مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 301 ـ 310
(301)
من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وبين من يحتسب تطوّعاً (أي يقوم بالقسم الفرديّ من تلك الوظيفة » (1).
    وقد أشار ابن الاخوة في مقدّمة كتابه إلى أنّ الحسبة منصب سياسيّ حكوميّ ، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم فقال : « لقد رأيت أن أجمع ـ في هذا الكتاب ـ أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبويّة ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة وقلّد النظر في مصالح الرّعية وكشف أحوال السوقة ، واُمور المتعيّشين على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته » (2).
    وممّا يدلّ على أنّ القسم الاجتماعيّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختصّ بمجرّد بيان المحرّمات والواجبات بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدّى الوعظ والإرشاد إلى إستعمال القوّة والسلطة ، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافّة مناحي الحياة الاجتماعيّة وتقترن ـ في الأغلب ـ باستخدام الردع العمليّ والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب. وإليك نماذج من وظائف المحتسب (3) التي توزّعت اليوم في وزارات ومديريّات مختلفة :
    1 ـ الحسبة على الآلات المحرّمة والخمر ، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب ، وأدّبه إن كان ذلك الرجل مسلماً ، أو أدّبه على إظهاره إن كان ذميّاً .. وهكذا بالنسبة إلى الالات المحرّمة ، فإنّ المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً ، ويؤدّب صاحبها.
    ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخليّة.
    2 ـ الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرّفاتهم ، ومدى التزامهم بعهودهم ، ومراعاتهم لشروطها ، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيّات وزارة الداخليّة.
    1 ـ معالم القربة في أحكام الحسبة : 11.
    2 ـ معالم القربة : 3.
    3 ـ لقد وردت كلمة الحسبة في مجمع البحرين هكذا : الحسبة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلف في وجوبها عيناً أو كفاية. راجع باب حسب ص 106.


(302)
    3 ـ الحسبة على أهل الجنائز ، ومراقبة شؤونها من جهة الاُمور الصحيّة والحقوقيّة ويدخل في شؤون وزارة الداخليّة ، ووزارة الصحّة.
    4 ـ الإشراف على المعاملات التجاريّة لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا ، والمسلم الفاسد ، والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.
    5 ـ الإشراف على العلاقات الاجتماعيّة والأخلاقيّة ومنع الناس من مواقف الريب ومظانّ التهم ممّا يدخل في شؤون وزارة الداخليّة.
    6 ـ مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة ، بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال والدوائر التابعة لها.
    7 ـ الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سدّ طرقات المارّة بمتاعهم وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للاُمور البلديّة. وكمنع الحمّالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارّة ، إمّا بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.
    8 ـ ضبط المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في الأسواق ، وتعيينها والمنع من التلاعب فيها ممّا يدخل في شؤون البلديّة.
    9 ـ مراقبة تجّار الغلاّت للحيلولة دون احتكارها ، أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة ممّا يدخل في صلاحيّات وزارة التجارة والاقتصاد.
    10 ـ مراقبة الخبّازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحيّة منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة ، وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كلّ باعة الأغذية ، والحلويّات والشرابت لنفس الغرض .. وأيضاً من ناحية الأسعار.
    11 ـ ملاحظة القصّابين واللحّامين لمنعهم من فعل ما يوجب التلّوث كذبح الحيوانات في الأسواق أو بيع اللحوم الفاسدة ، وتحديد أسعارها وإعطائهم التعليمات الصحيّة وهو يدخل في صلاحيّات وزارتي الصحة والتجارة. والدوائر التابعة لها.
    12 ـ مراقبة البزّازين وبيّاع الألبسة وما يتعلّق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب


(303)
في هذا المجال ، أو تلاعب في الأسعار والقيم ، وكذا مراقبة الخيّاطين وصنّاع الثياب.
    13 ـ مراقبة كلّ المشاغل والمهن وأصحاب الحرف كالصاغة والحدّادين ، والنحاسين ، والصبّاغين ، والبياطرة ، والحمّامات وأصحابها والفصّادين والحجّامين والأطبّاء والمجبّرين والجرّاحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار والمبالغ التي يتقاضونها ، أو شروط العمل ، أو مواصفاته الصحيّة ممّا يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد ، وبعضها الآخر في شؤون وزارتي الصحّة والداخليّة.
    14 ـ مراقبة المساجد والمؤذنيين والوعّاظ والقرّاء ، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلاّ لمن اشتهر بين الناس بالدين و الخير و الفضيلة ويكون عالماً بالاُمور والعلوم الشرعيّة ممّا يدخل الآن في نطاق صلاحيّات وزارة الأوقاف.
    15 ـ الحسبة على مؤدّبي الصبيان ومعلّمي الأولاد ، ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها وما يرتبط بذلك ممّا يدخل في مسؤوليّات وزارة التربية والتعليم.
    16 ـ الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدّي من لا أهليّة له لذلك لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.
    17 ـ القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلّف عن القوانين الإسلاميّة المقرّرة.
    18 ـ الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل ممّا يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.
    19 ـ الحسبة على شؤون العمل والعمّال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم ممّا يدخل في شؤون ومسؤوليّات وزارة العمل ، والشؤون الاجتماعيّة و (الضمان الاجتماعيّ).
    وغير ذلك (1).
    1 ـ راجع هذه التفاصيل في كتاب معالم القربة تصفّح كلّ الأبواب.

(304)
    وللوقوف على وظائف المحتسب باختصار; نذكر لك ما كتبه ابن خلدون في مقدمته : « أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم باُمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة ، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين ، ولا يتوقّف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك .. بل فيما يتعلّق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين ، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك .. » (1).
    إنّ من يلاحظ هذه المهام الموكلة إلى المحتسب والمحتسبين يرى أنّها نفس الصلاحيّات والمهام التي تقوم بها أجهزة السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في الوزارات وما يتبعها من دوائر ومديريّات بتنظيم دقيق وعلى نطاق أوسع ، غاية ما هنالك أنّ الحياة الإسلاميّة في العصور الغابرة والعهود الإسلاميّة الاُولى لم تستلزم التوسّع في الأجهزة والتشكيلات على غرار ما نلاحظ اليوم ، بل اكتفي بالمحتسب أو المحتسبين ولكن التطوّر الحضاريّ ، واتّساع البلاد ، وتزايد الحاجات تطلّبت إحالة تلك المهام والمسؤوليّات والصلاحيّات إلى وزارات وأجهزة ومديريات هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام اهتمّ ببيان الخطوط العريضة للحكم والولاية ، واعتنى ببيان جوهر الوظائف ، تاركاً اختيار الظواهر والشكليّات للزمن والحاجة ، ما دامت تتّفق مع مارسمه من خطوط ووظائف وغايات.
    إنّ الإسلام وإن أوكل الكثير من القضايا الاجتماعيّة إلى الحاكم كما مرّ عليك باختصار; ولكن هل يمكن للحاكم ، وهو يواجه كلّ يوم آلاف المشاكل والقضايا أن
    1 ـ مقدمة ابن خلدون المتوفّي ( 808 هـ) : 225 ـ 226.

(305)
يقوم بكلّ أعباء الولاية والحكومة لوحده دون معاونين ووزراء ، و دون أجهزة وتشكيلات .. ؟ الجواب لا قطعاً.
    هذا ولقد ورد ذكر الوزير والوزراء في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث قال : « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونّن لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة » (1).
    وهذا يعني أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى للبلاد أن يتّخذ لنفسه (وزراء) يعينونه على إدارة البلاد ، وتنفيذ القوانيين ، وأنّ عليه ـ وراء ذلك ـ أن يختار بدقّة وعناية اُولئك الوزراء وأفراد السلطة التنفيذيّة; لما لهم من أثر حسّاس في الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة.
    وربمّا عبّر في الإسلام عن الوزير بالكاتب كما جاء في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأشتر ، قال الاُستاذ توفيق الفكيكي في كتابه « الراعي والرعية » : « قال الإمام عليّ : « ثمَّ انظر في حال كتّابك » ، ولم يقل (كاتبك) علمنا أنّ معنى الكاتب يراد به الوزير في عرف اليوم فقد جوّز (عليه السلام) تعدّد الوزراء على قدر الحاجة التي تدعو إليها المصلحة العامّة ويؤكّد هذا ما جاء في آخر كلامه المتقدّم : (و اجعل لرأس كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيره ولا يتشتَّت عليه كثيرها) » (2).
    ثمّ إن السلطة التنفيذيّة اجتمعت في القرآن تحت كلمة (اُولي الأمر) وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في عدّة مواضع : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و أُولِي الأمْرِ مِنْكُم ) (النساء : 59).
    ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الخَوْفِ اَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ اِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُم ) (النساء : 83).
    1 ـ نهج البلاغة : الرسالة 53.
    2 ـ الراعي والرعيّة : 162 ـ 163 و هو شرح وتحليل سياسيّ لعهد الإمام عليّ ( عليه السلام ) للأشتر النخعيّ.


(306)
    وغير خفيّ على المتتبّع في الآثار النبويّة أنّ المراد من اُولي الأمر حين نزول الآية هو الذي نصّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على أسمائهم من أوّلهم إلى آخرهم ، بيد أنّهم كانوا مصاديق كاملة لهذا العنوان وكان الإشارة إليهم من باب أظهر المصاديق فعندما لا تتمكّن الاُمّة الإسلاميّة من هؤلاء المنصوص عليهم تتمثّل هذه القضية الكليّة في (العدول) من أئمّة المسلمين الذين يديرون دفّة البلاد.
    ثمّ قد سبق القرآن الكريم إلى هذا بصورة ضمنيّة عند حكايته لقول موسى (عليه السلام) وطلبه من اللّه تعالى إذ قال : ( وَاجْعَل لِي وَزِيرَاً مِنْ أَهْلِي * هَارُوْنَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (طه : 29 ـ 31).
    وهو يكشف عن وجود الوزراء للحاكم الأعلى في النظام السياسيّ الإسلاميّ ليشدّوا أزره ، ويعينوه على الإدارة والولاية.
    ولقد أقرّ الإسلام وجود السلطة التنفيذيّة وأخذ بها عمليّاً حيث كان النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقسّم المسؤوليّات الإداريّة والسياسيّة على الأفراد ، وإن لم يكن هذا التقسيم تحت عنوان إلاستيزار ، واتّخاذ الوزراء ، كما ستعرف.
    وخلاصة القول; أنّ القارىء الكريم إذا لاحظ برامج الحكومة الإسلاميّة التي يجب أن يقوم بها النظام الإسلاميّ ، يقف على أنّها لايمكن تطبيقها بدون أجهزة كاملة ، وسلطة تنفيذيّة في مجالات الاقتصاد والزراعة والماليّة والدفاع والمواصلات وغير ذلك من البرامج وستقف عليها بإذن اللّه سبحانه في فصلها الخاصّ ، وكلّ من يقوم على هذه البرامج يعدّ جزء من السلطة التنفيذيّة.

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم
    لاشكّ أنّ الرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان إلى جانب مهامه الرساليّة ، يتولّى القسم الأكبر من إدارة شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولاشكّ أنّ رقعة البلاد الإسلاميّة ـ آنذاك ـ لم تبلغ من السعة والانتشار بحيث تتطلّب إنشاء تشكيلات


(307)
تنفيذيّة واسعة الأطراف والأبعاد ، ولذلك لم يكن في (العهد النبويّ) سلطة باسم السلطة التنفيذيّة ، ولا وزارة ولا وزارات (1) ولا مديريّات مركزيّة ومحليّة على غرار ما يوجد الآن ، بل كان هناك فيما وقفنا عليه من خلال مطالعة ذلك العهد ـ تقسيم بعض المسؤوليّات الإداريّة والمهامّ السياسيّة على الأفراد القادرين على تحمّلها ، والصالحين للقيام بها ، وهذا هو المهمّ معرفته في هذا المقام ، فإنّ المهمّ هو معرفة كيفيّة إدارة المجتمع على عهد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والاطّلاع على ما إذا اتّخذ النبيّ الأكرم وهو أوّل حاكم إسلاميّ أعلى للاُمّة الإسلاميّة من وازروه وعاونوه في مسألة الإدارة ، وتدبير شؤون الاُمّة في مجالات السياسة والعسكريّة والقضاء وما شابه أم لا ، لنرى ما إذا كان يتعيّن على الدولة الإسلاميّة أن تتّخذ مثل هذه السلطة أم لا ، وكيف؟
    إنّ المراجع لتاريخ الحكومة النبويّة يرى بوضوح; أنّ النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان يمارس حكومته على المسلمين من خلال توزيع بعض المسؤوليّات على أفراد صالحين ، وكان ذلك يمثّل التشكيلات الإداريّة في ذلك العهد والتي تعادل الوزارات في هذا العصر ونحن لا ننكر أنّها كانت تشكيلات إداريّة بسيطة ، ولكنّها توسّعت فيما بعد واتّخذت أشكالاً أكثر تنظيماً وسعة باتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة ، وتطوّر الحاجات الاجتماعيّة وتشعّبها ، واتّساع نطاقها الذي اقتضى ـ بدوره ـ التوسّع في التشكيلات الإداريّة وإحداث الوزارات والدواوين والدوائر والأجهزة التنفيذيّة المتعدّدة.
    إنّ من يراجع تاريخ الحكومة النبويّة يجد أنّ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان يعيّن الاُمراء العامّين على النواحي ويقيم الولاة على البلاد ويعيّن رجالاً للقضاء ، وآخرين لجباية الصدقات وجلب الزكوات ، وآخرين للكتابة ، وربّما أمّر الرجل على قومه لأنّه أيقظ عيناً وأدرى بفنون الحرب من غيره ، أو خلّف أحداً مكانه عند غيابه ، كما كان يخلّف ابن اُمّ مكتوم في بعض الأحيان عند غيابه عن المدينة (2). وكما خلف عليّاً (عليه السلام) عند خروجه لغزوة
    1 ـ نعم اتّخذ النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عليّاً ( عليه السلام ) وزيراً لنفسه كما يدلّ عليه حديث بدء الدعوة ، لاحظ الصفحة 83 من هذا الكتاب.
    2 ـ الكنى والألقاب (للقمّي ) 1 : 208.


(308)
تبوك (1) وأمّر عتّاب بن أسيد على مكّة و أوكل إليه إقامة المواسم والحجّ للمسلمين عام الفتح.

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم
    وكان يعيّن الولاة (الذين هم الآن بمثابة المحافظين) وكان يرسم لهم منهجهم في الحكم وسياستهم الداخليّة..
    فقد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ووصّاه بما يلي :
    « يا معاذ علّمهم كتاب اللّه ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل النّاس منازلهم خيرهم وشرّهم وأنفذ فيهم أمر اللّه ، ولا تحاش في أمره. ولا ماله أحداً ، فإنّها ليست بولايتك ولا مالك وأدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل وكثير ، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحقّ ، يقول الجاهل قد تركت من حقّ اللّه ، واعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك ، وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الإسلام.
    وأظهر أمر الإسلام صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصّلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدّين وذكّر النّاس باللّه واليوم الآخر ، واتبع الموعظة فإنّه أقوى لهم على العمل بمّا يحبُّ اللّه ، ثمّ بثّ فيهم المعلّمين و أعبد اللّه الذّي إليه ترجع ولا تخف في اللّه لومة لائم.
    وأوصيك بتقوى اللّه وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحبّ الآخرة والجزع من الحساب ولزوم الإيمان والفقه في القرآن ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح.
    وإيّاك أن تشتم مسلماً ، أو تطيع آثماً ، أو تعصي إماماً عادلاً أو تكذّب صادقاً ، أو
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 520 وبحار الأنوار 21 : 207.

(309)
تصدّق كاذباً واذكر ربّك عند كُلّ شجر وحجر واحدث لكلّ ذنب توبةً ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية.
    يا معاذ لولا أنّني أرى ألاّ نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرتُ في الوصيّة ولكنّني أرى أنّنا لا نلتقي أبداً..
    ثمّ أعلم يا معاذ إنّ أحبّكُم إليّ من يلقاني على مثل الحال التّي فارقني عليها » (1).
    وبعث رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عمرو بن حزم إلى بني الحارث وجعله والياً عليهم ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السُّنة ومعالم الإسلام و يأخذ منهم الصدقات و كتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، هذا بيان من اللّه ورسوله ، يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقُود ، عهد من محمّد النّبي رسول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كُلّه ، فإنّ اللّه مع الّذين أتّقوا ، والّذين هم محسنون.
    وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره اللّه وأن يبشّر النّاس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلّم النّاس القرآن ويفقّههم فيه ، وينهى النّاس فلا يمس القران إنسان إلاّ وهو طاهر ويخبر النّاس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم فإنّ اللّه كره الظّلم ونهى عنه ، فقال : ( أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمينَ ) (هود : 18) ويبشر النّاس بالجنّة وبعملها وينذر النّاس النّار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ويعلّم النّاس معالم الحجّ وسنّته وفريضته ، وما أمر اللّه به ، والحجّ الأكبر : الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر هُو العُمرة .... إلى آخر العهد .. » (2).
    ومن هذين العهدين ، ونظائرهما ، يتبيّن لنا أنّ النبيّ كان يعهد بعض السلطات والمسؤوليّات إلى من يراه صالحاً من المسلمين ليقوموا بإدارة بعض أنحاء البلاد ، ويزوّدهم ببرامج وأنظمة للحكم والعمل السياسيّ والإداريّ ، ممّا يكشف عن وجود صورة مصغّرة عن السلطة التنفيذيّة إلى جانب الحاكم الأعلى للبلاد.
    وقد كان له صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عمّال للبريد ، وله تعليمات خاصّة لهم في هذا الشأن ومن ذلك
    1 ـ تحف العقول : 25 ـ 26.
    2 ـ سيرة ابن هشام 4 : 595.


(310)
قوله : « إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم » (1).
    وقوله لأحد عمّال البريد : « إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتّى تصبح وتطهّر فأحسن طهورك وصلّ ركعتين وسل اللّه النّجاح والقبول وأستعد لذلك وخذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم » (2).
    وربّما اتّخذ بعض الحراس الليليين ليتتبّعوا أهل الريب ، وقد عدّ من ذلك سعد ابن أبي وقّاص (3) ، وربّما اتّخذ حرساً خاصّاً في بعض الأحيان غير العادية ويذكر أنّ سعد بن معاذ كان حرسه يوم بدر (4).
    وقد روي أنّ بعض المسلمين كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه حيث يباع الطعام ، قال ابن عبد البرّ : استعمل النبيُّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم سعيد بن سعيد العاص على سوق مكّة (5).
    كما كان له كتاب الرسائل الذين كانوا يكتبون للملوك والاُمراء والبوادي وغيرهم وكان له من يقوم بمهمّة الحسبة التي مرّ ذكرها مفصّلاً (6).
    وهكذا كان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يتّخذ المعاونين والمساعدين لإدارة ما يمكن لهم إدارته من الأعمال والمهامّ .. ويوكل إليهم من الصلاحيّات والمسؤوليّات ما تعارف إيكاله الآن إلى الوزارات والمديريّات والإدارات التي تشكّل حقيقة السلطة التنفيذيّة ، وقد كان إيكاله المهامّ للأشخاص مشفوعاً بإعطاء البرامج والتوجيهات الإداريّة المفصّلة التي مرّ عليك ذكر بعضها ، وتجد المزيد منها في كتب السير والتاريخ.

كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن
    بعد أن عرفت أيّها القارىء الكريم من البحثين السابقين; أنّ جانباً كثيراً من
    1 ـ التراتيب الإداريّة 1 : 247.
    2 ـ راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
    3 ـ راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
    4 ـ راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
    5 ـ راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
    6 ـ التراتيب الإداريّة 2 : 285.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس