مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 291 ـ 300
(291)
أَوْليَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ، وَيُقِيمُونَ الْصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (التوبة : 71).
    وقوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بالمعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المنْكَرِ وَ الحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنْينَ ) (التوبة : 112).
    وقوله سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (آل عمران : 110).
    إلى غير ذلك من الآيات ، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.
    وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ... بـ (اُمّة) ... وفي ذلك قوله سبحانه : ( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَيالْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) (آلعمران : 104).
    ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر ، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً لِلَّهِ حَنِيفَاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (النحل : 120) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) هذه الآية بقوله : « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الاُمّة جميعاً؟ فقال : لا ، فقيل لهُ : ولم؟ قال : إنَّما هُو على القوي المُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف .. والدَّليلُ على ذلك كتاب اللّه عزَّ وجلَّ قوله : ( وَلْتَكُنْ مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال اللّهُ عزَّ وجلَّ : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (الأعراف : 159) ولم يقل : على أُمَّة موسى ولا على كُلِّ قومه ، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال اللّهُ عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً لِلَّهِ ) » (1).
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 400.

(292)
    وقوله تعالى : ( إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَ أَمَرُواْ بِالمعْرُوفِ وَنَهََوْاْ عَنِ المُنْكَرِ وَللّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ ) (الحج : 41).
    فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة ، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة .. وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة ، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض ، ولا يتقيد بقيد السلطة ، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :
    قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.
    وقسم لا يمكن أن يقوم به إلاّ فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيَنْذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (التوبة : 122).
    وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول رسول اللّه : « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال : « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت : إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال : « ليس حيثُ تذهب وذهبوا ، إنَّما أراد قولُ اللّه تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيَنْذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم اللّهُ أن ينفروا إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين .. إنّما الدّينُ واحد » (1).
    1 ـ تفسير البرهان 2 : 172 ومعاني الاخبار : 157 وعلل الشرائع 1 : 60 وقد نقلها صاحب الوسائل في 8 : 101 ـ 102.

(293)
    وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :
    قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن ، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.
    وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أم ـ ير المؤمن ـ ين عليّ بن أبي طال ـ ب ( عليه السلام ) إذ قال : « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء » (1).
    وعنه (عليه السلام) أيضاً قال : « أمرنا رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة » (2).
    وقال (عليه السلام) أيضاً : « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة » (3).
    وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) إذ قال : « حسبُ المؤمن غيراً (أي غيرة) إذا رأى منكر أن يعلم اللّهُ عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره » (4).
    وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به; إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة ، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.
    وأمّا القسم الثاني; وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض ، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك ، وردِّ المظالم ، وردع الظَّالم ، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلاّ بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :
    قال الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 404 ، 413.
    2 ـ وسائل الشيعة 11 : 404 ، 413.
    3 ـ وسائل الشيعة 11 : 413 ، 409
    4 ـ وسائل الشيعة 11 : 413 ، 409


(294)
تأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » (1).
    ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلاّ بجهاز تنفيذيّ قويّ ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات ، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء ( عليهم السلام ) حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.
    وعن النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (2).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم ، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها » (3).
    ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه ، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة ، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع ، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام ، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 395 ، 398.
    2 ـ وسائل الشيعة 11 : 395 ، 398.
    3 ـ وسائل الشيعة 11 : 403 ، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول : 171 (طبعة بيروت ).


(295)
لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة ، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.
    من هنا; تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه; مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين ، الذين فيهما صلاح عامّة الناس ، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إذ قالت : « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة » (1).
    إذ أيّ أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.
    كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّ (عليه السلام) إذ قال : « ... أخذ اللّهُ على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم » (2).
    فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه ، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير ، إلاّ بجهاز وسلطة خاصّة ، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلاّ ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.
    وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمام (عليه السلام) وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه : « اللّهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك » (3).
    1 ـ بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( 380 هـ) ـ ص 12 ، ومعاني الأخبار : 336.
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة (3).
    3 ـ نهج البلاغة : الخطبة (127) شرح عبده ، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال : « اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).


(296)
    فكيف يمكن أمان المظلومين ، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن اللّه وأحكامه بلا استثناء إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟
    إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟
    ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى (اليد) وإستعمال القوة والسلطة; بتنديد اللّه بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال اللّه تعالى : ( وَتَرَى كَثيراً مِنْهُمْ يُسْارِعُونَ في الإثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَاَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَولِهِمُ الإثْمَ وَاَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (المائدة : 62 ـ 63).
    وقد أشار الإمام عليّ (عليه السلام) إلى تفسير هذه بقوله : « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لمَّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات » (1).
    وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة..
    وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع ، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة; فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما ، فهو الذي يجب على الجميع ، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.
    وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب ال ـ حدود ـ
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 395.

(297)
والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه ، فلو قتله غيره كان عليه القود ، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل .. فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :
    1 ـ إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أو الكافر الحربيّ ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.
    2 ـ أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه ، ولو قتله الذميّ فعليه قود ، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.
    3 ـ أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص (أي وليّ الدم) ومن إليه القصاص (أي الحاكم) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله (1).
    4 ـ أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم ، كاللائط والزاني المحصن.
    كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :
    1 ـ أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.
    2 ـ أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليهشيء.
    3 ـ أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه ، سقط الإنكار.
    4 ـ أن لا يكون في الإنكار مفسدة ، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه ، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط (2).
    1 ـ راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص 159 ـ 198 الجزء 41.
    2 ـ شرائع الإسلام : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


(298)
    ومن المعلوم; أنّ الشرط الثاني (احتمال التأثير) والثالث (الإصرار على المنكر) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير ، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح ، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.
    كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته ، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي ، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولاشكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :
    ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لايتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما ، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
    ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم ، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره ، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً ، ولو بالنسبة للآخرين ، و هذا نظير قوله سبحانه : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الاْلْبَاب ) (البقرة : 179) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص ، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».
    وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.


(299)
هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.
    فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :
    الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة ، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي : أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس ، قال اللّه تعالى : ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلاَح بَيْنَ النَّاسِ ) (النساء : 114).
    والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم (وفي نسخة اُخرى : وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
    ومن شروط المحتسب أن يكون : (مسلماً) (حرّاً) (بالغاً) (عاقلاً ) (عدلاً) (قادراً) (1).
    ومن المعلوم أنّ (الحريّة) و (البلوغ) و (العدالة) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين : فرديّ ، وعموميّ ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين ، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :
    وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة (الأمر بالمعروف والنهي
    1 ـ معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة : 7.

(300)
عن المنكر) والمسمّى بالحسبة ، بالسلطة التنفيذيّة; مطالبة الإمام عليّ (عليه السلام) أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال : « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك (أي من جانب اللّه) أفضلُ من الّذي يصلُ بك (أي من جانب الناس) ».
    وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال : (وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :
    أحدها : أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.
    الثاني : أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره ، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.
    الثالث : أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره ، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.
    الرابع : على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.
    الخامس : أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب ، وإليه مندوب وليكون له أقهر ، وعليه أقدر ، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.
    السادس : أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود ، وليس للمتطوّع أن يعزّر.
    السابع : أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر ... إلى غير ذلك.
    فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان (أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس