مناقب آل أبي طالب : 405/4.


(345)
هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه ( عليهم السّلام ).
    2. لما سمّ المتوكّل نذر للّه إن رزقه اللّه العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة ، فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم « المال الكثير » ، فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام علي الهادي ( عليه السّلام ) فسأله ، قال : « يتصدّق بثلاثة وثمانين ديناراً » ، فقال المتوكّل ، من أين لك هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : « لَقَدَ نَصَرَكُمُ اللّه في مَواطِنَ كَثيرة ... » (1) والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث خمساً وخمسين سرّية ، وآخر غزواته يوم حنين » ، وعجب المتوكّل والفقهاء من هذا الجواب. (2) وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال : بثمانين مكان « ثلاثة وثمانين » ، وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر اللّه المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين. (3)
    3. إنّ للإمام الهادي ( عليه السّلام ) رسالة في الردّ على الجبر والتفويض ، وإثبات المنزلة بين المنزلتين ، فقد استعان في إبطال المذهبين الذين كان يدين بهما أهل الحديث ، والمعتزلة بكثير من الآيات على شكل بديع ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إحاطته بالآيات ونضدها بشكل يوصل الجميع إلى الغاية المطلوبة ، نقتبس منها ما يلي :
    فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أنّ اللّه ـ جلّ وعزّ ـ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول ، فقد ظلم اللّه في حكمه وكذّبه ورّد عليه قوله : « ... ولا يَظْلِم ُرَبُّكَ أَحداً » (4) وقوله : « إِنَّ اللّهَ لا
1 ـ التوبة : 25.
2 ـ تذكرة الخواص : 202.
3 ـ مناقب آل أبي طالب : 402/4.
4 ـ الكهف : 49.


(346)
يَظْلِمُ النّاسَ شَيئاً وَلكنَّ الناسَ أَنفسَهُمْ يَظْلِمُون » . (1)
    فمن دان بالجبر ، أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم اللّه ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أنّ اللّه أجبر العباد ، فقد أوجب على قياس قوله : إنّ اللّه يدفع عنهم العقوبة ( أي لازم القول بالجبر أنّ اللّه لا يعذّب العصاة ، لأنّه دفعهم إلى المعاصي ) ، ومن زعم أنّ اللّه يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب اللّه في وعيده ، حيث يقول : « بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطيئتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون » . (2)
    وقوله : « إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اليَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأَكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسيصلَوْنَ سَعيراً » (3) وقوله : « إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلّما نَضِجَت جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيرها لِيَذُوقُوا العَذابَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَزيزاً حَكيماً » (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الفن ممّن كذب وعيد الله ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب اللّه ، الكفر ، وهو ممّن قال اللّه [في حقّه] : « أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزيٌ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ العَذابِ وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون » . (5)
    بل نقول إنّ اللّه عزّوجلّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : « مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيئَةِ فَلا يُجزى إِلا مِثْلها وَهُمْ لا يُظْلَمُون » (6). وقال جلّ ذكره : « يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيرٍ مُحضَراً وَما
1 ـ يونس : 44.
2 ـ البقرة : 81.
3 ـ النساء : 10.
4 ـ النساء : 56.
5 ـ البقرة : 85.
6 ـ الأنعام : 160.


(347)
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَيْنها وَبينَهُ أَمَداً بَعيداً وَيُحذِّركُمُ اللّهُ نَفسَهُ » (1) وقال : « اليومَ تُجزى كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلمَ اليومَ » (2) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ، ومثلها في القرآن كثير. ثمّ شرع في إبطال التفويض وأبان خطأ من دان به وتقلده.
    ولنقتصر على هذا المقدار ، وفيه كفاية ، وما جاء في هذه الرواية من التفسير نمط بديع ، وهو ما نسمّيه اليوم بالتفسير الموضوعي ، وقد أتى الإمام ( عليه السّلام ) في رسالته بأكثر الآيات التي ربّما تقع ذريعة للمجبّرة والمفوّضة ، وأبان تفسيرهما بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات ، كما أثبت أنّ الحقيقة هو المنزلة بين الجبر والتفويض ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى نفس الرسالة التي نقلها الحسن بن شعبة الحرّاني في كتابه. (3)

    الإمام العسكري ( عليه السّلام ) والتفسير
    أبو محمّد الحسن بن علي أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر عند الشيعة الملقّب بالعسكري ، ولد عام ( 232 هـ ). (4) وقال الخطيب في تاريخه وابن الجوزي في كتابه : ولد أبو محمد في المدينة سنة ( 231 هـ ) (5) وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة ( 236 ) وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور ، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز
1 ـ آل عمران : 30.
2 ـ غافر : 17.
3 ـ تحف العقول : 338 ـ 352.
4 ـ الكافي : 503/1.
5 ـ تاريخ بغداد : 366/7 ؛ تذكرة الخواص : 362.


(348)
تقدّمه على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال العقل والعلم والزهد والشجاعة. روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدثين ما يربو على ( 150 ) شخصاً ، وقد أدرج « العطاردي » أسماءهم في مسند الإمام العسكري وتوفّي عام ( 260 هـ ) ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء ، وللإمام روايات تلقّاها الرواة في مجال العقائد والفقه والتفسير ، نذكر نزراً يسيراً لتعلم مكانته في التفسير :
    1. لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسرين فضربوا يميناً ويساراً ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً ، ولكن الإمام ( عليه السّلام ) يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.
    فقال اللّه : « الم * ذلِكَ الكِتاب ». [فقل : ] يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّهم لا يقدرون عليه بقوله : « قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً (1) » . (2) وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي ( عليه السّلام ). (3)
    2. كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشكّ في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : « إِهْدِنا الصِّراط المُسْتَقيم » ، أو لستم فيه ؟ فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه ؟ ففسّر الإمام
1 ـ الإسراء : 88.
2 ـ معاني الأخبار : 24 ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.
3 ـ الكافي : 24/1 ـ 25 ، كتاب` العقل والجهل ، الحديث 20.


(349)
الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « ادم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا » .
    ثمّ فسّر الصراط بقوله : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة. أمّا الأوّل : فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل. وأمّا الطريق الآخر : فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لايعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة » . (1)
    وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ، ونسبوا إلى الأئمّة الهداة أُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكلّ مسلم هو التجنّب عن الغلوّ والتقصير.
    3. ربّما يغترّ الغافل بظاهر قوله سبحانه : « صِراطَ الّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... » ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ، ولكنّ المراد من الآية بقرينة قوله : « غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالّينَ » هو نعمة التوفيق والهداية.
    ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : « وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ والصِّديقينَ وَالشُّهداء وَالصّالِحين وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً » ، ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة » . (2)
    4. لقد تفشت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تُخلق استلهاماً من
1 ـ معاني الأخبار : 33.
2 ـ معاني الأخبار : 36.


(350)
بعض المدارس الفكرية الفلسفيّة الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : « يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ » (1) فقال : هل يمحو إلا ما كان ، وهل يثبت إلا ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. انّه لا يعلم الشيء حتى يكون ، فنظر إليّ شَزَراً ، وقال : « تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه. (2)

    حصيلة البحث
    هؤلاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم ، بل أئمّة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك ، وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الأُمّة على التمسّك بهما ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » . (3)
    ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت ، وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين ، وإنّما استعانوا في تفسيره بأُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقّون غبارهم ، نظراء : مجاهد بن جبر ( المتوفّى 104 هـ ) وعكرمة البربري ( المتوفّى 104 هـ ) وطاووس بن كيسان اليماني ( المتوفّى 106 هـ ) وعطاء بن أبي رباح ( المتوفّى 114 هـ ) ومحمد بن كعب القرظي ( المتوفّى 118 هـ ) ، إلى غير ذلك من أُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة
1 ـ الرعد : 39.
2 ـ إثبات الوصية : 241.
3 ـ رواه غير واحد من أصحاب الصحاح والمسانيد وهو من الأحاديث المتواترة ، ( لاحظ نشرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. حول هذا الحديث ، ترى اسنادها موصولة إلى النبيّ الأكرم ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ).
مفاهيم القرآن ـ جلد العاشر ::: فهرس