مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 271 ـ 280
(271)
العلم والثقافة والمكانة الفكريّة والاجتماعيّة ـ أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً ، أو يحرّم حراماً ، فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه ، ومن شأنه خاصّةً ، فتقتصر مهمّة السلطة التشريعيّة المتمثّلة في مجلس الشورى (أو مجلس النواب حسب المصطلح الحديث) في التخطيط للبلاد ، عن طريق التشاور وتبادل وجهات النظر ومدارسة المقترحات والآراء ثمّ إبلاغ ما يتم التصديق عليه من البرامج إلى الحكومة (التي تمثل السلطة التنفيذيّة) لغرض التنفيذ ، بشرط أنّ يكون كلّ ذلك ضمن إطار القوانين الإسلاميّة في جميع المجلات.
    وبعبارة اُخرى : للحكم والقانون ثلاث مراحل :
    1 ـ مرحلة التشريع; وهي للّه خاصّةً بالأصالة.
    2 ـ مرحلة التشخيص; وهي للفقهاء والعدول.
    3 ـ مرحلة التخطيط; وهي للمجلس النيابيّ.
    والأخير هو الذي يجتمع فيه جماعة من ذوي الاطلاع والاختصاص وممّن يحملون معلومات مختلفةً فيخطّطون لبرامج البلاد حسب الضوابط الإسلاميّة.
    وهذا القسم يستفاد من الآيات والروايات الواردة حول الشورى ، وستوافيك عند الكلام عن خصائص الحكومة الإسلاميّة.
    يقول الإمام الخمينيّ :
    (الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ ويكمن الفرق بينها وبين الحكومات الدستوريّة منها والجمهوريّة في أنّ ممثّلي الشعب أو ممثّلي الملك هم الذين يقنّنون ويشرّعون ، في حين تنحصر سلطة التشريع باللّه عزَّ وجلّ وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزّل اللّه به من سلطان ، ولهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعيّ مجلساً آخر للتخطيط يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات) (1).
    1 ـ الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 41 ـ 42.

(272)
    إنّ أفضل تسمية لهذا المجلس هو (مجلس الشورى الإسلاميّ)لاستناده إلى قاعدتي : القوانين الإسلاميّة ، والشورى بين نواب الشعب ، وبهذا يكون هذا المجلس وطنيّاً حقيقيّاً لأنّه ينبثق من إرادة الشعب بصورة حقيقيّة.
    وأمّا الشواهد والأدلّة التي تدلّ على ضرورة وجود مثل هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ، من الكتاب والحديث فهي أكثر من أن تحصى ، فإنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث تدلّ بصراحة لا تقبل نقاشاً على أنّه يجب على الاُمّة الإسلاميّة أن تعالج مشاكلها بالمشاورة وتبادل الرأي.
    وستوافيك نصوص المشاورة.

انتخاب فريق الشورى :
    لمّا كانت تقع على عاتق فريق الشورى مسؤوليّة التشاور في التدابير المهمّة والخطيرة ، ورسم سياسة الدولة والمجتمع ، لذلك; فإنّ أصح الطرق وأفضلها إلى إيجاد هذا الفريق هو انتخابها من جانب الاُمّة ، على أنّ عموميّة حقّ السيادة لجميع أفرادالاُمّة تقتضي أن يشترك جميع أبناء الاُمّة في مثل هذا الانتخاب ، لتكون السلطة التشريعيّة منبثقةً عن إرادة الاُمّة بصورة حقيقيّة ، وموافقةً لرضاها عامّة.
    ولا شكّ أنّ الذين يتمتّعون بحقّ الانتخاب هذا لا بدّ أنّ يتّصفوا بالبلوغ في السنّ ، والرشد في الفكر ، لأنّ انتخاب الفرد الأصلح للمجلس الذي يتحمّل مسؤوليّة التصميم والقرار ، يعتمد على وعي المنتخب ورشده وهو أمر لا يتوفّر إلاّ في البالغين سنّاً وعقلاً.
    وإنمّا يجب أن يكون فريق الشورى وأعضاء المجلس النيابيّ مختارين ومنتخبين من جانب الاُمّة ، لأنّ قاعدة « سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم » تقتضي أن لايقيم أحد أو جماعة أنفسهم نوّاباً عن الناس دون أن يكون للناس دور في انتخابهم واختيارهم ، وإن اعتادت اُمّتنا طوال القرون الأخيرة على هذا النمط من النيابة المزعومة ،


(273)
وهؤلاء النواب غير المختارين من جانب الاُمّة.
    على أنّ الأهمّ من مسألة الانتخاب هو ملاحظة المعايير والمواصفات الإسلاميّة التي يجب توفّرها في الانتخاب و الناخب ، فليس للناس في ظل النظام الإسلاميّ أن ينتخبوا نوابهم ومندوبيهم في فريق الشورى دون مراعاة هذه الشروط والمواصفات ، وانتخابهم وفق الاعتبارات التافهة كالروابط العائليّة والعشائريّة ، أو التحالفات السياسيّة أو المعايير القوميّة العنصريّة ، أو تحت تأثير المؤثرات الدعائيّة والاعلاميّة ، أو تأثير التطميع والترغيب المادي.
    إنّ أهميّة فريق الشورى (ومجلس النواب) ومدى دوره في تعيين مصير البلاد ، والشعب يقتضي أن ينتخب الناس نوّابهم ومندوبيهم إلى هذا المجلس وفق اُسس دقيقة جداً ذكرها الدين في نصوصه ، وحتّم على الاُمّة مراعاتها وعدم التفريط بها ، وأهمها أن يكون النائب صالحاً ، منزّهاً ، طاهراً ، عارفاً بأوضاع البلاد ، ومطلعاً على حاجات الاُمّة ، غير جاهل بما يحيق باُمته من أخطار وأوضاع وغير مرجح مصلحة جماعة على اُخرى.
    إنّ على الاُمّة أن تنتخب نوّابها الاُمناء الصادقين ، العارفين بالمصالح العامّة الأوفياء لها ، إذ لو لم يكن على هذا النمط لعرّضوا البلاد لأخطار السياسة الماكرة ولخانوا مصالح الاُمّة ، وكانوا سبباً لفسادها وفساد شؤونها.
    فإذا كان استيجار شخص لعمل محدود بسيط يقتضي انتخاب القويّ الأمين كما يقول القرآن الكريم : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ القَويُّ الأمِينُ ) (القصص : 26).
    فمن الأولى; أن يكون المنتخب لمجلس الشورى الذي يتصدّى لأعظم مسؤوليّة في البلاد قويّاً في نفسيّته ، أميناً على الأمانة المعطاة له.
    ومن هنا يتحتم على النائب المنتخب المختار من جانب الاُمّة أن لا يخشى أحداً أبداً ، فلا يتلكّأ في الإدلاء برأيه بكلّ قوّة وأمانة ، كما على النائب أيضاً أن يتخذ جانب الحذر في جميع مدّة مسؤوليته النيابيّة ، حتّى لا يقع في شراك اللعب السياسيّة ، ويصير أداةً طيّعةً بأيدي الآخرين ، وعليه أن يرجح المصالح العامّة على المصلحة الشخصيّة.


(274)
وبهذا يكون توفرّ صفتي القوّة والأمانة سبباً لأن يجعل من النائب عنصراً فعّالاً وخدوماً لشعبه واُمّته.
    وهناك ـ إلى جانب هذه المواصفات ـ اُمور ينبغي توفّرها في النائب وعضو فريق الشورى ذكرها الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده التاريخيّ إلى مالك الأشتر ـ عندما ذكر له صفات مستشاريه ـ إذ قال : « ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. ولا جباناً يضعفك عن الاُمور ، ولا حريص ـ اً يزيّن لك الشره بالجَّور » (1).
    وهذا أمر ينطبق على المورد الذي نحن بصدده بطريق أولى.
    وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : « فلا تستشر العبد والسفلة في أمرك » (2).
    وعن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه مالا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع » (3).
    وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : « إنّ المشورة لا تكون إلاّ بحدودها فمن عرفها بحدودها. وإلاّ كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها ، فأوّلها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً ، والثانية أن يكون حرّاً متديّناً ، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً ، والرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك ثمَّ يستر ذلك و يكتمه فإنّه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته وإذا كان حرّاً متديّناً جهد نفسه في النصيحة لك وإذا كان صديقاً مواخياً كتم سرَّك إذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك; تمت المشورة وكملت النصيحة » (4).
    وقال (عليه السلام) أيضاً : « من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه اللّه عزّ وجلّ رأيه » (5).
    ثمّ لمّا كان يجب أنّ تنطبق مصوّبات فريق الشورى مع القوانين والمعايير
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل (الرقم 53).
    2 ـ راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي ( رحمه اللّه ).
    3 ـ راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي ( رحمه اللّه ).
    4 ـ راجع سفينة البحار 1 : 718 .
    5 ـ راجع سفينة البحار 1 : 718 .


(275)
الإسلاميّة; لذلك يتحتّم أن يكون أعضاء هذا الفريق عارفين بالفقه الإسلاميّ معرفةً كاملةً وإذا لم يكونوا من ذوي الاختصاص والمعرفة الكاملة بالفقه الإسلاميّ ، بل اقتصرت معلوماتهم على البرامج الاقتصاديّة والشؤون السياسيّة ـ مثلاً ـ وجب حينئذ أن يكون إلى جانب مجلس الشورى هذا ، جماعة من الفقهاء ليقيّموا مصوّبات مجلس الشورى ويوازنوا بينها وبين معايير الشريعة الإسلاميّةوضوابطها .. ويجب أن يتخذ لذلك قرار خاصّ في الدستور بحيث لا تتصف مصوّبات المجلس النيابيّ بالصفة القانونيّة إلاّ بعد إمضائها من تلك الجماعة من الفقهاء. وهذه الجماعة هي التي نصطلح عليها بمجلس المحافظة على الدستور كما نصّ عليه في الدستور الأساسيّ لجمهورية إيران الإسلاميّة في الأصل الواحد والتسعين.
    إنّ السلطة التشريعيّة التي تُعدّ ركناً أساسياً من أركان الحكومة الإسلاميّة إنّما هي بالمعنى الذي قد مرّ عليك ، فليست لها وظيفة سوى التخطيط .. غير أنّ الدولة الإسلاميّة حكومةً وشعباً لا تستغني عن وجود (جهة) تتبنّى استخراج الأحكام الشرعيّة في جميع الأجيال والقرون عن مصادرها الشرعيّة ، وهذا ما يقال له مقام الافتاء وبما أنّ لهذه الجهة والمقام دور كبير وحسّاس في الدولة الإسلاميّة; نشرح لك حقيقته وما يترتّب عليه من مسؤوليّات ووظائف.

المفتي أو فريق الإفتاء :
    لاريب أنّ جميع الأحكام التي يحتاج إليها المجتمع البشريّ قد بيّنها اللّه سبحانه بواسطة الكتاب والسنّة ولذلك فإنّ وظيفة فريق الإفتاء لا تكون سنّ القوانين والتشريعات ، بل استنباط الأحكام للموضوعات المتجدّدة من المصادر الإسلاميّة المذكورة مضافاً إلى : العقل واجماع الفقهاء السابقين.
    فليس لفريق الإفتاء إلاّ استخراج الأحكام لما يتجدّد ويحدث للمجتمعات الإسلاميّة من الوقائع ، وعرض ما استنبطوه في صورة القوانين الإسلاميّة الواضحة


(276)
المحدّدة على المجتمع الإسلاميّ ، وعلى فريق الشورى تنظيم مصوّباتهم وفق هذه الأحكام والمعايير المبيّنة المحدّدة.
    وباختصار تتحدّد وظيفة فريق الإفتاء في أمرين :
    أ/ بيان الوظائف الفرديّة ليتسنّى لكلّ مسلم تطبيق حياته عليها سواء أكان هناك حكومة إسلاميّة قائمة ، أم لا ، وتكون هذه الوظائف غالباً في مجالات العبادة والأخلاق وقسم من نظم التعامل الفرديّ والعلاقات الخاصّة ، والأحوال الشخصيّة كالنكاح والطلاق والميراث وغيرهما.
    ب/ بيان الضوابط والمناهج السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة العامّة الإسلاميّة التي تكون نماذج حيّةً يخطّط (فريق الشورى) شؤون البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفقها وعلى ضوئها.
    وتدلّ على ضرورة وجود هذا الفريق (أي فريق الإفتاء) في الحياة الإسلاميّة آيات كثيرة وأحاديث متضافرة نذكر بعضها في ما يأتي :

فريق الإفتاء والنصوص :
    وأمّا ما يدلّ على ذلك من القرآن الكريم فقوله تعالى : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (النحل : 43) (1).
    وقوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة : 122).
    وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله : « أمرهُم
    1 ـ إنّ المراد بأهل الذكر ، وإن كان علماء أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) كما يشهد بذلك سياق الآية وشأن نزولها ، ولكنّ المورد لا يكون مخصّصاً للحكم الكلّي أبداً كما هو واضح ، فالرجوع إلى أهل العلم وذوي الاختصاص لاكتشاف المجهولات أمر فطريّ مركوز في العقول ، ومعترف به لدى العرف. فهو قانون عامّ لا يقتصر على موضوع دون موضوع ، ولا جيل دون جيل.

(277)
(اللّهُ) أن ينفروا إلى رسول اللّه فيتعلّموا ثُمّ يرجعوا إلى قومهم فيُعلِّموهُم » (1).
    وأمّا الأحاديث الدالة على ضرورة وجود هذا الفريق ووجوب الرجوع إليه والأخذ بآرائه ، فقد تضافرت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت على لزوم الرجوع إلى الفقهاء في الفروع والأحكام والحوادث الواقعة ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العامليّ في كتاب الوسائل فراجع كتاب القضاء الأبواب المختلفة منه.
    نقطتان لا بدّ من ذكرهما :
    إنّ طرح موضوع فريق الإفتاء يتطلب منّا توضيح نقطتين هامّتين في المقام :
    النقطة الاُولى : ـ إنّ الإسلام لا يتلخّص في مجموعة من الأوراد والأذكار أو القوانين الجامدة البعيدة عن واقع الحياة المتطوّر ، وحاجة المجتمع المتجدّدة ، بل ينطوي الدين الإسلاميّ على برنامج كامل للحياة الإنسانيّة ، ولكلّ العصور والأمكنة ولكلّ أصناف المجتمع ومستوياته.
    وهذا يستلزم أن يكون فريق الإفتاء في مواجهة دائمة مع الوقائع المستجدّة والمسائل المستحدثة .. التي تتطلّب الإجابة والحكم المناسب لها وفق الشريعة المقدّسة. ولاشكّ أنّ إعطاء هذا الجواب والحكم يتطلّب الوقوف والمعرفة بالموضوعات المستحدثة ، ولهذا يتحتم على فريق الإفتاء أن يكون على اتّصال دائم بذوي الاختصاص في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، للوقوف على أحدث التطوّرات في هذه الأصعدة ، إذ ربما أحتاج الفقهاء إلى من يشرح لهم حقيقة الواقعة المستجدّة ، أو يبيّن ما حدث لموضوع معيّن من التطوّرات وحصل حوله من معلومات يمكن أن يوجب تغييراً في حكمها ، ويدخله تحت عنوان يختلف عن الموضوع الأوّل في الأحكام والتبعات فلطالما شاهدنا نماذج من هذا التبدّل في الموضوع و الحكم ، فربَّ موضوع كان يوضع في صنف المحرّمات ، ولكنّ مرور الزمن استوجب ظهور حقيقته ، وتبدّل عنوانه فصار من
    1 ـ وسائل الشيعة ج 18 كتاب القضاء : ص 10.

(278)
المباحات.
    إنّ اتساع وسائل الإعلام وتطور المواصلات الذي استوجب تقارب المجتمعات البشريّة وارتباطها ، أفرزت اليوم مسائل مستجدّة ومشكلات وقضايا لا يمكن حلّها فقهيّاً إلاّ بعد الاتصال بذوي الاختصاص في العلوم الحديثة المختلفة. إذ في هذا الاتّصال ما يوضّح حقيقة هذه المستجدات وحدودها وقيودها ، وهي اُمور دخيلة في نوع الحكم المراد استنباطه لها ، وفي صحة الاستنباط.
    فإذا كان الفقيه أو الفقهاء يريدون استنباط حكم شرعيّ لما حدث اليوم من مسائل التأمين على الحياة أو المال أو الضمان الاجتماعيّ وقضايا الشركات السهاميّة التي تقام في الحياة المعاصرة وتحظى بصفة قانونيّة ، ورسميّة ـ مثلاً ـ توجّب عليهم أن يعرفوا حقيقة هذه المسائل وابعادها وحدودها وتفاصيلها لكي لاتأتي استنباطاتهم الفقهيّة لها بعيدةً عن روح الشريعة الإسلاميّة ومتنافيةً مع جوهر تعاليمها السمحة الخالدة.
    النقطة الثانية : ـ إنّ إعطاء مسؤوليّة الإفتاء لفريق ، لا يعني أنّ مقام الإفتاء يجب أن يكون حتماً من حقّ جماعة ، يجتمعون ويتدارسون فيما بينهم جوانب المسألة المستجدّة ، ويستنبطون الحكم الشرعيّ المناسب لها بحيث لا يحقّ لفرد واحد أن يتحمّل هذه المسؤوليّة بمفرده ويتصدّر مقام الإفتاء لوحده ، بل إنّ إعطاء هذا المقام لجماعة دون فرد واحد هو أفضل صيغة لهذا القسم الخطير والحسّاس في تركيبة الحكومة الإسلاميّة. وهو أمر تدل عليه آيات الشورى وأحاديثها التي مرّت عليك التفصيل.
    فبالمشورة وتبادل الآراء لدى استنباط الأحكام الشرعيّة الفقهيّة يمكن أن نضمن حلاًّ أفضل وأسرع للمشكلات الطارئة ، كما يمكن التخلّص من أكثر الاحتياطات المقيّدة لحريّات الناس والموجبة لعسرهم وحرجهم ، فإنّ قيمة العمل الجماعي القائم على الشورى والتشاور تختلف اختلافاً كبيراً عن العمل الفرديّ إلى درجة نجد أنّ اللجان الاستشاريّة تحتلّ ـ في عالمنا المعاصر ـ مكان المشورة الفرديّة ، وتحتلّ هيئة القضاة محلّ القاضي المنفرد


(279)
وبالتالي فإنّ النتيجة التي يمكن الحصول عليها من النشاط الجماعيّ تفوق ما يكون فردياً لا يشارك في صنعه الآخرون ، لما في احتكاك الآراء وتبادل الأفكار وتلاحقها واجتماعها من فوائد ، على غرار ما لاجتماع القوى الماديّة وانضمامها إلى بعض وتمركزها في نقطة واحدة من الفوائد والآثار ، ولكنّ ايكال الأمر إلى فريق ـ مع ذلك ـ مجرّد اقتراح مطروح للدرس والمناقشة ، ولذلك قلنا في عنوان هذا البحث : المفتي أو فريق الإفتاء.
    نعم ، إنّ الطريق الأفضل هو تقديم الأعلم والأخذ بفتواه ، وإيكال مهمّة الإفتاء إليه ريثما يتسنّى تشكيل فريق الإفتاء.
    هذا ويمكن أن يتردّد البعض اتّجاه صحّة هذه الصيغة ونعني إيكال الإفتاء إلى فريق من المفتين بدل المفتي الواحد ـ رغم أنّ هذا الشكل هو أفضل نمط لهذه السلط ـ ة ـ بحجة أنّه لم يسبق له مثيل في ما مضى من الزمن.
    ونجيب بأنّ أحاديث الشورى المنقولة سابقاً وفي الفصول القادمة خير دليل على صحّة وأفضليّة هذا النمط ، مضافاً إلى أنّه نقل عن سنن أبي داود أنّه قال الراوي : قلت : يارسول اللّه ينزل بنا أمر ، ولم ينزل فيه قرآن ، ولم تمض سنّتك؟ فقالصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اجمعُوا العالمين من المؤمنين فاجعلوهُ شورى ، ولا تقضوا فيه برأي أحد (أي واحد) » (1).
    إنّ العمل الاجتهاديّ الجماعيّ أقلّ خطأً ، وأقرب إلى إصابة الواقع ، وأكثر قدرةً على تجاوز المشكلات وهو ما يسعى إلى تحقيقه مبدأ الشورى الذي ابتكره الإسلام وحضّ عليه أشدّ الحضّ ، وأكدّ عليه أشدّ التأكيد.
    وهو مع ذلك مجرّد اقتراح مطروح للمناقشة .. والدرس بموضوعيّة وتجرّد لا أكثر.
    ثمّ إنّه لا بدّ ـ في تشكيل فريق الإفتاء ـ من ملاحظة الظروف والجوانب السياسيّة والاجتماعيّة ، فلا بدّ من المشورة إذن في أصل : تشكيل مثل هذا الفريق ، فقد لا تقتضي بعض الظروف إيكال مهمّة الإفتاء إلى جماعة ، بل لا بدّ من وجود قائد واحد وإرجاع الأمر إليه وحده لما في إطاعته وحده من قوّة لشوكة المسلمين التي قد لا تتوفر في إرجاع
    1 ـ السيوطي في الدر المنثور7 : 357.

(280)
الأمر إلى جماعة .. بل ربّما يكون إيكال مقام الإفتاء إلى مفت واحد وقائد فقيه منفرد أدعى لعزّة المسلمين ، وارتفاع شأن الدين لما له من شخصيّة نافذة وقوّة ذاتيّة معروفة فيما يكون العكس في فريق الإفتاء حيث تضمحلّ فيه الشخصيّات ، ويفقد الأشخاص أهميّتهم الذاتيّة في ظلّ ذلك المجلس وهو من شأنه ضعف قدرة القيادة الإسلاميّة ، ووهن الزعامة الدينيّة.
    وقد يكون من نافلة القول إذا قلنا إنّ الاشتراك في هذا الفريق يتطلّب الاتّصاف بمواصفات خاصّة تؤهّل الفرد للانخراط فيه ، فلا يدخل في هذا الفريق إلاّ المجتهدون ، الواعون المعروفون بالفهم والعلم ، والورع والشجاعة ، والإحاطة بمشكلات العصر وحاجات الاُمّة .. وغير ذلك من الصفات والأخلاق اللازمة.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس