مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 221 ـ 230
(221)
    الأوّل ـ : ما هو معنى ولاية الفقيه وما هي حقيقتها ؟
    الثاني ـ : كيف يمارس الفقيه ولايته هذه ، إلى جانب المؤسّسات الدستوريّة والتشكيلات الحكوميّة العليا التي مرّ ذكرها ، وبشكل يتمشّى مع بقيّة المعايير الإسلاميّة في نظام الحكم الإسلاميّ الذي يعطي للاُمّة الحريّة في إدارة نفسها ضمن الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.
    وإليك فيما يلي الإجابة على هذين السؤالين.

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً
    لقد كثر النقاش أخيراً حول ولاية الفقيه ، فمن متوهّم أنّ نتيجة القول بولاية الفقيه هي اعتبار الاُمّة قاصرةً وعاجزةً عن إدارة أمرها ، فلابدّ لها من وليّ يتولّى اُمورها.
    ومن متصوّر بأنّ نتيجتها هي استبداد الفرد بالإدارة والحكم ، ورفض الرأي العامّ ، وهو أمر يتنافى مع ما قرّرناه ـ حسب المعايير الإسلاميّة ـ من اختيار الاُمّة الإسلاميّة في تشكيل الحكومة ، نوّاباً ووزراء ورؤساء ، وذلك في نطاق الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.
    ولكنّ هذه التوهّمات ناشئة عن عدم وضوح (ولاية الفقيه) وضوحاً لايبقي شبهةً ، ولا يترك غموضاً، فليس إقرار ولاية الفقيه بمعنى جعل الاُمّة الإسلاميّة الرشيدة بمنزلة القصّ ـ ر ، كما ليس نتيجتها استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة والعمل أو الترك كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلاميّة.
    إنّ للمجتهد الفقيه العارف بأحكام الإسلام القادر على استنباط قوانينه ثلاثة مناصب وهي التي يعبّر عنها جميعاً بولاية الفقيه وهي :
    الأوّل : منصب الإفتاء : فإنّ الأحكام الشرعيّة بأبوابها الأربعة ، من عبادات ومعاملات وإيقاعات ، وسياسات، لمّا كانت أمراً نظرياً يحتاج إلى التعلّم والتعليم ولايمكن لكلّ أحد من الناس معرفتها عن مصادرها العلميّة المتقنة ـ فإنّ ذلك يعوق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنيويّة والمعيشيّة ـ عمد الإسلام إلى إرجاع (نظام الإفتاء) إلى


(222)
فقيه ، عالم بشرائع دينه ، وهذا هو الذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرّعة بـ (المفتي) ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.
    الثاني : القضاء : فإنّ من مقتضى القوى والغرائز النفسانيّة والطبيعيّة التوجّه إلى المنافع ، والتباعد عن المضارّ ، وهو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الذي قد ينجرّ إلى الحروب ، فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.
    الثالث : الحكومة : فإنّ من أهم مايحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه ، ونفوسه واجتماع أمره، وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله واتباع فعله ، و هو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرّعة بالحاكم والسائس (1).
    وعلى هذه الاُمور الثلاثة تدور رحى حياة المجتمع الإسلاميّ.
    إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ للولاية مرتبةً عليا مختصّةً بالنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأوصيائه الطاهرين وغير قابلة للتفويض إلى أحد ، وهي بين تكوينيّة يعبّر عنها بالولاية التكوينيّة التي بها يتصرف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في الكون إذا اقتضت المصلحة ذلك كما إذا كان في مقام الإعجاز ، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ : (إنّ للنبيّ والإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون) (2).
    وبين التشريعيّة التي يشير إليها قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (الأحزاب : 6) وهي مختصّة بالنبيّ وأوصيائه المعصومين ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم (3).
    وأمّا غير المختصّ بهم ، فإنّما هو مقام الافتاء والقضاء ، والولاية، التي أظهر مصاديقها نظم البلاد والجهاد والدفاع وسدّ الثغور وإجراء الحدود ، وأخذ الزكاة وإقامة
    1 ـ اقتباس من دروس الإمام الخمينيّ في علم الاُصول ألقاها في مدينة قم المقدّسة عام (1370 هـ) وقد قرّرها الاُستاذ السبحاني ونشرها في كتاب تهذيب الاُصول 3 : 136.
    2 ـ الحكومة الإسلاميّة : 52.
    3 ـ لاحظ منية الطالب تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ : 325.


(223)
الجمعة وغيرها.
    فالأوّلان من هذه المناصب (الثلاثة) ثابتان للفقيه ـ باتفاق الكلمة ـ كما سيوافيك بيانه عند بيان السلطات الثلاث.
    وأمّا الولاية والحكومة بالمعنى الماضي ، فلا وجه للشك في ثبوتها للفقيه حسب الأدلّة الواردة ولكنّ المراد منها يتلخّص في أمرين :
    الأوّل : إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه (1).
    إذ كل ما يشترط من المواصفات في الحاكم التي يأتي بيانها، موجود في الفقيه العادل.
    وأمّا الثاني : إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلاميّة فللفقيه العادل حينئذ أن يراقب سلوك الحكومة وتصرّفاتها، فيصحّح مسيرتها إذا انحرفت ويعدّل سلوكها إذا شذّ .. وعندئذ تكون ولاية الفقيه ضمانةً لاستقامة الدولة ومانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ وسنن الدين ، فهو متخصّص عارف بالأحكام والحدود ، وبما أنّه ورع يتّقي اللّه ويخشاه أكثر من سواه كما يقول اللّه سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (فاطر : 28) وقد عاش بين أفراد المجتمع فعرف بالصلاح والورع والأمانة ، فولايته تحجز الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلاميّة .. وارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام والمسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

كيف يمارسُ الفقيه ولايته
    أمّا كيف يمارس الفقيه ولايته ـ وهو الشقّ الثاني ـ إلى جانب ما أقرّه الإسلام من أختيار للاُمّة في انتخاب حكّامها ، وما أعطاه من الحرية لهم في نطاق المعايير الإسلاميّة ،
    1 ـ الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 49 ، بل يجب على الفقيه تشكيل الدولة الإسلاميّة إذا لم يكن هناك دولة إسلاميّة.

(224)
فهو يتضح بما يلي :
    إنّ الفقيه بحكم مسؤوليته اتّجاه الإسلام والمسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الاُمّة ، فإذا كانت الحكومة التي إقامتها الاُمّة الإسلاميّة موافقةً للمعايير الإسلاميّة ، ومطابقةً للمصلحة الاجتماعيّة العليا وجب عليه إمضاؤها ، وإقرارها ، وليس له أن يردّها ، ولأجل ذلك لايترتب على (ولاية الفقيه) إلاّ استقرار الحكومة الإسلاميّة الصالحة ، ولا يتغيّر بولايته أيّ شيء من الأركان والمؤسسات الحكوميّة المذكورة سلفاً ، ولاتتعارض مع ما ذكرناه وأثبتناه من حريّة الاُمّة واختيارها.
    ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه ، وهذه هي كيفيّة ممارستها إلى جانب التشكيلات الاُخرى في النظام الإسلاميّ.
    وهي كما ترى خير ضمان جوهراً وممارسةً لاستقامة الحكومة في المجتمع الإسلاميّ ، وإبقائها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار الاُمّة قصراً ، أو يلازم استبداداً كما يشاء البعض وصفها بذلك ، أو يتوهّ ـ مونه خطأً وغفلةً عن حقيقة الحال لهذا العنصر العظيم في الفقه الإماميّ على صعيد الحكم.

كلمة أخيرة :
    لقد تبيّن من هذا البحث الواسع حول لون الحكومة الإسلاميّة، أنّ الحكومة عند حضور الإمام المنصوص عليه من جانب اللّه حكومة إلهيّة محضة ، وأمّا عند عدم إمكان التوصّل إليه فهي مزيج من (الحاكميّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة).
    فهي إلهيّة : من جهة أنّ التشريع للّه سبحانه بالأصالة ، وأنّ على الاُمّة الإسلاميّة أن تراعي جميع الشرائط والضوابط الإسلاميّة في مجال الانتخاب ، وأنّ على الحاكم الإسلاميّ أن يلتزم بتنفيذ الشريعة الإسلاميّة حرفاً بحرف ، فلأجل هذه الجهات تعدُّ إلهيّة ، أو حكومة قانون اللّه على الناس.
    وهي شعبيّة : من جهة أنّ انتخاب الحاكم الأعلى وسائر الأجهزة الحكومية العليا


(225)
موكول إلى الناس ومشروط برضاهم.
    ثم إنّ هناك نظريتين في كيفيّة تشكيل الحكومة الإسلاميّة جنح إليها كثير من أهل السنّة وهما :
    1 ـ الشورى أساس الحكم.
    2 ـ البيعة أساس الحكم.
    ولتحقيق الحال نبحث عن كلتا النظريتين في البحث القادم.


(226)
هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟
    إنّ الظاهر من بعض من كتب حول الحكومة الإسلاميّة أنّ أساس الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد ذهبوا إلى ذلك لأجل أمرين :
    الأوّل : أنّهم جعلوه مكان الاستفتاء الشعبيّ ، لأنّه لم يكن من الممكن ـ في صدر الإسلام ـ بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلاميّ لقلّة وسائل المواصلات ، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.
    الثاني : أنّهم أرادوا بذلك تصحيح الخلافة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لأنّ بعض الخلفاء توصّل إلى ذلك بالشورى ، ثمّ عدّ هذا الاُسلوب إحدى الطرق لتعيين الحاكم.
    وربّما يؤيّد الأوّل قول الإمام عليّ (عليه السلام) : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (1).
    وهو إشارة إلى أنّ عدم إمكان أخذ البيعة بالصورة الواسعة يجوّز أخذها بصورة محدودة.
    ولعلّ إلى ذلك نظر الشيخ عبد الكريم الخطيب إذ قال : (إنّ الذين بايعوا أوّل
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة (168) عبده.

(227)
خليفة للمسلمين لم يتجاوز أهل المدينة ، وربّما كان بعض أهل مكّة ، وأمّا المسلمون ـ جميعاً ـ في الجزيرة العربية فلم يشاركوا في هذه البيعة ، ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم ، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مع الخبر باستخلاف أبي بكر) (1).
    ويؤيّد الثاني (أي اعتبار الشورى أساساً للحكم تصحيحاً للحكومات التي قامت بعد وفاة النبيّ) أنّهم ذكروا ـ فيما تنعقد به الإمامة والخلافة نفس الأعداد التي تنطبق عليها خلافة أحد الخلفاء ، فلم يكن اعتبار هذه الأعداد والوجوه إلاّ للاعتقاد المسبّق بصحّة خلافة اُولئك الخلفاء.
    ولأجل ذلك يقول الماورديّ : (الإمامة تنعقد من وجهين :
    أحدهما : باختيار أهل العقد والحلّ.
    والثاني : بعهد الإمام من قبل.
    فأمّا انعقاها باختيار أهل العقد والحلّ ، فقد اختلف الفقهاء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة لا تنعقد الإمامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها.
    وقالت طائفة أخرى : أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة (خمسة) يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين :
    أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها وهم : (عمر بن الخطاب) و (أبو عبيدة الجراح)و (أسيد بن حضير) و (بشر بن سعد) و(سالم مولى أبي حذيفة).
    الثاني : أنّ عمر (رض) جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
    1 ـ الإمامة والخلافة : 241.

(228)
    وقال آخرون : من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً ، وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بوليّ وشاهدين.
    وقالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العبّاس قال لعليّ (رض) : أمدد يدك اُبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ) (1).
    وقال القاضي العضديّ ـ في المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ـ من كتابه : (إنّها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحلّ) (2).
    ومن المعلوم، أنّ الاختلاف الواقع في عدد من تنعقد به الشورى يفيد ـ بوضوح ـ أنّه لم يكن هناك أيّ نصّ من الشارع المقدّس على أنّ الإمامة تنعقد بالشورى ، ولذلك اختلفوا فيها على مذاهب وغاب عنهم وجه الصواب.
    ثمّ إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى أنّ القائلين بها انقسموا ـ في أثرها ـ على قسمين :
    الأوّل : وهم الأكثريّة ، ذهبوا إلى أنّ انتخاب أهل الشورى كان ملزماً للاُمّة ، فوجب عليها أن تسلِّم لمن اختاروه بهذا الطريق.
    الثاني : أنّ انتخاب أهل الشورى لأحد ليس أزيد من (ترشيح) له ، وكان للاُمّة هي أن تختاره ، أو لا تختاره فكان الملاك هو رأي الاُمّة (3).
    غير أنّ هذا الرأي لا يتفق مع خلافة الخلفاء الذين تسنّموا عرش الخلافة بالشورى ، فقد كان انتخابهم ملزماً يومذاك على رأيهم ، ولم يكن من باقي الاُمّة إلاّ الاتباع والتسليم.
    1 ـ الأحكام السلطانيّة للماورديّ : 4.
    2 ـ شرح المواقف 3 : 265.
    3 ـ راجع الشخصيّة الدوليّة لمحمّد كامل ياقوت : 463.


(229)
ماهي أدلّة الأخذ بالشورى ؟
    إنّ البحث عن كون الشورى وسيلةً لتعيين الإمام يقع في ظرفين :
    الأوّل : بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    الثاني : في زماننا الحاضر ، حيث لايمكن الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، بالاسم.
    وبما أنّ القائلين بمبدأ الشورى يصرّون على أنّها كانت أساساً للخلافة والحكم بعد الرسول أيضاً ، فإننا سنبحث الموضوع في كلا الموقعين معاً :

حكم الشورى بعد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم
    لقد استدل القائلون بالشورى بآيتين هما :
    الاُولى : قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (آلعمران : 159).
    فإنّ اللّه سبحانه يأمر نبيّه بأن يشاور من حوله ، وذلك تعليماً للاُمّة بأن تتشاور في مهامّ الاُمور ، ومنها (الخلافة).
    غير أنّ التأمّل والنظر في مفاد الآية، يكشف عن أنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، وتمّت بوجه من الوجوه ، فإنّ اللّه سبحانه يأمره بأن يشاور أفراد الاُمّة ويستضيء بأفكارهم ، وينتفع بمشاورتهم توصّلاً إلى أحسن النتائج كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام) : « من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال في اُمورها شاركها في عقولها » (1). فلا ارتباط للآية ومفادها بما نحن فيه.
    وبعبارة اُخرى : إنّ الخطاب وإن كان يمكن التعدي عنه إلى سائر أفراد الاُمّة
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم (161).

(230)
قائلاً بعدم خصوصيّة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في الخطاب لكنّه لا يمكن التعدّي عن ذلك المنطوق إلاّ إلى مقدار يشابه منطوق الآية لا أكثر ، فأقصى ما تفيده الآية، هو أن لايكون الحاكم الإسلاميّ ، وصاحب السلطة التي تمت سلطته ، مستبدّاً في أعماله بل ينبغي أن يتشاور مع أصحابه وأعوانه في مهامّ الاُمور و جسامها ، وأمّا أن يصحّ تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى استدلالاً بهذه الآية ، فلا يمكن الانتقال ممّا ذكرناه إلى هذا المورد.
    هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الآية هو أنّ (الشورى) لاتوجب حكماً للحاكم ولا تلزمه بشيء ، بل هو يقلّب وجوه الرأي ، ويستعرض الأفكار المختلفة ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك ( رئيس) تام الاختيار في استحصال الأفكار ، والعمل بالنافع منها ، كما أنّ استحصال الأفكار هذا لايتمّ إلاّ أن يكونللمستشير مقاماً وسلطةً وولايةً مفروضة ، ويكون رئيساً مستقرّ الحاكميّة ، وأمّا إذالم يكن ثمة رئيس فلا يمكن أن يتم هذا الأمر ، الذي ندب إليه القرآن وحثّ عليه ، إذليسعندئذ هناك رئيس يندب الأفراد ويستعرض أراءهم ثمّ يتأمّل فيها ويأخذ بالنافع منها.
    الثانية : قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (الشورى : 38) ، فإنّ إضافة المصدر (أمر) إلى الضمير (هم) يفيد العموم والشمول لكلّ أمر بما فيه الخلافة والإمامة ، فالمؤمنون ـ بحسب هذه الآية ـ يتشاورون في جميع اُمورهم حتّى الخلافة.
    ولكن ينبغي البحث في الموضوع الذي تأمر الآية بالمشورة فيه وأنّه ماهو ؟ فنقول : إنّ الآية تأمر بالمشورة في الاُمور المضافة إلى المؤمنين ، فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر (أي تعيين الإمام) أمر مربوط بهم ، ومضاف إليهم ، فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسّك بعموم الآية في مورده.
    وبعبارة أخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى في اُمورهم وشؤونهم لافيما هو خارج عن حوزة اُمورهم وشؤونهم ، ولما كان تعيين (الإمام والخليفة) من جانبهم مشكوكاً في
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس