مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 231 ـ 240
(231)
كونه من اُمورهم ، إذ لايدرى هل من شؤونهم وصلاحياتهم ، أم من شؤون اللّه سبحانه فعندئذ لا يجوز التمسّك بالآية في المورد.
    وبعبارة ثالثة : هل أنّ الإمامة إمرة وولاية إلهيّة لتحتاج إلى نصب وتعيين إلهيّ ، أو هي إمرة وولاية شعبيّة ليجوز للناس أن يعيّنوا بالشورى من أرادوا للإمامة والخلافة ؟
    ومع الترديد والشكّ، لايمكن الأخذ بإطلاق الآية المذكورة وتعميم (أمرهم) لأمر الإمامة ، لأنّه من باب التمسك بالحكم عند الشكّ في الموضوع ، وهذا نظير ما إذا قال أحد : (أكرم العلماء) فشككنا في رجل هل هو عالم أو لا ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ في هذا المورد المشكوك والقول بلزوم إكرام الرجل.

التمسّك بكلام عليّ ( عليه السلام ) في الشورى
    ثمّ إنّ القائلين بمبدأ الشورى يتمسّكون بأحاديث في هذا المقام ، وربّما تمسّكوا بقول الإمام عليّ (عليه السلام) إذ قال : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للّه رضىً » (1).
    ثمّ إنّ الشارح الحديديّ ، كان أوّل من احتج بهذه الخطبة على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إنّما هو نظام الشورى وتبعه بعض من تبعه ، من دون رجوع إلى القرائن الحافّة بها .. والحال أنّ الاستدلال بالشورى استدلال جدليّ من باب : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (النحل : 125).
    وقد نقل نصر بن مزاحم المنقريّ المتوفّى عام (212 هـ) أي 147 عاماً قبل ميلاد(الشريف الرضيّ جامع نهج البلاغة) في كتابه القيّم (وقعة صفّين) العبارات
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (6).

(232)
الكثيرة التي حذفها الرضي (رحمه اللّه) من الرسالة كما هو دأبه في أكثر الخطب والكتب (1).
    فإنّ الإمام عليّ (عليه السلام) بدأ رسالته بقوله : « أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني ... ».
    ثمّ ختمها بقوله : « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي و كان نقضهما كردِّهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر اللّه وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ».
    ثمّ قال : « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب اللّه (2) ، وأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن ».
    هذا وقد طلب معاوية قبل أن يكتب إليه الإمام هذا الكتاب بأن يسلِّم إليه قتلة عثمان حتّى يقتصّ منهم ثمّ يبايع الإمام عليّاً (عليه السلام) هو ومن معه ، وهذا هو ما سمّاه الإمام بخدعة الصبي عن اللبن.
    وهذه الجمل والعبارات التي تركها الرضيّ في نقل الكتاب تشهد بأنّ الإمام كتب هذه الرسالة من باب الجدل والاستدلال بما هو موضع قبول الخصم.
    ثمّ إنّ ملاحظة قول : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان » تدلّ أيضاً على أنّ الإمام كان في مقام المجادلة وإفحام الخصم بما هو مسلّم عنده. فالابتداء بتماميّة الخلافة للشيخين بمبايعة المهاجرين والأنصار لهما لأجل إسكات معاوية الذي يعتبر هذه البيعة هي الملاك في خلافة الخليفة. ولولا هذا لما كان لذكر خلافة الشيخين عن طريق البيعة والشورى وجه. ولأجل ذلك نجد الإمام (عليه السلام) يردف هذه
    1 ـ ولد الرضي عام (359 هـ) وتوفّي (406 هـ) .
    2 ـ راجع (وقعة صفّين) لنصر بن مزاحم(طبعة مصر) : 29.


(233)
العبارات بقوله : « فإن اجتمعوا على رجل .... » احتجاجاً بمعتقد معاوية.
    فهذا الاُسلوب إنّما اتخذه الإمام (عليه السلام) عملاً بقوله سبحانه : ( وَجَادِلَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
    وكيف لا، وللإمام (عليه السلام) كلمات ساخنة في تخطئة الشورى التي تمّت بها خلافة الخلفاء بعد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقف عليها كلّ من تصفّح نهج البلاغة ، وسائر ما روي عنه ( عليه السلام ) في هذا المجال.
    والذي يدلّ على ذلك وأنّ الشورى لم تكن أساساً للخلافة والحكومة بعد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّ أصحاب الشورى في السقيفة ـ لا في غيرها ـ لم يتمسّكوا بها ، ولا بالآيات والأحاديث الواردة حولها.

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة :
    وهناك ملاحظات أساسيّة أخرى على جعل الشورى منشأً للحكم ، وطريقاً لتعيين الحاكم نشير إلى بعضها :
    1 ـ لو كان أساس الحكم ومنشأه هو (الشورى)، لوجب على الرسول الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وأسلوبها ، أو خطوطها العريضة على الأقلّ.
    فإنّ الإسلام إذا كان قد أرسى نظام الحكم على أساس (الشورى) ، وجعله طريقاً لتعيين الحاكم بحيث تكون هي مبدأ الولاية والحاكميّة، فإنّ من الطبيعيّ بل والضروريّ أن يقوم الإسلام بتوعية الاُمّة ، وإيقافها ـ بصورة واسعة ـ على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة حتّى لاتتحيّر الاُمّة وتختلف في أمرها ، ولكنّنا رغم هذه الأهميّة القصوى لا نجد لهذه التوعية الضروريّة أيّ (أثر) في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم.
    ولقد بادر بعض الكتاب إلى الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ : الإسلام قد تكفّل


(234)
إعطاء إشارة عابرة إلى مبدأ الشورى دون تحديد ، موكلاً أمرها وشكلها إلى نظر الاُمّة ، تمشّياً مع الصبغة العامّة التي تتّسم بها الشريعة الإسلاميّة ، وهي صبغة الخلود ، والمرونة ، التي تمكِّن هذه الشريعة من مسايرة كلّ العصور. وبقائها نظاماً خالداً لجميع الأجيال.
    وصفوة القول : أنّ خلود الإسلام يقتضي أن يكتفي هذا الدين ببيان جوهر الاُمور دون شكليّاتها ، وكيفيّاتها.
    وهذا المطلب صحيح ـ في حدّ ذاته ـ وإن كان انطباقه على هذا المورد لا يخلو عن إشكال ، فإنّه وإن كان لا يجب على الشارع إعطاء كلّ التفاصيل والخصوصيّات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى (جوهر) الشورى وصميمها ، فلا يصحّ للشارع المقدّس أن يترك بيانها إذ أنّ هناك أسئلةً تطرح نفسها في المقام ، لا يمكن الوقوف على أجوبتها إلاّ عن طريق الشارع وبيانه وهي :
    أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في (الشورى) المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيّون وحدهم أو المختلط منهم ؟
    ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
    ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكمّ ، أم بملاك الكيف ؟
    إنّ جميع هذه الاُمور تتّصل بجوهر مسألة (الشورى) ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها؟ وكيف سكت الإسلام عنها إن كان جعل (الشورى) طريقاً إلى تعيين الحاكم؟
    2 ـ إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل العقد والحلّ ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله ، وأنّ المقصود من هو ؟ ولذلك قال الشيخ عبد الكريم الخطيب :


(235)
    (وليس في القول بأنّ أفراد الاُمّة المسؤولون عنها هم أهل الحلّ والعقد فيها ، ما يفسّر هذا الغموض أو يكشفه فمن هم أهل الحلّ والعقد ، وحلّ ماذا ؟ وعقد ماذا؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوّبونهم من اُمور ؟ وهل هناك درجة معينة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحلّ والعقد؟ ماهي تلك الدرجة ؟ وبأيّ ميزان توزن ؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها ؟
    إنّ كلمة أهل العقد والحلّ لأغمض غموضاً من كلمة « الأفراد المسؤولون) » (1).
    ولأجل غموض نظريّة الشورى برمّتها وعدم ورود نصّ واضح وصريح حولها قال الدكتور طه حسين : (ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب (ويعني نظام الشورى) لعرف المسلمون في أيّام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف) (2).
    ولذلك ـ أيضاً ـ يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ، وهو يشير إلى أنّ قضيّة الشورى كانت مجرّد تجربة وليس قانوناً إسلاميّاً أخذ به ، كما يشير إلى ما في هذه القضية من نواقص وعيوب وما تركته من أثار سيّئة على الفكر الإسلاميّ :
    (ينظر بعضهم إليه على أنّه (أي تعيين الإمام بالشورى) نواة صالحة لأوّل تجربة وأنّ الأيّام كفيلة بإن تنمّيها ، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص ، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك ـ الوقوف على رأي الاُمّة كلّها فرداً فرداً، فيمن يخلف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وينظر بعض آخر إلى هذا الاُسلوب بأنّه اُسلوب بدائيّ عالج أهمّ مشكلة في الحياة، وقد كان لهذا الاُسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن اُسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الاُمم) (3).
    هذا كلّه حول (الشورى) ، وكونها صيغة الحكم ومنشأه عقيب النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مباشرة.
    1 ـ الخلافة والإمامة : 271.
    2 ـ الخلافة والإمامة : 271.
    3 ـ الخلافة والإمامة : 272.


(236)
    أمّا بالنسبة إلى عصرنا هذا، حيث لا تتمكن الاُمّة من الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه بالاسم ، فهناك فكرتان تدور حول محور الشورى :
    الاُولى : أن تقتصر وظيفة الشورى على الترشيح ، وإيقاف الاُمّة على الشخص المناسب والرجل الصالح لمقام الحكم والولاية ، من دون أن يكون تصميم الشورى وانتخابها ملزماً للناس. وهذا أمر معقول ، و مقبول شرعاً وعرفاً وهو الرأي الذي أشار إليه صاحب كتاب الشخصيّة الدولية ـ كما سبق ـ.
    الثانية : أن يكون تصميم الشورى أمراً ملزماً للناس ، وقراراً واجب الاتّباع، فعلى الناس أن يقبلوا بمن عيّنته الشورى ويرتضونه حتماً دون أن يكون لهم رأيهم في الأمر ، وحريّتهم في الاختيار وهذا ممّا لا يدلّ عليه دليل من الكتاب ولا من السنّة ، وقد ذكرنا أنّ شرط صحّة الحكم الإسلاميّ هو أن يكون موضع رضا الشعب والاُمّة.


(237)
هل البيعة
وسيلة لتعيين الحاكم ؟
    هل البيعة طريق إلى تعيين الحاكم الإسلاميّ ؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال ، والحديث عن البيعة ـ بصورة واضحة ـ يقتضي بيان اُمور :

1 ـ ماذا تعني البيعة ؟
    البيعة ـ لغةً ـ مصدر باع ـ لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله ـ بالبيعة ـ تحت اختيار من يبايع. ويتعهّد المبايع ـ في المقابل ـ بأن يسعى في إصلاح حال المبايع ، وتدبير شؤونه بصورة صحيحة وكأنّ المبايع والمبايع يقومان بعملية تجارية إذ يتعهّد كلّ واحد منهما اتّجاه الآخر بعمل شيء للآخر ، أو أن المبايع يريد من وضع يده في يد المبايع أنّه يكون معه في جميع الوقائع الآتية.
    وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه ابن خلدون في تعريفه البيعة إذ قال :
    (اعلم ، أنّ البيعة هي العهد على الطاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النظر في اُموره واُمور المسلمين ويطيعه فيما يكلّفه ، وكانوا إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري) (1).
    1 ـ مقدمة ابن خلدون : 174.

(238)
2 ـ البيعة قبل الإسلام :
    كانت (البيعة) التي هي نوع من معاهدة الرئيس، من تقاليد العرب قبل الإسلام وسننهم ، ولم يكن الإسلام هو أوّل من ابتكر ذلك ، وحيث كانت المبايعة ممّا تنفع المجتمع وتخدم مصالحه ، فقد أمضاها الدين الإسلاميّ وجعلها من العقود اللازمة ، التي يجب العمل بها ، ويحرّم نقضها.
    لقد بايع أهل المدينة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة في العقبة بمنى ، بايعوه مرّتين ففي الاُولى من البيعتين بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشةً .. وو .. (1).
    ولقد خطى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في البيعة الثانية خطوةً أكبر حيث أخذ البيعة من أهل المدينة على نصرته ، والدفاع عنه كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم (2).
    لقد بايع أهل المدينة النبيّ ـ على عاداتهم قبل الإسلام ـ حيث كانوا يبايعون زعماءهم.
    إنّ البيعة نوع من العهد والمعاهدة ، والهدف من إمضائها في زمن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لم يكن لتعيينه للحكم والرئاسة ، بل كان لإعطائه الميثاق على الوفاء ، والسير حسب أوامره ، فالمسلمون الذين بايعوا النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في أوّل بيعة ، إنّما بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، وأن يجتنبوا الفواحش ، ولا يسرقوا ، وفي البيعة الثانية عاهدوا النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على أن ينصروه ، ويدافعوا عنه كما قلنا ، وفي كلتا الصورتين كانت زعامة النبيّ ورئاسته محقّقة من قبل ، فهم كانوا بعد أن آمنوا بنبوّته ، وقيادته اقتضى إيمانهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره (فلا يشركوا ولا يزنوا .. ) ويحفظوه وينصروه ، ولكنّهم أظهروا هذا السمع والطاعة وأكّدوهما عن طريق المبايعة معه (3).
    1 ـ سيرة ابن هشام 1 : 431 ، 438.
    2 ـ سيرة ابن هشام 1 : 431 ، 438.
    3 ـ لاحظ للوقوف على تفصيل هاتين البيعتين ، السيرة النبويّة لابن هشام وصحيح البخاري.


(239)
    إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم جميعاً أو فرادى ، لا تنحصر في هذين الموردين ، بل هي أكثر من ذلك ، وفي جميع تلك الموارد يبدو جليّاً أنّ المبايعين كانوا ـ بعد أن يؤمنوا بنبوّة النبيّ ويعترفوا بقيادته وزعامته ـ يصبّون ما يلازم ذلك الإيمان ، من الالتزام بأوامر الرسول وإطاعته في قالب (البيعة) ، فكانت البيعة صورةً عمليّةً للالتزام النفسيّ بأوامر النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بعد الإقرار بنبوّته والاعتراف المسبق بزعامته.
    ولو أمعن القارىء الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون كلهم أو بعضهم (النبيّ) لوجد، أنّ البيعة لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كانت لأجل التدليل على ذلك الاعتراف والتأكيد العمليّ على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق به صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ولذلك نجد النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان يقول : « فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلُّوا وتزكُّوا » (1).
    « وأن تدفعوا عنّي العدوّ حتّى الموت (2) ، ولا تفروا من الحرب » (3).
    وصفوة القول : أنّ من يلاحظ هذه المضامين، يمكن أن يحدس بأنّ الهدف من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل هو ميثاق بين شخصين وهي تندرج تحت قوله سبحانه : ( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (المائدة : 1).
    وقوله سبحانه : ( وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) (الإسراء : 34).
    فيجب العمل بمفادها ويحرم نقضها ونكثها.
    يقول الإمام أمير المؤمنين في الحث على الوفاء بالبيعة : « وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب و الإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (4).
    ومن مراجعة خطب الإمام عليّ (عليه السلام) وكلماته في نهج البلاغة ، يتضح أنّ
    1 ـ صحيح البخاري : كتاب الإيمان.
    2 ـ مسند أحمد 4 : 15.
    3 ـ مسند أحمد 3 : 292.
    4 ـ نهج البلاغة : الخطبة (34).


(240)
نكث البيعة إنّما هو نقض للميثاق لاسواه ، وأنّ نكث البيعة من الذنوب الكبيرة ، لا أنّه عزل للحاكم ، وإزاحته عن منصب الولاية.
    ولو جعل البعض (البيعة) إحدى الطرق لتعيين الإمام ، فليس إلاّ لأحد سببين هما :
    الأوّل : أنّ البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب قبل الإسلام ، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة.
    الثاني : أنّ تعيين بعض الخلفاء بعدالنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان بهذا الطراز في الظاهر ، وإن كان على غير ذلك في الباطن ، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة ، وانتهى كلّ شيء هناك ، ثمّ أريد من بقية الناس ـ بعد السقيفة ـ أن يبايعوا أبا بكر ، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلاً ، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً ، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً.
    والحاصل، أنّه ليس هناك دليل تأريخيّ ولا شرعيّ يدلّ على كون مجرّد (البيعة) إحدى الطرق لتعيين الخليفة ونصبه ، بغض النظر عن أيّة مواصفات أو ضوابط اُخرى.
    ولأجل ذلك ، إذا راجعنا موارد البيعة التي تمّت في زمن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وجدنا، أنّها لم يكن القصد من بيعة المبايعين هو (تعيين الحاكم) ، بل كان إمّا إعطاءً لميثاق الوفاء لما يأمر به النبيّ ، أو كان أضهاراً للتأييد المجدد في الحوادث الجلل التي وقعت في حياتهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كما حدث في الحديبيّة.
    ولو غضضنا الطرف عن كلّ هذا لوجب أن نقول : إنّ البيعة هي إحدى الطرق لتعيين الحاكم والرئيس ، وليس الطريق الوحيد. وفي هذه الصورة تكون(البيعة) متّحدةً ـ من حيث المفهوم ـ مع ما ذكرناه حول تأسيس الدولة ، ومن ضرورة انبثاقها عن رضا الاُمّة وناشئةً عن إرادتها ، غاية ما في الأمر أنّ البيعة [ التي تتحقّق بصفق اليد ] تشتمل مضافاً إلى رضا الاُمّة، على ما يقوّي مركز الإمام والقائد والحاكم ، لما فيها من إبراز الولاء
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس