مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 161 ـ 170
(161)
[ إلى أبيه ] فأعلمه) (1).
    2 ـ نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (430) أنّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : (إنّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل ـ أو راعي غنم ـ ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ) (2).
    3 ـ قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر ، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها. (3).
    كلّ هذه النصوص، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.
    ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على ، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة، كان هو التنصيص والتعيين ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ
    إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها ، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    1 ـ الإمامة والسياسة للدينوريّ : 32.
    2 ـ حلية الأولياء 1 : 44.
    3 ـ الإمامة والسياسة 1 : 168 (طبعة مصر ).


(162)
    ولكنّك ـ أيّها القارىء الكريم ـ اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم ، وعرفت أنّه لم يكن هناك أيّ انتخاب من جانب المسلمين ، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.
    نعم ، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب (أبي بكر) و (الإمام علي) للحكم ، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.
    والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على مذهبه ، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.
    ولنتناول البحث حول خلافة (أبي بكر)أولاً ، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر
    إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها ، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم ، أو ما شابه ذلك ، بتصدي أبي بكر للخلافة ، يتوقف على أثبات أمرين ، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :
    الأوّل : هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة ، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع ، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها ، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة .. بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟
    الثاني : هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة ، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة ، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول ، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب ، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في


(163)
أذهانهم ممّا قبل الإسلام ، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟
    والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشةو التحقيق والتأمّل فنقول : (1)
    أمّا النقطة الاُوّلى : فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة ، بل لم ينتخبه إلاّ أربعة أنفار لا غير ، وهؤلاء النفر هم ، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم اسيد بن حضير ، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب ، والمقداد ، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان ، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير ، وعشرات اخرين من الصحابة.
    كما أنّ الخزرجيين ـ رغم حضورهم في السقيفة ـ امتنعوا من البيعة لأبي بكر.
    وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه ، لأنّه لميقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة ، بل تمّ بمبادرة(عمر ) إلى مبايعة أبي بكر ، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس اسيد بن حضير ، وتبعه الأوسيون .. بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر .. كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً .. من تهاجيهم.
    ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة ، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب .. وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.
    1 ـ البحث عن النقطة الاولى ، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ.
    والبحث عن النقطة الثاني ـ ـ ـ ة، بحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول اللّه ـ بلا فصل ـ هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة ، واللازم على القارىء أن لا يخلط بين الأمرين.


(164)
    ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة ، لايمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.
    فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل ، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف ، والشتيمة والمهاترات.
    فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر ـ يوم السقيفة ـ وهو يقول : (واللّه لا يرد عليّ أحد ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد) (1).
    وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.
    وها هو آخر (وهو سعد بن عبادة) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : (أنا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي) (2).
    وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله : (إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم) (3).
    وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار ، يداس بالأقدام ، وينزى عليه وينادى عليه بغضب : (اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق ، أو صاحب فتنة) وقد قام الرجل على رأسه ويقول : (لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك) (4).
    فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : (واللّه لو حصصت منه شعرةً ما
    1 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 : 16.
    2 ـ الغدير 7 : 76.
    3 ـ الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 210.
    4 ـ مسند أحمد 1 : 56 ، تاريخ الطبري 3 : 210 وغيرهما.


(165)
رجعت وفي فيك واضحة !!! أو : لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة) (1).
    وهذا الزبير لمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول : (لا أغمده حتّييبايع عليّ ) فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر ويكسر (2).
    وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره (3).
    وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة ، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له : إن أبوا فقاتلهم.
    فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول : واللّه لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وتصيح وتنادي : « ياأبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (4).
    وها هو الإمام علي ّ (عليه السلام) يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له : بايع فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال : إذن واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، فيقول : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله » (5).
    وهؤلاء لمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، يردّ عليه عمر قائلاً : إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!
    وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة ، ولا تقوم على أساس من المبادىء الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول : (كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة ، وقى اللّه شرّها ».
    1 ـ تاريخ الطبري 3 : 210 ، السيرة الحلبيّة 3 : 387.
    2 ـ الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 199.
    3 ـ تاريخ الطبري 3 : 210.
    4 ـ تاريخ الطبري 3 : 210 ، الإمامة والسياسة 1 : 13.
    5 ـ الإمامة والسياسة 1 : 13 ، أعلام النساء 3 : 206.


(166)
ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أيّ صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول : (فمن عاد إليها فاقتلوه) (1).

تحليل لخلافة الإمام عليّ
    وأمّا خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) فهي وإن أجمع المسلمون عليها ، وأقبل عليه الناس برمّتهم ، إلاّ أنّه (عليه السلام) لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له ، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّه (عليه السلام) والتي تنص على خلافته من جانب اللّه سبحانه.
    وما عليك إلاّ أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.
    عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال : جمع عليّ رضي اللّه عنه الناس في الرحبة ، ثم قال لهم : « أنشد اللّه كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول يوم غدير خم ما سمع لمّا قام » ، فقام ثلاثون من الناس وقال ، أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس : « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا : نعم يارسول اللّه ، قال : « من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » قال : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً ، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّي سمعت عليّاً رضي اللّه عنه تعالى يقول : كذا وكذا. قال : فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول له ذلك (2).
    وفي رواية أنّ علياً (عليه السلام) نشد الناس من سمع رسول اللّه يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها فدعا عليّ (عليه السلام) عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره (3).
    1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 123 ( طبعة مصر ).
    2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 362 ، اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.
    3 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 362 ، اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.


(167)
    هذا كله في البحث عن النقطة الاولى ، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟
    وأمّا النقطة الثانية : أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول اللّه بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.
    الثانية : أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة (أي البيعة) لم يكن تعليماً إسلاميّاً، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة ، وأتى به الإسلام.
    لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك ، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه ، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلاّ بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له ، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته ، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة ، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من جانب اللّه تعالى ، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.
    وعلى كلّ حال ، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.
    ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام ، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً ، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة ، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص (1).
    1 ـ وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم ، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلاّ تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب اللّه سبحانه ، ولطمأنة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

(168)
    وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان إسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام ، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا ـ في تعيين الخليفة ـ بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم ـ في وقته ـ كآيات الشورى والمشورة ، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة ، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة ، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان من قريش ، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.
    ومن المعلوم، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.
    وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية، يشير الإمام عليّ (عليه السلام) وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :
فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فكيف بهذا والمشيرون غيّب فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب (1)
    أمّا ما ورد في كلامه (عليه السلام) من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد ، فلم يكن إلاّ لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه ، وذلك لأنّ موضوع القيادة ـ كما أسلفناه ـ ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف ، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.
    1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 : 416.

(169)
3 ـ صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السابقة :
    إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة ، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة ، وما أسميناه بالاستخلاف ، وتفيد ـ بالتالي ـ أنّ المتّبع بين الامم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد ، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.
    وإليك هذه النقاط :
    1 ـ لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الامم وسهروا في صياغتهم ، واجتهدوا في تعليمهم، إلى خلفاء صالحين لائقين (1). ليتسنّى لتلك الامم والأقوام والجماعات ـ في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء ـ أن تستمر في طريق التكامل والرشد.
    صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً ، إلاّ أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء ، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.
    وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً ، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم ، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء ، يعيّنونهم بالاسم والشخص، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة ، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.
    2 ـ إنّ القيادة والرئاسة بين الامم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً ، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :
    1 ـ هذا معلوم على نحو الإجمال ، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

(170)
    أ ـ ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحَ ـ اً وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْ ـ رَانَ عَلَى الْعَالَ ـ مِين ) (آل عمران : 33). ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (آل عمران : 34).
    ب ـ ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ الْنُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الْصَّالِحِينَ ) (العنكبوت : 27).
    ج ـ ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحَاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (الحديد : 26).
    ففي هذه الآيات، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.
    د ـ وعندما يختار اللّه تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه ، ولا يردّ اللّه دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه ، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول : ( قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامَاً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (البقرة : 124).
    ه ـ وعند ما يطلب موسى (عليه السلام) أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة .. يحكي اللّه ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ) (طه : 30).
    وهذه الآيات، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح ، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.
    3 ـ إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية ، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء ، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :
    ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيم (عليه السلام) :
    1 ـ إسماعيل بن إبراهيم.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس