مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 251 ـ 260
(251)
(العنصر الرجاليّ) باعتباره قادراً ـ بحكم خلقته وصلابة تكوينه ـ على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء ، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً ... فيما حظر على المرأة التصدي لها ... وتحمّلها.
    فكما أنّ الرجل لايصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية ، فكذلك لاتصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.
    وهذا أمر أثبتته التجارب .. فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.
    إنّ (المرأة) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس ، لطيفةُ المشاعر ولذلك ، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها ـ مع الزينة والحليّ ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة ، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ ، وموقف صلب ، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية ، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول : ( أَوَ مَنْ يُنشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ وَهْوُ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِيْن ) (الزخرف : 18).
    فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات للّه واختيارهم الذكور..
    يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : (قوله تعالى : ( أَوَ مَنْ يُنشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ وَهْوُ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِيْن ) ، أي; وجعلوا للّه سبحانه من ينشأ في الحلية ، أي يتربى في الزينة ، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته ، لا يقدر على تقدير دعواه.
    وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً ، وشفقةً ، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل ، وهو بالعكس ، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها; تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل) (1).
    إنّ الأدلّة الإسلاميّة (سُنّةً وسيرةً وإجماعاً) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى
    1 ـ الميزان 18 : 93.

(252)
لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة ، وما ذلك إلاّ لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً ، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة ، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « ياعليّ ... ليس على النساء ... ولا تولي القضاء » (1).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) في وصية لابنه الحسن (عليه السلام) كتبها له بحاضرين : « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة » (2).
    ومن المعلوم; أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها .. الخارجة عن حيطة قدرتها..
    وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء ، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات (3).
    رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.
    بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة (4).
    وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد ، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى ، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي (5).
    قال ابن قُدامة في المغني : (إنّ المرأة ... لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يولّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية
    1 ـ وسائل الشيعة 18 : 6(كتاب القضاء).
    2 ـ نهج البلاغة : الرسائل الرقم (31).
    3 ـ تفسير الميزان 5 : 347.
    4 ـ راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) من الصفحة 70 ـ 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.
    5 ـ راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ) من الصفحة 70 ـ 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.


(253)
بلد فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً) (1).
    وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف » : لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه ، وهو جميع الأحكام إلاّ الحدود والقصاص ، وقال ابن جرير : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه ، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.
    ثمّ استدل على المنع بقوله : إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (2).
    فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلاّ شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية ، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة; بطريق أولى.
    وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :
    عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (3).
    ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » (4).
    كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي : « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة » (5).
    وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة » (6).
    1 ـ المغني لابن قدامة 10 : 127.
    2 ـ الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
    3 ـ الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
    4 ـ أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول 4 : 49 والنسائيّ أيضاً في سُننه : 8 (كتاب آداب القضاء).
    5 ـ الملل والأهواء 4 : 66 ، 67 ، ورواه في كنز العمال 6 : 11 وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل ، وفي لفظهم ( لن يُفلح) بدل(لا يُفلحُ ).
    6 ـ النهاية 4 : 135.


(254)
    وفي المستند : « لايصلُح قوم وليتُهُم امرأة » (1).
    وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، واُموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها » (2).
    وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّ (عليه السلام) الحظر عن الأمرين (القضاء والحكومة) في حديث واحد إذ قال : « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».
    إلى أن قال : « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة » (3).
    إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة ، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى; وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.
    ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :
    الأوّل : أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها ، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها ، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها ، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة ، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها ، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم ، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة ، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.
    يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : (وأمّا غيرها (أي الولاية والقيادة) من
    1 ـ المستند 2(كتاب القضاء ) : 519.
    2 ـ الترمذيّ في سننه 4 (كتاب الفتن ) : 529 و 530.
    3 ـ الخصال2 : 373 ، البحار 103 : 254 ، الحديث1.


(255)
الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها ، والكتاب أيضاً لايخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة) (1).
    ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة ، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة ... فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً ، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر اللّه وإرادته وإطاعته فيما أراد.
    وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : (إنّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل اللّه دون أن يكون قد تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية ، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة (2) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا ـ في ظرفنا الفاسد ـ قدر ، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند اللّه سبحانه ، وهو يقدّرها حقّ قدرها ، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه ، وللزومه الطريق الذي خطّ له; من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة ، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ ، ولا لقاض يتكىء على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد
    1 ـ تفسير الميزان 5 : 347.
    2 ـ لاحظ نهج البلاغة : الحكم (136) قال الإمام عليّ : « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».


(256)
ـ بهما في الدنيا ـ لو عمل فيما عمل ، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ ـ إلاّ تحمّل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلاّ ربّ العالمين ... فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما ، وخطّ له خطّاً آخر ، وأشار إليه بلزومه وسلوكه ...
    وخلاصة القول : أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها ، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها ...) (1).
    الثاني : انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة ، وتحلَّين بالمنطق القويّ ، والفكر المتفوّق .. إلاّ أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية ، والتحلّي بهذه الخصيصة .. وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين ، الأكثريّة الساحقة ، فهي الملاك في الخطابات القانونية .. وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة .. لا الأقليّة النادرة .. والأفراد المعدودون.

6 ـ العلم بالقانون اجتهاداً أوْ تقليداً :
    لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به ، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :
    (بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون ـ كما ورد في الحديث ـ وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته). إلى أن قال : (إنّ الحاكم
    1 ـ تفسير الميزان 5 : 351 ـ 352.

(257)
ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم ، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لاأهليّة فيه للحكم) (1).
    ثمّ على القول بأنّ الولاية ـ عند عدم التمكن من الإمام المعصوم ـ من شؤون الفقيه العدل ، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه ، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد ، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر ـ ترتضيه الاُمّة وتختاره ـ ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد ، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.
    ولأجل ذلك قلنا : اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه والامناء على حلاله وحرامه » (2).
    وقوله (عليه السلام) : « واللّه ما الإمام إلاّ القائم بالقسط ، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه » (3).
    ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً ، أو تقليداً.

7 ـ الحريّة :
    يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة ، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر ، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع ، أو لأنّه لاينتمي إلى حزب!!
    غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات ، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة ، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة
    1 ـ الحكومة الإسلاميّة : 45 ـ 46.
    2 ـ تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).
    3 ـ روضة الواعظين : 206.


(258)
غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضَاً أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران : 64).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « بعث اللّهُ محمّداً صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).
    وقال (عليه السلام) أيضاً : « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّهُ حُراً » (2).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرارولكنَّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً » (3).
    وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض ، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام للّه تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.
    منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة ، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.
    إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه : ( وَمَالَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُستَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذيِنَ يَقُولونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) (النساء : 75).
    ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة ، نعم; للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر ، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.
    1 ـ الوافي 3 ج 142 : 22.
    2 ـ نهج البلاغة : الرسائل (الرسالة31).
    3 ـ روضة الكافي : 69.


(259)
    فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها (1) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ماهو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً ، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه ، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته ، ويعيش معه في راحة وأمان .. قال اللّه سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرَاً وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ ) (النور : 33).
    وهذه الآية تفيد; أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير ، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.
    وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.
    فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم ، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم ، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.
    وخلاصة القول : نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد; بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس ، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة ، ولو في أمد من الزمان ـ أن سيود على المسلمين ، ويُسلَّط على شؤونهم.
    هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال
    1 ـ سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

(260)
والتبكيت للعبد ، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.
    ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه .. فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟
    يبقى أن يعرف القارىء الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلاّللضرورة; إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلاّ خمس خيارات :
    1 ـ أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.
    2 ـ أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين ، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.
    3 ـ أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين ، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.
    4 ـ أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين ، انتقاماً منهم.
    ولمّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً .. يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :
    5 ـ استرقاقهم ، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم ، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم ، ومنع من سفك دمهم ، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم ، ولا يرجوا منهم نفعاً.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس