مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 181 ـ 190
(181)
    (لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه اللّهمّ إلاّ تلك الأوامر العامّة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (1) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأوضحت سبله ، كما أوضحت سبل الصلاة والصيام) (2).
    وما ذكره الأستاذ ادّعاء غريب إذ فيه :
    أوّلاً : كيف لم يرد في السنّة بيان نظام خاصّ حول الخلافة إلاّ الأوامر العامّة ، وقد فصّل الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم جلائل الأمور وصغائرها فيما هو أقلّ شأناً من أمر الخلافة بكثير.
    كيف وقد بين الرسول كثيراً من المستحبات والمسنونات التي لاتبلغ في الأهميّة والخطورة مبلغ الخلافة والحكومة.
    وثانياً : إنكّ قد عرفت أنّ أمر الخلافة لا يصحّ أن يكله النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى الاُمّة وقد عرفت الوجوه الدالة على ذلك ، من عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة ، وتجذّر الخلافات العشائريّة بينهم ، والخطر الثلاثي الذي يحدق بهم ، ويهدّد كيانهم (3).
    وثالثاً : أنّ الاستاذ لو أحاط بتاريخ الإسلام والمسلمين وما أثر من الرسول من أحاديث صحيحة ومتواترة حول الخلافة لوقف على النصوص الصريحة في لون الخلافة ونظامها في جميع الظروف.
    1 ـ الشورى : 38.
    2 ـ محاضرات في تاريخ الامم الإسلاميّة 2 : 161.
    3 ـ لاحظ صفحة 76 ـ 100 من هذا الجزء.


(182)

(183)
الفصل الثالث
صيغةُ الحكومة الإسلاميّة
في العصور الحاضرة
    قد أوقفك ما مضى من البحث على لون الحكومة بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرفت حقّ المقال فيه بما لا يبقى لمشكّك شكّ ، ولا لذي ريب ريب.
    غير أنّ المهمّ ـ الآن ـ هو ، بيان صيغة الحكومة في العصور الحاضرة التي لا تتمكن الاُمّة فيها من الوصول إلى الإمام المنصوص عليه باسمه وشخصه ، وهذا هو ما عقدنا له الفصل التالي.

ماذا كُتب حول الحكومة؟
    إنّ إيضاح صيغة الحكومة الإسلاميّة في هذه العصور ، وبيان مناهجها وخطوطها وخصائصها مع كونها من أهمّ الموضوعات الحيويّة ، لم يبذل علماء الفريقين حولها الجهود الكبيرة اللائقة بشأنها ، وذلك لسبب في جانب أهل السنّة ، وسبب في جانب الشيعة.
    أمّا الأوّل ، فبما أنّ الاسلوب الّذي تمّت به خلافة الخلفاء في العصر الأوّل قد صار ملاكاً للحكومة الإسلاميّة عندهم وحسبوا أنّه المعيار الصحيح ولأجل ذلك صار هذا


(184)
مانعاً عن تحقيق الموضوع حسب ما يليق به.
    وقد صار ذلك مؤثراً في تعطيل القوى المفكِّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي ربّما يرشدنا إليه الكتاب والسنّة عند التدبُّر.
    وقد سبقنا إلى ذكر هذا السبب الكاتب عبد الكريم الخطيب في كتابه الخلافة والإمامة (صفحة 272) حيث قال : (وقد كان لهذا الإسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي جرّبتها الامم .. إذ أصبحت البيعة التي ظهرت صورتها في سقيفة بني ساعدة ، هي الصورة المرتسمة في ذهن المسلمين وهي عندهم الصورة المثلى لاختيار الخليفة).
    وأمّا من جانب الشيعة ، فلأجل أنّهم لم تقم لهم حكومة إسلاميّة واسعة الأطراف إلاّ دويلات مثل الحمدانييّن والبويهييّن والفاطمييّن ، وقد قضت عليها السلطات الجائرة ، لم يستدعي ذلك البحث عن خطوط الحكومة الإسلاميّة ومسائلها ولأجل ذلك ، اكتفوا بالبحث عن المسائل التي كانت تبتلي بها الشيعة في جميع العصور ، كالخراج والمقاسمة والتولّي عن الحاكم الجائر وغيرها ممّا لم تكن خاصّةً بعصر دون عصر.
    نعم ذكر ابن النديم في فهرسته (صفحة 50) كتاباً لأبي موسى جابر بن حيّان تلميذ الإمام جعفر الصادق المتوفّى عام (200) اسمه (الحكومة) ولا نعلم خصوصيّات الكتاب.
    وألفّ بعض علماء الشيعة كتباً ورسائل في بعض المسائل التي تمتُّ إلى الحكومة بصلة « كقاطاعة اللجاج في حلّ الخراج » للمحقّق الكركي المتوفّى عام (940 هـ) ، و « الخراجيّة » للمحقّق الأردبيليّ المتوفّى عام (993) وقد طبعت في هامش كتاب درر الفوائد للمحقّق الخراسانيّ.
    كما أنّ هناك رسائل اخرى في هذا الموضوع ذكرها البحّاثة شيخنا الطهرانيّ في موسوعته الذريعة ، راجع الجزء 7 صفحة 68 و 144.
    وألفّ غير واحد من علماء الشيعة حول الدفاع والجهاد ، كتباً مفصّلة وهما يعدّان


(185)
من مسؤوليات الدولة ، كما ألفّوا رسالات حول الولاية عن الحاكم الجائر.
    وقد قام في العصر الحاضر أعلام من الشيعة بدراسة هذا الأمر الحيويّ ، ونخص بالذكر العلمين الجليلين : آية اللّه المحقّق النائينيّ المتوفي عام (1355) وقد سمّى كتابه : تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة وطبع عام (1327) وقرضه العلمان(آية اللّه الخراسانيّ وآية اللّه المازندرانيّ) وآية اللّه العظمى الإمام الأكبر المجاهد السيد روح اللّه الخمينيّ قائد الثورة الإسلاميّة الظافرة ، وقد بحث عن الحكومة الإسلاميّة بصورة مسهبة في سلسلة محاضرات منتظمة وقد طبعت تحت عنوان « الحكومة الإسلاميّة ».
    ولأعلام السنّة مؤلفات في هذا المجال ، يعالج كلّ واحد منها بعض النواحي من الحكومة الإسلاميّة ، وأخصُّ بالذكر كتب :
    1 ـ الأموال للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفّى عام (224) وهو من أنفس ما ألّف في هذا الموضوع.
    2 ـ « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي الحسن عليّ بن محمد الماورديّ الشافعيّ المتوفّى عام (450) وقد رتّبه على عشرين باباً.
    3 ـ « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي يعلى محمّد بن الحسين الفرّاء الحنبليّ المتوفّى ببغداد عام (458) وهو معاصر للماورديّ.
    4 ـ « معالم القربة في أحكام الحسبة » لابن الأخوة القرشيّ المتوفّى عام (760 هـ) وهو من أبسط ما كتب في شؤون المحتسب.
    5 ـ « الحسبة في الإسلام » تأليف أحمد بن تيمية المولود عام (661 ـ 728 هـ) هذا ما كتبه القدامى من المفكّرين والعلماء.
    وأمّا المتأخِّرون، فقد أكثروا في الكتابة عن الموضوع في عصرنا هذا ، غير أنّ الجميع ـ كما أشرنا إليه ـ لم يتجاوزوا عن تصوير الحكومة الإسلاميّة التي قامت في عهد الخلفاء ومن بعدهم من الأموييّن والعباسييّن ، فهذه الكتب أشبه بتأريخ الخلافة الإسلاميّة من


(186)
تحقيق خطوطها ورسم معالمها على ضوء الكتاب والسنّة.
    والغريب، أنّ هذه المسائل تهمل ولا يعتني بها كتابنا الأوائل والحال أنّنا نجد بعض مؤرخينا السالفين، دأبوا على تكريم الظالمين وكالوا لهم الثناء بغير حساب ، وسخّروا تفكيرهم وجهودهم للإطراء على سرفهم و ترفهم ، وأعمالهم السيئة فحفلوا ـ فيما كتبوه من تاريخ ـ حتّى بحياة المشعوذين والمجانين ، بل وأحوال غلمان الملوك وقردتهم والمغنيّن والراقصين ، ونمثل لذلك بكتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهانيّ المتوفّى عام (356) الذي حفل بكلّ مغنّ ومغنيّة وكلّ راقص وراقصة ، وكلّ شاذّ وشاذّة ، ونقل أشعارهم المائعة وقصائدهم الماجنة ، وكتب في ألوان الألحان والأصوات وذكر الأشعار الموافقة لألحانها مع تراجم شعرائها والمغنيّن بها .. بينما غفل اولئك الكتّاب عن الكتابة والتأليف عن الحكومة الإسلاميّة وخطوطها وخصوصيّتها وما ورد في شأنها في الكتاب والسنّة إلاّ عدّة مختصرات مرّت عليك ، وهو لا يكشف إلاّ عن عدم الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ ، هذا وسيقف القارىء الكريم على أنّ صيغة الحكومة في العصور الحاضرة هو التنصيص أيضاً لكن لا على العين والشخص بل على الوصف والمواصفات.
    وبعبارة أخرى : إنّ صيغة الحكومة في هذه العصور هي انتخاب الاُمّة للحاكم حسب الضوابط المنصوص عليها في الكتاب والسنّة أو كون الحاكم الأعلى مرضيّاً عند الاُمّة بعد أن يكون متّصفاً بالضوابط الشرعيّة.
    وهذا هو الذي يتجلى لك بالتفصيل والبرهان في الصفحات القادمة ، ولا يرجع هذا النمط إلى النظام الدارج في الغرب وفي كثير من البلاد الاُخرى في العالم الثالث.
    إذ في الأنظمة الديمقراطيّة السائدة اليوم ، يكفي مجرّد اجماع الشعب ، أو إكثريّته على اختيار فرداً للحكم والرئاسة ، بغضّ النظر عمّا يجب أن تتوفّر في الحاكم والرئيس الأعلى من مؤهّلات وكفاءات عالية تتوقّف عليها عمارة البلاد وسعادة العباد.
    بينما يختلف الأمر عن ذلك في ظلّ النظام الإسلاميّ الذي يحصر حقّ الحاكميّة في اللّه وحده.


(187)
    فإنّ هذا المنطلق وهذه القاعدة الأصليّة الرصينة في الفكر الإسلاميّ تفرض ، أن تكون حاكميّة غير اللّه مستندةً إلى حاكميّته سبحانه ، وموضع رضاه تعالى ، فتكون إمّا منصوصاً عليها بالاسم والعين من جانبه تعالى ـ كما أسلفناه ـ ، وإمّا أن تكون موافقةً للصفات والضوابط التي نصّ عليها الكتاب والسنّة ، فلا يكفي في شرعيّة الحكومة والرئاسة مجرد انبثاقها من إرادة الشعب كلّه أو أغلبيّته ، ما لم تكن وفق الضوابط الإلهيّة والمعايير الإسلاميّة المقرّرة في شأن الحاكم.
    وهذا أمر منطقيّ ، لأنّ الغرض من إقامة الحكومة في منطق الإسلام إنّما هو إشاعة العدل والحق والأمن ، ولا يتحقق ذلك إلاّ في ظلّ حكومة تكون منطبقةً على المعايير والضوابط الإلهيّة.
    ولذلك لا يمكن أن نصف (الحكومة الإسلاميّة) في هذه الحال بأنّها : حكومة الشعب على الشعب. بل هي حكومة اللّه على الشعب بقوانينه وضوابطه ، أو حكومة القانون الإلهيّ.
    ولا يهمّ مع ذلك، الوصف والتسمية، بعد أن اتضح منشأ الحكومة الإسلاميّة وهو حاكميّة اللّه ، وحاكميّة قوانينه وضوابطه وأحكامه.
    وبذلك يفترق اسلوب الانتخاب الشعبيّ في ظلّ النظام الإسلاميّ عمّا هو متعارف في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة السائدة ، التي تعتمد على السيادة الشعبيّة دون قيد أو مراعاة للمواصفات والمؤهّلات اللازمة في الحاكم والمنتخب ، وهي بذلك تعتبر الحاكميّة حقّاً خاصّاً بالشعب ونابعاً منه ، ومن إجماعه على شيء أو شخص وارتضائه به حقّاً أو باطلاً ، صالحاً أو فاسداً ، وستعرف المواصفات التي يشترطها الإسلام في الحاكم الأعلى في الفصول القادمة ، ويتعّين علينا هنا أوّلاً أن نعرف الأدلّة التي تعطي الاُمّة حقّ اختيار الحاكم أو ارتضائه ـ على الأقل ـ في ظرف عدم التوصُّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب اللّه.


(188)
انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة (1)
    يحتوي الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين العمليّة على أدلّة كثيرة تدلّ على أنّ للاُمّة أن تنتخب حكامها ورؤساءها وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، وهي إلى جانب دلالتها على هذا الأمر ، وإثباتها هذا الحقّ للاُمّة ، تكشف عن طبيعة (الحكومة الإسلاميّة) ومنطلقاتها ومبادئها الإلهيّة التي تميّزها عن غيرها من أنظمة الحكم المعمول بها في التاريخ أو الرائجة في العالم المعاصر.
    وإليك هذه الأدلّة :

1 ـ استخلاف اللّه للإنسان
    تصرّح بعض الآيات القرآنيّة ، بأنّ اللّه تعالى استخلف الإنسان في الأرض ، فهو إذن (خليفة اللّه) فيها من غير فرق بين آدم وأبنائه إلى يوم القيامة ، غير أنّ تلك الخلافة قد تجسّدت في ذلك الوقت في آدم ، حيث يقول اللّه تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ : إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً .. ) (البقرة : 30).
    وهذه الآية والآيات التي ستمرّ عليك، تدلّ بوضوح كامل على أنّ الخلافة لم تكن منحصرة في فرد واحد من النوع الإنسانيّ وهو آدم (عليه السلام) بل هي تشمل جميع أبناء البشريّة ، بدليل أنّه بعد ما قال سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) سأل الملائكة بقولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) مظهرين بذلك، أنّ الخليفة المزمع استخلافه في الأرض سيركب الفساد ويسفك الدماء ، ومن المعلوم ، أنّ هذا العمل لم يكن صادراً من الإنسان الشخصيّ المتمثّل في آدم (عليه السلام) بل من أبنائه وأبناء أبنائه ، الذين طالما اقترفوا الذنوب وارتكبوا المعاصي ، وأخبر القرآن
    1 ـ إنّ الأدلّة التي ستمر عليك في الصفحات القادمة تتكفّل بيان أمرين : أحدهما ضمنيّ والآخر استقلاليّ،فهي مضافاً إلى أنّها تبيّن صيغة الحكومة في العصور الحاضرة تبيّن لزوم إقامة الدولة وتشكيل السلطة في إطار الضوابط الإلهيّة.

(189)
الكريم عن فسادهم الكبير في الأرض.
    وبعبارة آخرى : بما أنّ الملائكة تنسب الفساد وسفك الدماء إلى الخليفة المجعول في الأرض ، يعلم أنّ الخلافة هذه كانت عامّةً والاستخلاف كان شاملاً لجميع أبناء البشر.
    ويمكن استظهار هذا المطلب من الآيات التالية ايضاً :
    أ ـ ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) (فاطر : 39)
    ب ـ ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَالأرْضِ ) (النمل : 62).
    إنّ هاتين الآيتين ـ بإطلاقهما تفيدان أنّ المخاطبين بهما : خلفاء اللّه في أرضه وينبغي أن لا نتوهّم أنّ المراد هو خلافتهم عن الامم السابقة ، إذ لو كان المراد هو ذلك، لوجب إلقاء الكلام على غير هذا النحو كما في بعض الآيات التي أريد منها خلافة امّة لاحقة عن امّة سابقة كقوله سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ) (يونس : 14) (1).
    وصفوة القول : أنّ مقتضى هذه الآيات هو أنّ اللّه سبحانه شرّف الإنسان باستخلافه وجعله خليفته في الأرض ، فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع عناصر الكون ، وبهذه الخلافة والاستخلاف استحقّ أن تسجد له الملائكة تكرمةً وإعظاماً ، وإظهاراً لفضله ومقامه.

أبعاد خلافة الإنسان عن اللّه
    إنّ كون الإنسان خليفة اللّه في الأرض يقصد (أو يستنتج) منه أمران :
    1 ـ كون الإنسان خليفةً للّه سبحانه في تمثيل أسمائه ، وصفاته الحسنى.
    1 ـ وبهذا المضمون الآية (73) من سورة يونس والآيتين (69 و 74)من الأعراف.

(190)
    فهو بما أنّه خليفة اللّه يحكي ـ بوجوده ـ قدرة اللّه المستخلف له ، وعمله ، فهو يتفنّن ويبتدع ، ويكتشف ، ويستخرج ، ويجدّ ، ويعمل ، فيجعل الحزن سهلاً والماحل خصباً ، والخراب عمراناً ، والبراري بحاراً أو خلجاناً ، ويولّد بالتلقيح أزواجاً من النبات ، وقد يتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية ، والتوليد حتّى ظهر التغيير في خلقتها ، وخلائقها ، وأصنافها فصار منها الكبير والصغير ، ومنها الأهليّ والوحشيّ ، فهو ينتفع بكلّ نوع منها ويسخِّره لخدمته ، كما سخّر القوى الطبيعيّة ، وسائر المخلوقات.
    أليس من حكمة اللّه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ، ويظهر عجائب صنعه ، وأسرار خليقته ، وبدائع حكمه ، ومنافع أحكامه ؟وهل وجدت آية على كمال اللّه ، وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان ، الذي خلقه على أحسن تقويم ، وإذا كان الإنسان خليفته بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه (1).
    ولأجل خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة جعل اللّه تعالى عمارة الأرض، على عاتق هذا الإنسان حتّى يمثّل بعمله وتعميره للأرض تدبير اللّه سبحانه فقال : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (هود : 61).
    وكما أنّ اللّه سبحانه ربّ البقاع والبهائم ومدبّرها، فإنّ الخليفة مسؤول عنها ومسؤول عن العناية بها أيضاً كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » (2).
    وخلاصة هذا البعد هي ، خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة بمّا أعطي من مقدرة من جانبه سبحانه.
    2 ـ إنّ الإنسان يخلفه سبحانه في الاُمور الاجتماعيّة ، أعني بها الاُمور الراجعة إلى القيادة والحاكميّة.
    1 ـ تفسير المنار 1 : 260.
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة (165).
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس