مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 211 ـ 220
(211)
أسئلة وأجوبة
    السؤال الأوّل :
    قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة ، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :
    إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟
    الجواب :
    إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.
    فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية ، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم .. بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا ، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.
    كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا


(212)
النحو، حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً ، وحقّاً كان أو باطلاً.
    وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في (انتخاب الحاكم من جانب الشعب) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة
    إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها ، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :
    أوّلاً : إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس ، وليس تابعاً للمصالح والحقائق ، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم (لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم ، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً ، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه ، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة ، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم ، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس ، وخسروا أصواتهم.
    ثانياً : إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة


(213)
والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.
    فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً ، ومفيداً.
    ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم ، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي ، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.
    فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة ، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات و الراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة ، لاكتساب المزيد من أصوات الناس ، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير ، واستمالتهم ، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج ، والبسطاء وغير المثقفين ، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟
    ثالثاً : إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون (عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة (حقاً) لا نقاش فيه.
    وإنّما لا يكون عدلاً ، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم .. وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه ، وحقوقيّيه ، واجتماعيّيه ، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه ، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.
    هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة .. وهو قليل من كثير.


(214)
    وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء ، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو، أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.
    غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب، وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :
    أوّلاً : أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو (الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو ، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها ، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة ، من يستبدّ برأيه ، ويستأثر بفيئها ، ولا يكون للناس في الأمر أيّ إرادة وكلمة.
    ثانياً : انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة ، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب ، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى ، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام ، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة ، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق ، نموذجيّاً في الإدراة ، ويشترط على المنتخب ، أن لا يختار إلاّ من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ (1) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد اللّه عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (هود : 113).
    فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب ، وليس لعبةً سياسيّة.
    ثالثاً : إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل ، بل على كلّ
    1 ـ ففي الحديث : « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه ... إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

(215)
مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً ، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها ، ورفض شرعيّتها ، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب اللّه سبحانه كما يقول الإمام الحسين (عليه السلام) : « أيُّها الناس إنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه مخالفاً لسنّة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء و أحلُّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر » (1).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها » (2).
    وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.
    إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب ، هو الفارق الكبير بين الانتخابين (الإسلاميّ والغربيّ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.
    إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعَاً سُجَّدَاً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانَاً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أََثَرِ السُّجُودِ ) (الفتح : 29).
    إنّ مجتمعاً كهذا ، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلاّ (حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً ، وفيّةً للدين ، ملتزمةً بالإسلام ، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.
    إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،
    1 ـ الطبري 4 : 304.
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة (3).


(216)
كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ .. ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.
    السؤال الثاني :
    إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة ، فلماذا يقول الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض رسائله : « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للّه رضىً » (1) .
    الجواب :
    إنّ السبب في حصر الإمام عليّ (عليه السلام) حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل ، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمام عليه السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (2).
    كيف لا وقد مر عليك أيّها القارىء الكريم أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة ، هي مصدر السلطات ، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس (3).
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة رقم (6).
    2 ـ نهج البلاغة : الرسالة (173) طبعة عبده.
    3 ـ راجع الصفحة 207 ـ 208 من هذا الجزء.


(217)
    لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلةوكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّ (عليه السلام) ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم ، حجّةً نافذةً على الآخرين.
    ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب ، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً ، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى ، ويكون م آل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.
    ولعلّ ما ذكره الإمام عليّ (عليه السلام) كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب .. وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّّونهم نوّاباً لهم ، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.
    يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار : (وقد كانوا (أي المهاجرين والأنصار) في عصر النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يكونون معه حيث كان ، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام (الخليفة) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء .. فأمّا المبايعة ، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد ، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم) (1).
    ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب اللّه سبحانه ، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم ، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».
    السؤال الثالث :
    لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً ، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة ، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة
    1 ـ المنار 5 : 195.

(218)
الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه ، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.
    الجواب :
    إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة ، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح ، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره .. إذ لا مبرّر لذلك ، ولا مسوّغ .. فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه ، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.
    ولكنّنا لو نظرنا إلى (الحياة الإنسانيّة) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين ، ذوي حقوق ومصالح مماثلة ، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها ، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح ، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى ، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة ، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.
    من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها ، والتنازل عن حقّها ورأيها.
    وبعبارة اُخرى : إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة ، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم ، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم ، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن ، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج ، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة ، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة ، ولا قيام لأمرها إلا بهذا


(219)
الطريق ، كما لابقاء للشركة المساهمة إلاّ بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها ، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه ، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.
    الفرق الواضح بين الترجيحين
    يمكن أن ينطرح في ذهن القارىء الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام ، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة ، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة؟
    غير أنّ القارىء الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت ، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة ، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط ، إذ لايشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لارادع هناك من أيّ بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.
    أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً ، فليس لهما إلاّ الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة ، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط ، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة ، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدلّ المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولامناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته و كيانه ، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.


(220)
السؤال الرابع :
ولاية الفقيه ومكانتها
في
الحكومة الإسلاميّة
    ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة ، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.
    الجواب :
    إنّ البحث في ولاية الفقيه ، وتوضيح حقيقتها ودلالتها ، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة ، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) فنقول باختصار :
    إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام ، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب ، وينبغي للقارىء الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.
    إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس