مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 201 ـ 210
(201)
    وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :
    (إنّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (البقرة : 195)
    وقوله : ( وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالْمَعرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (آل عمران : 104)
    وقوله : ( وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ) (المائدة : 35)
    وقوله : ( وَجَاهِدُواْ فِي اللّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) (الحج : 78)
    وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة ٌ ) (البقرة : 179)
    وقوله : ( وَأَقِيمُواْ الْشَّهَادَةَ لِلَّهِ ) (الطلاق : 2)
    وقوله : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (آل عمران : 103)
    وقوله : ( أنْ أَقِيمُواْ الْدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ) (الشورى : 13).
    إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها اللّه تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة (كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة) ولم يرد إقامة الدين إلاّ منهم أجمعهم ، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره اللّه وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم) (1).
    إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات ، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين ، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.
    وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن
    1 ـ الميزان 4 : 122 ـ 123.

(202)
القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك ، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها ، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف ، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة ، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً ، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار ، وحفظاً لمصالحه وشؤونه ، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلاّ الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة ، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.
    من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة ، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة ، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب اللّه ـ لقيادة الاُمّة ، وإدارة شؤونها ، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة ، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة .. ولمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.
    أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور ، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.
    أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يّشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع ، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة ، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟
    وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ .. ولايريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم .. وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.


(203)
وحراسة العلاقات ؟
    وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه ، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

5 ـ العقل ُ وتشكيل الدولة
    يعتبر (العقل) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.
    وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.
    لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة ، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ .. ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.
    فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته ، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.
    ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.
    وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ ، ممّا يقُّر به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً ، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.
    فهذه إذن حقيقة لانقاش فيها.
    ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة ، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أيّ رادع ، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى


(204)
مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء ، وينادونبه.
    والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة (دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام ، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام ، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أيّ مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.
    وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات .. فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده ، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

6 ـ سيرة المسلمين بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم
    إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة ، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم ، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد ، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت ، كما أوضحناه.
    إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حيث كان النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قد عيّن عليّاً (عليه السلام) إماماً للمسلمين من بعده ، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة (1) على ذلك ـ إلاّ أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد ، لولا النصّ.
    1 ـ لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة 104 ـ 181 من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

(205)
7 ـ سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم
    إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة (سلطة الإنسان على ماله) التي هي مفاد قول الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « الناس مسلطون على أموالهم » (1).
    فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لايجوز لأحد أن يتصرف فيها إلاّ بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم ، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم ، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.
    هذا من جانب.
    ومن جانب آخر نرى، أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات ، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين (سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم ، واستلزام أقرار النظام ، التصرّف في تلك الأموال والنفوس)، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.
    وبعبارة أوضح : إنّ سيادة أيُّ نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب ، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها ، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها ، وتنظيم الحريات والعلاقات
    1 ـ مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا : إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.
    غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.
    والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه ، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.
    وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه ، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.


(206)
وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال ، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة ، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره ، ولمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلاّ بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار ، يتراءى ـ في بادىء النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه .. فكان الحلّ ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم ، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم .. حفظاً للقاعدة المسلّمة (الناس مسلطون على أموالهم) وعلى أنفسهم.

8 ـ الحكومة أمانةٌ عند الحاكم
    إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة (أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له ، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص ، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.
    أقول : إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة ، ومنها قول اللّه سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْن النَّاسِ أَنْ تحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِم ـ َّايَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيرَاً * يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيْعُواْ اللّهَ وَ أَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ والرَّسُولَ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً ) (النساء : 58 ـ 59).
    إنّ الخطاب في قوله سبحانه ( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله ( فَإِذَا حَكَمْتُمْ ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي : الحكومة.
    ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو (الحكومة) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة اللّه وإطاعة الرسول واولي الأمر ، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو (الحكومة) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو


(207)
حول (الحكومة) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.
    ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة ، وإن كانت نابعةً من جانب اللّه بالأصالة ، وهي أمانة بيد الحاكم ، ووديعة في عنقه ، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو (اللّه) سبحانه وتعالى ، فإن الحكومة له لاغير كما قال في كتابه الكريم : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (يوسف : 40) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة ، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل ، حقّ ذاتيّ للّه تعالى ، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً للّه سبحانه ، بل المراد أنّه حقّ أعطاه اللّه سبحانه له.
    وبعبارة أخرى : ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة ، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب ، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين ، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو اللّه سبحانه.
    وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من (أهلها) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون (الحكومة) أمانة في عنق الحاكم ، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة ، ومسؤولون عنها ، إلى غير ذلك من النصوص التالية :
    يقول الإمام عليّ (عليه السلام) لأحد ولاته : « إنّ عملك ليس لك بطعمة و لكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة » (1).
    ويقول (عليه السلام) أيضاً : « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم ، وإنّه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح مالكم معي » (2).
    ويقول الإمام (عليه السلام) أيضاً : « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة رقم (5).
    2 ـ الكامل لابن الأثير 3 : 193.


(208)
فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة » (1).
    ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال : « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه وأن يؤدّي الأمانة ، فإذا فعل ذلكفحقّ على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوه ، وأن يجيبوه إذا دعوا » (2).
    فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة ، التي هي الحكومة والسيادة ، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلاّ حفظةً للسلطة وحراسها .. وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت (عليهم السلام) حول الآية ، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.
    ففي تفسير البرهان في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأَمَانَات ... إلى آخر قوله تعالى .. ) عن زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ .... ) فقال (عليه السلام) : « أمر اللّه الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه ، ألا تسمع قوله : ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة ، إنّه خاطب بها الحكّام » (3).
    نعم، إنّ الجمع بين المعنى (وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم) والمعنى الثاني (الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.
    ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر (الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو (الفيء وغير الفيء) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة ، أصحابها
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة رقم (515).
    2 ـ الأموال لأبي عبيد : 12 ، 388.
    3 ـ تفسير الميزان 5 : 385 نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ : وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهم ـ عليهم السلام ـ.


(209)
الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة ، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول : (ومن جملتها (أي من جملة الأمانات) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة) (1).
    ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّ (عليه السلام) قال في ذيل هاتين الآيتين : « آيتان إحداهما لنا ، والأخرى لكم » (2).
    وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى : ( وَ أَطِيعُواْ اللّهَ وَ أَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ .. ) وبالثانية قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ).
    9 ـ كتب الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام) إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما : « إنّ عليّاً لمّا مضى لسبيله (رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا) ولاّني المسلمون الأمر من بعده ... فادخل فيما دخل فيه النّاس » (3).
    وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين (لولا التنصيص من اللّه سبحانه على شخص معيّن) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم ، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس ، ولذلك مضى الإمام الحسن (عليه السلام) يلفت نظر معاوية إليها.
    10 ـ ذمّ الإمام الصادق (عليه السلام) من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف : ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم ، وذلك عندما قال له رجل : إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمام (عليه السلام) : « هذا ليس من ذاك ... إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط » (4).
    1 ـ مجمع البيان 2 : 63.
    2 ـ مجمع البيان 2 : 63.
    3 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 12.
    4 ـ المستدرك 3 : 187 نقلا عن دعائم الإسلام.


(210)
    11 ـ قال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) :
    « الواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً ، عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم ، ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم ، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم » (1).
    وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها (لولا النصّ على أحد طبعاً ).
    12 ـ وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة ، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) :
    « بسم اللّه الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد فالحمد للّه الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».
    ولأجل ذلك كتب الإمام الحسين (عليه السلام) إليهم قائلاً : « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم » (2).
    فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة ، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.
    1 ـ أصل سليم بن قيس : 182 ، وبحار الأنوار 8 : 555 ـ 556.
    2 ـ الكامل للجزري 3 : 266 ـ 267.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس