مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 191 ـ 200
(191)
    فإنّ كونه خليفةً للّه في الأرض لا يقتصر على ما ذكر ، بل يعمّ كونه خليفةً فيها في (الحكم والحاكميّة)أيضاً ، إذ من المعلوم أنّه إذا كان الإنسان مسؤولاً ـ بالخلافة ـ عن تعمير البقاع ومكلّفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها ، فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير أمر نفسه ومجتمعه. وهذا ما نعبر عنه بخلافته عن اللّه في الاُمور الاجتماعيّة والاعتباريّة (الحاكميّة).
    وعلى ذلك يكون معنى استخلاف اللّه للإنسان، أنّه خوّل إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه ، وممارسة (الحكم والولاية) في إطار الضوابط والسنن التي جاء بها الدين.
    وفي هذا الصدديقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره (الميزان) : (إنّ الملائكة فهموا من قوله سبحانه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّ الخلافة لا تقع في الأرض إلاّ بكثرة من الأفراد وقيام وضع اجتماعيّ بينهم ، وهو يفضي بالتالي إلى الفساد والسفك ، والخلافة وهي قيام شيء مقام الآخر لا تتمّ إلاّ بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف.
    وبما أنّ الخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف بهذا المعنى الجامع تساءل الملائكة.
    ثمّ أنّه سبحانه أجاب عن هذا التساؤل بأنّ هناك مصالح في خلقه مالا تعرفه الملائكة ولم تقف عليه) (1).
    فخلافة الإنسان عن اللّه لا تنحصر بالاُمور التكوينيّة من عمارة الأرض وغيرها ، بل تعمُّ حاكميّته وقيادته نيابةً عن اللّه سبحانه ، فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته ، وبوجوده الاجتماعيّ يمثّل حاكميّة اللّه العليا في الأرض.
    وبذلك يظهر أنّ حاكميته تنبثق من خلافته.
    1 ـ الميزان 1 : 115.

(192)
    وصفوة القول : أنّ كون الإنسان خليفة اللّه في أرضه مضافاً إلى كونه ممثلاً بصفاته ، صفات المستخلف له ـ بمقدار ما يمكن ـ وممثّلاً بكماله وقدرته وعلمه، كماله وقدرته وعلمه تعالى ، يعني أيضاً كون الخليفة ذات مسؤوليات من جانب مخلِّفه ، كمسؤوليّة الوكيل عن جانب موكِّله في مجتمعه ، ومن المسؤوليات الموجّه إلى الإنسان من جانب ربّه ـ بهذا الاستخلاف ـ هو القيام بتدبير شؤون نفسه ، وشؤون مجتمعه بممارسة القيادة لذلك المجتمع ومزاولة الحكومة والولاية خلافة عن اللّه.
    إذن فللناس أن يزاولوا الحاكميّة في الأرض بالخلافة والنيابة عن اللّه .. ولكن من البيّن أنّ هذا لا يتحقّق إلاّ بتقسيم المسؤوليات في عامّة المجالات الحكوميّة ، حتّى تتفرّغ جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانيّ ، وسياسته.
    وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الاُمّة في منطق الإسلام ، وتتّجه شرعيّة ممارسة الجماعة البشريّة للولاية والحاكميّة على نفسها وبالتالي يبتنى عليه مبدأ الانتخاب الشعبيّ للحكّام في النظام الإسلاميّ السياسيّ.

آثار الحاكميّة نيابةً عن اللّه
    وتترتّب على هذه السيادة والولاية الشعبيّة المنبثقة عن الاستخلاف الإلهيّ للإنسان اُمور :
    أوّلاً : انتماء الجماعة البشريّة الواحدة إلى محور واحد ، وهو (المستخلف الواحد) الذي استخلفها على الأرض ، بدلاً عن كلّ الانتماءات الاخرى ، وما يتبع ذلك من الإيمان بسيد واحد ، ومالك واحد للكون ، وما فيه.
    ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العليا في الآية التالية ، لكن استفادتها تحتاج إلى ذوق خاصّ ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاَءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمَاً لِرَجُل هَلْ يَسْتَويَانِ مَثَلاً ) (الزمر : 29).


(193)
    فالآية تصور حال الفرد المؤمن والفردالكافر.
    فالمؤمن، بما أنّه ليس في عنقه إلاّ طاعة اللّه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والفرد الكافر، بما أنّه يعتقد بالوهيّات مختلفة متعدّدة فإنّه كرجل فيه شركاء متشاكسون ، هذا حال الفرد ، ومثله حال المجتمع المؤمن والمجتمع الكافر ، فالأوّل بمّا أنّه لايخضع لحاكميّة أحد سوى اللّه سبحانه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والمجتمع الكافر بما أنّه لا يدور أمره حول محور واحد في العقيدة والنظام فهو كرجل تتنازع فيه شركاء.
    ونظيره قوله سبحانه : ( يَاصَاحِبَيِ السِّجْنَ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللّهُ الوْاحِدُ القَهَّارُ ) (يوسف : 39).
    ثانياً : إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبودية المخلصة للّه تعالى ، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثّل أبشع أنواع الاستغلال والجهل والطاغوت كما يشير إليه قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) (يوسف : 40).
    وهو إلذي أشار إليه الإما م عليّ (عليه السلام) بقوله : « بعث اللّه محمّداً صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).
    ثالثاً : تجسيد روح الاُخوة العامّة في جميع العلاقات الاجتماعيّة ، بعد محو كلّ ألوان التمييز والتسلط والاستغلال .. فما دام اللّه واحداً ولا سيادة إلاّ له وحده ومادام الناس جميعاً متساوون بالنسبة إليه ، فالجميع خلفاؤه في الأرض في تدبير ما فيها من أشياء ، فيجب أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق الطبيعيّة كأسنان المشط.
    فالجماعة البشريّة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة على الأرض ، إنّما تمارس هذا الدور بوصفها خليفةً عن اللّه سبحانه ، ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه اللّه سبحانه ، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف
    1 ـ الوافي 3 : 22.

(194)
ومقتضاه.
    وبهذا تتمّيز سيادة الجماعة البشريّة حسب منطلقها القرآنيّ والإسلاميّ عن الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة.
    فإنّ الجماعة البشريّة ـ حسب هذه الأنظمة ـ هي بنفسها صاحبة السيادة ، لا أنّها تنوب عن اللّه في ممارستها للسيادة ، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد ، وغير ملزمة بمقياس موضوعيّ في الحكم ، بل يكفي أن يتفّق الشعب على أمر ليصبح قانوناً يؤخذ به حتّى إذا كان ذلك الأمر مخالفاً لكرامته ، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة.
    وهذا بخلاف حكم الجماعة باعتبار الاستخلاف ، فإنّه حكم مسؤول ، والجماعة بمقتضاه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل ، ورفض الظلم ، ومقاومة الطغيان وتكون مسؤولة أمام اللّه فيما تفعل ، وعلى ذلك فالحكومة الإسلاميّة هو « حكومة الاُمّة على الاُمّة خلافةً عن اللّه » بمعنى : إجراء سننه وقوانينه ومراعاة ضوابطه وحدوده ، في الحكم والحاكميّة (1).

2 ـ استخلاف داود يستبطن حاكميّته
    والذي يدلّ على أنّ الحكم والحاكميّة من آثار الاستخلاف الإلهيّ للإنسان : أنّ اللّه سبحانه لمّا جعل داود خليفته في الارض ، رتّب على هذا الاستخلاف أمره بأن يحكم ويقود الناس بالعدل والحقّ فقال : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (ص : 26).
    ومن المعلوم أنّ (الخليفة) هنا وهناك في قصّة آدم (عليه السلام) واحدة معنىً ومراداً ، غير أنّها هناك ذات معنىً أعمّ ، وهنا ذات معنىً أخصّ.
    وقد نقل شيخ الطائفة (الطوسيّ) رحمه اللّه في تفسير التبيان عن ابن مسعود أنّه
    1 ـ لاحظ رسالةً (لمحة فقهيّة تمهيديّة) للمفكّر الإسلاميّ الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر.

(195)
قال في تفسير الخليفة مشيراً إلى البعد الأوّل : (قيل : إنّه يخلفني في إنبات الزرع وإخراج الثمار ، وشقّ الأنهار).
    وقال مشيراً إلى البعد الثاني : (إنّه تعالى أراد بقوله ( إِنِّي جَاعِلُكَ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّه يخلفني في الحكم بين الخلق ، وهو آدم ومن يقوم مقامه من ولده) (1).

3 ـ أداء الأمانة لا يمكن إِلاّ بالحكومة
    إنّ القرآن الكريم يتحدث عن أنّ اللّه سبحانه عرض الأمانة على الأشياء كلّها ولم يحملها إلاّ الإنسان ، فقال سبحانه : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ والأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً * لِيُعَذِبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً ) (الأحزاب : 72 ـ 73).
    فالمراد من الأمانة : هو ما أنزل اللّه سبحانه على الإنسان عن طريق سفرائه من الأحكام والفرائض والحدود وغيرها (2).
    ولاشكّ أنّ تحمّل الأمانة، لأجل أدائها وتنفيذها. ومن المعلوم أنّ تنفيذالأحكام والفرائض والحدود في الحياة البشريّة لايمكن إلاّ في ظلّ حكومة نابعة من نفس الدين الإلهيّ تقيمها الاُمّة المؤمنة ، لتستطيع في ظلهّا على طاعة اللّه سبحانه والإتيان بأوامره والاجتناب عن نواهيه وإقامة دينه.
    على أنّ الآية الثانية ( لِيُعَذِّبَ اللّهُ ... ) توضّح حقيقة الأمانة المذكورة ، فهي تفيد أنّ حملة الأمانة ينقسمون إلى مؤمن ومنافق ومشرك ، ولا يكون هذا التقسيم صحيحاً إلا بالقياس إلى الاعتقاد بالحقّ والعمل بالدين. فيكون المؤمن هو من يقوم بالدين .. والمشرك هو من يشرك في ذلك فيأخذ بالدين وبغيره .. والمنافق هو من يتظاهر بالأخذ
    1 ـ التبيان 1 : 131.
    2 ـ التبيان 8 : 373.


(196)
بالدين.
    وبعبارة اُخرى : إنّ الأمانة هو الدين الحق وأداؤها هو الأخذ به والعمل بمقتضاه ، ولاشكّ أنّ الأخذ بالدين ينطوي على مسؤولية كبيرة اتّجاه اللّه سبحانه ، واتّجاه نبيّه واتّجاه اُمّته.
    وهذه المسؤوليّة إذا فسِّرت ، كان من أجزاءها : تدبير المجتمع ، وتنظيم شؤونه ، وأموره ، وإجراء السياسات والحدود في ذلك المجتمع.
    وممّا يجدر بالذكر، أنّ العلاّمة الطباطبائيّ اعترض على هذا التفسير لكلمة الأمانة المذكورة في الآية بالدين الإلهيّ بقوله : (إنّ الآية تصرِّح بحمل مطلق الإنسان لتلك الأمانة كائناً من كان ، أي مؤمناً كان أم كافراً ، مشركاً كان أو منافقاً .. ومن البين أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله ، ولا يعلم به أساساً ، فكيف يمكن تفسير الأمانة بالدين ، فلابدّ من تفسيرها بغير الدين ، ليصدق حمل جميع أفراد النوع الإنسانيّ لها) (1).
    غير أنّ ما ذكره من الإشكال ليس صحيحاً إذ ليس المراد من (الحمل) هو الأخذ الفعليّ بالدين وتطبيقه في المجالات ، بل هو (تقبّل) الأخذ بالدين ، ولمّا كان الإنسان ظلوماً ، جهولاً حسب نصّ الآية فإنّه قد خان الأمانة ولم يخرج عن عهدتها .. ولأجل ذلك ، صار بين مؤمن يقوم بتعهده والتزامه ، ومنافق يختلف ظاهره عن باطنه ، فيتظاهر بالتسليم للدين. وهو كاره له في باطنه ، ومشرك يشرك في الأخذ فيأخذ من الدين ضغثاً ومن أهوائه ضغثاً.

الاستخلاف غير التفويض
    قد صار المحصّل من هذا البحث الضافي ، أنّ الإنسان بما هو خليفة اللّه في أرضه ، خليفته في الحكم والقيادة.
    1 ـ ملخّص ما كتبه في تفسير الميزان 16 : 371.

(197)
    وهذه السيادة التي تفيده هذه الآيات كما تختلف اختلافاً أساسياً عن الحقّ الإلهيّ الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة ، قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين ، ووضعوا السيادة اسميّاً للّه ، لكي يحتكرونها واقعيّاً ، وينصبوا من أنفسهم خلفاء للّه على الأرض.
    أقول : كما يختلف عن ذلك يختلف أيضاً عن تفويض الحاكميّة من اللّه للمجتمع كلّه ، بل هو خلافة ونيابة عن اللّه سبحانه ، فما فوِّضت الخلافة للإنسان حتّى يتقلب فيها بأيّ نحو يشاء ، بل هو يحكم ويدير خلافةً ونيابةً عن اللّه سبحانه.
    ولأجل ذلك فما دام اللّه سبحانه هو مصدر السلطات ، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن اللّه ، يجب أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإلهيّة.
    وبهذا ترتفع الاُمّة ـ وهي تمارس السلطة ـ إلى قمّة شعورها بالمسؤوليّة لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة للّه في الأرض ، فحتّى الاُمّة ليست هي صاحبة السلطان وإنّما هي المسؤولة أمام اللّه سبحانه عن حمل الأمانة وأدائها (1).

4 ـ الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة
    تدل الآيات القرآنية التالية ـ بالدلالة الالتزاميّة ـ على، أنّه يتوجب على الاُمّة القيام بتشكيل دولة في إطار القوانين الإسلاميّة ، وأنّ للشعب السيادة ، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحمل نفسه على كاهل الشعب ، ويفرض سيادته عليه دون رضاه ودون موافقته.
    وقبل الخوض في تفاصيل هذا البحث لا بدّ من طرح سؤال هو :
    هل للمجتمع وجود على الصعيد الخارجيّ ، وواقعيّة مستقلة عن وجود الفرد. أو أنّه أمر اعتباريّ يعتبره الذهن من انضمام فرد إلى فرد آخر ؟
    1 ـ لاحظ (لمحة فقهيّة تمهيديّة ) ، للمفكر الإسلاميّ الشهيد محمّد باقر الصّدر : 20 ـ 24 بتصرّف.

(198)
المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين
    يعتقد الفلاسفة بأنّه ليس للمجتمع أيّ وجود على الصعيد الخارجيّ .. فليس في الواقع الخارجيّ إلاّ (الأفراد) وما المجتمع سوى صورة تنتزعها عقولنا عن انضمام الفرد إلى الفرد.
    وعلى العكس من الفلاسفة، يعتقد علماء الاجتماع والحقوقيون أنّ للمجتمع وجوداً وحقيقةً قائمةً على الصعيد الخارجيّ ، ولذلك تكون هناك علاقات اجتماعيّة ، وحقوق ، وأحكام خاصّة للمجتمع.
    والحقّ أن كلتا الطائفتين على صواب ، وذلك، لأنّ الفيلسوف الذي يلاحظ الأشياء من زاوية العينيّة الملموسة ، لا يجد واقعاًفي عالم التكوين بمعزل عن واقع الفرد التكوينيّ ، ووجوده الخارجيّ فلا يرى مناصاً من إنكار الوجود الخارجيّ للمجتمع وراء وجود الأفراد.
    فعندما يجلس خمسة أشخاص حول طاولة فإنّ الفيلسوف لا يعتبر (الهيئة الاجتماعيّة) الحاصلة من اجتماع الأشخاص الخمسة ، شيئاً مستقلاً ووجوداً خاصّاً ، ليفترضه سادساً لهم.
    ولكن النظر من الزاوية الحقوقيّة التي هي أكثر مساساً بالواقعيّات العرفيّة يهدينا إلى، أنّ المجتمع البشريّ سواء كان في حجمه الصغير (القبيلة) أو الكبير (الاُمّة) يتمتّع بواقعيّة عرفيّة ، وله حقوق وواجبات غير ما للفرد ، وكما للفرد من حقوق وواجبات ومسؤوليّات. فهكذا للمجتمع ومن هذه الزاوية تنظر الامم المتحضّرة إلى المجتمع ، وتعترف به وبوجوده ، وتقرّر له الأنظمة ، والحقوق والواجبات.
    وعندما ينظر الإسلام إلى الفرد والمجتمع من الزاوية الحقوقيّة، نجده يعترف بكلّ واحد منهما في موضعه ومحلّه ،
    ويقرّر لكلّ واحد منهما ما يناسبه من الشخصيّة والحقوق والواجبات سواء بسواء.


(199)
    فعندما ينظر القرآن الكريم إلى المجتمع من هذه الزاوية الحقوقيّة ، يعتبر للمجتمع وجوداً ، وعدماً وحياةً ونشوراً ، وأجلاً وكتاباً وتقدمّاً وتقهقراً إلى غير ذلك من الآثار التي تكون للفرد. وفي هذا الصدد يكتب العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :
    (إنّ القرآن اعتبر للمجتمع وجوداً وعدماً ، وأجلاً وكتاباً ، وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعةً ومعصيةً وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ للمجتمع ـ في مقابل الفرد حقيقةً واقعيّةً في ظرفه المناسب له ، يقول سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (الأعراف : 34)
    وقال : ( كُلُّ أُمّة تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) (الجاثية : 28)
    وقال : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ ) (الأنعام : 108)
    وقال : ( مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ) (المائدة : 66)
    وقال : ( أُمّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَاياتِ اللّهِ ) (آل عمران : 113)
    وقال : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمّة بِرَسُولِهِمْ لَيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لَيُدحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) (غافر : 5)
    وقال : ( وَلِكُلِّ أُمّة رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بَالقِسْطِ ) (يونس : 47).
    ومن هنا، نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الامم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر، حينما لم يتداول في التواريخ إلاّ ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الامم والمجتمعات إلاّ بعد نزول القرآن ، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم المسعودي وابن خلدون ، حتّى ظهر التحول الأخير في التأريخ النقليّ ، بتبديل الأشخاص اُمماً وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ، ذلك الاهتمام الذي لانجد ولن نجد نظيره في واحد من الشرائع ولا في سنن الاُمم المتمدِّنة ، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهوالأصل في وجود المجتمع، لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادةّ القوية القاهرة في المجتمع، إلاّ يسيراً لا قدر له عند القياس والتقدير.


(200)
    ولأجل ذلك وضع الإسلام أهّم أحكامه كالحجّ والصلاة والجهاد والإنفاق أساس الاجتماع وحافظ على ذلك، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلاميّة الحافظة لشعائر الدين العامّة وحدودها، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة لجميع الاُمّة، بجعل سعادة المجتمع هي السعادة الحقيقيّة وجعل غرض المجتمع الإسلاميّ هو القرب والمنزلة عند اللّه.
    وهذا هو الذي ذكرناه من أنّ الإسلام تفوق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرق) (1).
    فكما تجب على الفرد ـ في نظام الإسلام ـ اُمور كالصلاة والصيام واحترام الوالدين وما شابه ذلك ، كذلك ، توجّهت الشريعة الإسلاميّة إلى المجتمع بسلسلة من التكاليف والواجبات ويتعيّن على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بها دون تلكؤ أو ابطاء.
    فيأمر الإسلام المجتمع مثلاً بأن يقطع يد السارق إذ يقول : ( وَالْسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللّهِ واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (المائدة : 38).
    ويأمره بجلد الزاني والزانية إذ يقول : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (النور : 2).
    كما يأمره بأن يحافط على حدود الوطن الإسلاميّ ويدافع عن ثغوره بالصبر والمرابطة إذ يقول : ( يَاأَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِروُا وَصَابِرُوا وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران : 200).
    ويأمره بأن يقاتل البغاة والطغاة حتّى يفيئوا إلى الحق ، ويكفّوا عن البغي والطغيان والعدوان إذ يقول : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأقْسِطُواْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (الحجرات : 9).
    1 ـ الميزان 4 : 96 ـ 97.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس