مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 281 ـ 290
(281)
2
السلطة التنفيذيّة
    المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء ، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد ، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات ، وقرارات ، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة ، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد ، ومن زمن إلى زمن .. فهي تزيد أو تنقص ، وتضاف مديريّة أو تحذف ، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.
    وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :
    أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.
    ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.
    ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً ، وإن كان هذا نادراً.
    وعلى أيّ تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة ، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة ، وإن كان الدارج الآن


(282)
هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى ، مع موافقة مجلس الشورى.
    وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم ، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس ، وموافقتهم وإرادتهم.
    وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال : « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ ، وأعمَّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة ، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة ، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة » (1).
    هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :
    أوّلاً : إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة ، والحاكم الأعلى للبلاد.
    ثانياً : استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في (العهد النبويّ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.
    ثالثاً : بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.
    وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :
    لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها اللّه سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم ، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلاّ لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع ، ولا
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة (53).

(283)
وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً ، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق ، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها ، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه ، بل لا بدّ من إجرائه ، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.
    إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.
    ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق : ( فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (المائدة : 38) وجلد الزاني والزانية : ( الْزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ) (النور : 2).
    إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين ، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال : « سمعت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول : لن تقدس اُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع » (1).
    وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين : يا عليّ ابرز أليّ ، فخرج إليه عليّ (عليه السلام) فقال : إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقال (عليه السلام) : « وما هو؟ » قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّ (عليه السلام) : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة ، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه ، فلم أجد إلاَّ القتال أو الكفر بما أنزل اللّه على محمّدصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    إنّ اللّه تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم » (2).
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة (53).
    2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 207 ـ 208.


(284)
    ولمّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها ، فكلّم النبيّ في أمرها ، قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أتشفع في حدّ من حدود اللّه » ؟!
    ثمّ قام فخطب وقال : « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ » (1).
    وعن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً » (2).
    وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « اللّهمَّ إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك : يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي » (3).
    وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً : « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم ، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكّاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي » (4).
    وعن الإمام الباقر محمد بن عليّ (عليه السلام) : « إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلاَّ أنزله في كتابه ، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً » (5).
    وعنه (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين
    1 ـ صحيح مسلم 5 : 114.
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : 308 ، والخراج : 164.
    3 ـ وسائل الشيعة 18 : 308.
    4 ـ رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ : 50.
    5 ـ وسائل الشيعة 18 : 311.


(285)
ليلة وأيّامها » (1).
    وعنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال : « لا تبطل حدود اللّه في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم » (2).
    وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) : قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً » (3).
    وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) في تفسير قول اللّه عز وجل : ( يُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) (الروم : 19) : « ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل ، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً » (4).
    إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على أجراء الحدود ، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام اللّه سبحانه ، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب ، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.
    بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع ، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلاّ شيوع الفوضى ، وضياع الحقوق ، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط ، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة .. ويقوم بهذا الدور الخطير.
    ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة; قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم; فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين ، ويضفي على الإسلام طابع المنهج
    1 ـ وسائل الشيعة 18 : 308 ، 315.
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : 308 ، 315.
    3 ـ نفس المصدر : 308
    4 ـ نفس المصدر : 308


(286)
الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه : « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة ، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة إيّ إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام ، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية ، وعاجزةً عن التطبيق ».
    هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين ، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة ، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة ، وحقوق مدنيّة ، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلاميّ; للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.
    فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة ، والاُمور الجزائيّة إلى (الحاكم الشرعيّ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات : عزّره الحاكم ، أدّبه الحاكم ، نفاه الحاكم ، طلّق عنه الحاكم ، حبسه الحاكم ، خيّره الحاكم (1). وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.
    هذا مضافاً إلى أنّ موضوع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى ، والوظيفة العظمى هو (الهيئة التنفيذيّة).
    1 ـ راجع هذا الجزء : 23 ـ 30.

(287)
الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :
    إنّ النظر العميق في فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأحكامهما ومسائلهما ، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم (السلطة التنفيذيّة) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام ، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول : تعتبر وظيفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أصلاً مبتكراً ، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس ، ويزجروا عن الشرّ والمنكر ، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.
    ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي : أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة ، مشتركون في المصير .. فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع ، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة ، ولا تتخطّاها.
    ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر ، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد .. ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع .. ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير ، والمسير (1).
    كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة
    1 ـ راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

(288)
أنّه حرّ; لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر ، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله ، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.
    إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة ، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير ، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين ، واستمرار الرسالة الإلهيّة.
    ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة ، وأحاديث ، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير ، وإنكار المنكر ، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.
    نعم ، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك ، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة ، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها ، وصعوبتها ، ومن تلك الآيات قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعَاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (المائدة : 105).
    وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله : « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي » (1).
    بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآيةوهو : أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره ، وإلى ذلك يشير الإمام عليّ (عليه السلام) قائلاً : « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس
    1 ـ تفسير مجمع البيان 3 : 254.

(289)
ومؤدّبهم » (1).
    وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف .. فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أيّ إصلاح للغير قبل ذلك; وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه : ( لاَ يَضُرُّكّمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».
    فقيل : يارسول ، من الغرباء ؟ فقال : « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي » (2).
    وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرىء قوله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يصلحون » بصيغة اللازم ، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أيّ تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.
    ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّيّ » (3).
    ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بكلا قسميه (الفرديّ والاجتماعيّ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة ، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية ، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج ، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.
    كما و يؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
    1 ـ نهج البلاغة : ـ الحكم ـ الرقم (73).
    2 ـ جامع الاُصول 10 : 212 ، أخرجه الترمذي.
    3 ـ نهج البلاغة : قصار الحكم الرقم (374).


(290)
الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتَ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيث غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذَاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَميْعَاً ) (النساء : 140).
    فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له ، ولأجل ذلك قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمُود رجُل واحد فعمَّهُم اللّهُ بالعذاب لمَّا عمّوهُ بالرِّضى » (1).
    ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعيّ إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.
    غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود (السلطة التنفيذيّة) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول : إنّ النظر في مهمّة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في (الهيئة التنفيذيّة) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلاّ القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تنقسم إلى وظيفتين :
    1 ـ وظيفة فرديّة.
    2 ـ وظيفة اجتماعيّة عموميّة.
    وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.
    أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع ، أيّ على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة ، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل(الفرديّ) يشير قوله تعالى : ( وَالمؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة (201).
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس