مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 311 ـ 320
(311)
النظم الإداريّة والتوجيهات الضروريّة لتنظيم الحياة الاجتماعيّة في مجالات العلاقات والحقوق والتعامل (كالتبادل التجاريّ مثلما جاء في الكتاب العزيز ضمن آيات أطولها آية الدين التي حثّت على كتابة الدين وتسجيله) يتطلّب وجود جهاز تنفيذيّ وقد كان هذا الأمر يتم في العهد النبويّ ببساطة; وان استوجب تزايد حجم الاُمور واتسّاع رقعة البلاد ، تطوير الترتيبات اللازمة لذلك ، وتوسيع التشكيلات ، يصبح الجواب على السؤال المطروح وهو; كيف يجب أن تكون السلطة التنفيذيّة في العصور الحاضرة ؟ واضحاً من وجهة نظر الإسلام.
    فإنّ ذكر الترتيبات والتشكيلات ليس من مهمّة الدين الإسلاميّ فذلك متروك للزمن المتحوّل ، والحاجات المتطوّرة ، لأنّ تحديدها وتعيينها بصورة لا يجوز تخطّيها لا ينسجم مع خاتميّة الرسالة الإسلاميّة التي نزلت لتكون دين الأبديّة ، ومنهج البشريّة إلى يوم القيامة ، فإنّ مثل هذه الخاصّية في الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر ويترك اختيار الشكل واللباس إلى الزمن والحاجة حتّى يستطيع مسايرة الزمن ويتمشّى مع تقدم الحياة البشريّة وتطوّرها ، إذ ذكر الخصوصيّات والأشكال يفرض على الدين الإسلاميّ جموداً هو منه براء ، ويحصره في زمن خاصّ دون زمن آخر; لأنّ الحاجات البشريّة متجدّدة و متحوّلة ومتزايدة ولا يمكن الجمود ـ في رفعها ـ على نمط خاصّ من التشكيلات والأشكال ، ولهذا نجده يذكر ـ مثلاً ـ موضوع تسجيل المعاملات الماليّة التي فيها أجل دون أن يحدّد نوع تنفيذ هذا الأمر وما يلزم من أجهزة ودوائر فيقول في أطول آية قرآنية :
    ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِذَا تَدايَنْتُمْ بِدَيْن إلَى أَجَل مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ وَ لاَ يأْبَ كَاتِبٌ اَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَليَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فإنْ كَانَ الَّذي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفيهاً أوْ ضَعِيفاً أوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهيدَيْنِ مِنْ رجَالِكُمّْ فإن لَمْ يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أنْ تَضِلَّ اِحْداهُما فَتُذَكِّرَ اِحْدَاهُما الاُخْرَى ، وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ اِذَا ما دُعُوا ولا تَسْئَمُوا اَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيْراً أوْ كَبيراً اِلَى أَجَلِهِ


(312)
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ للشَّهَادَةِ وَأَدْنَى ألاّ تَرْتَابُوا اِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَ شْهِدُوا اِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَاِنْ تَفْعَلُوا فإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ واللّهُ بِكِلِّ شيْء عَلِيمٌ ) (البقرة : 282).
    إنّ هذه الآية ترسم أهمّ الاُسس التي يجب أن يبنى عليها التعامل التجاريّ ، ويكتفي فيها الإسلام بذكر الجوهر تاركاً اختيار الترتيبات الفنيّة ، والتشكيلات الإداريّة التي تقوم بهذه الاُمور إلى الأوضاع البشريّة المتجدّدة.
    وعلى ذلك فإنّ ما نجده في الكتب التي أُلّفت حول النظم السياسيّة مثل ما كتبه الباحث العلاّمة الشيخ عبد الحيّ الكتاني في تأليفه القيّم « التراتيب الإداريّة » والدكتور صبحي الصالح في « النظم الإسلاميّة » لا يمثّل إلاّ تصوير ما توصّلت إليه الحكومات السابقة من تشكيلات وأساليب للعمل الإداريّ والحكوميّ ولا تمثّل بعينها وشكلها أمراً إسلاميّاً يجب الأخذ به حتماً دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تحوير ، تستدعيه الحاجة ويستلزمه الظرف.
    ويدلّ على ذلك; أنّ هذه الاُمور في العهد النبويّ كانت تمارس بأساليب بسيطة وبدائيّة ومختصرة كما عرفت ، وتطوّرت فيما بعد في العهود اللاحقة ، ولكنّها كانت على كلّ حال تدلّ على وجود السلطة التنفيذيّة حتّى في العهد النبويّ وإن لم تكن بالتفاصيل والخصوصيّات المتعارفة الآن.

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة
    يعتبر دور السلطة التنفيذيّة في الدولة دوراً بالغ الخطورة والأهميّة ، لأنّه على عاتقها تقع مهمّة القيام بشؤون الناس ، وإدارة اُمورهم وسدّ حاجاتهم ، وحلّ مشكلاتهم ، فإذا قامت هذه السلطة بواجباتها أفضل قيام استطاعت أن تكتسب رضا الاُمّة ، وتجلب مودّتهم التي يقوم عليها بقاء الدولة ، واستقرار الأمن.


(313)
    إنّ ضمان استقامة السلطة التنفيذيّة وسلامة سلوكها يتوقّف ـ بالدرجة الاُولى ـ على نوع الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء تلك السلطة فإنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء اختيار أعضاء هذه السلطة ويعود ذلك إلى الخطأ الحاصل في المواصفات والشروط التي تقيم الأنظمة البشريّة اختيار الوزراء والمدراء والمسؤولين ، على أساسها.
    ولقد أدرك الإسلام كلّ هذا من قبل فاعتبر لأعضاء السلطة التنفيذيّة شروطاً ومواصفات يضمن توفّرها فيهم ، سلامة هذه السلطة ، واستقامة تصرّفاتها .. وأبرز هذه المواصفات هي :

1 ـ التخصّص
    لقد كان الإسلام أوّل من اشترط وجود هذا الشرط في أفراد السلطة التنفيذيّة وهو أمر اشترطه في جميع المناصب الدينيّة والزمنيّة حيث يقول : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (النحل : 43) ، وهو حثّ على إرجاع كل أمر إلى أهله والعارفين به.
    ولذلك قال الرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّ الرّئاسة لا تصلحُ إلاّ لأهلها » (1).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يُصلحُ » (2).
    وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليهما السلام ) : « العاملُ على غير بصيرة كالسّائر على غير الطّريق لا يُزيدُهُ سُرعة السّير إلاّ بُعداً » (3).
    إنّ إيكال الأمر إلى من لا يعرفه ولا يعرف مدخله و مخرجه إضاعة لذلك الأمر وإيذان بسوء العواقب فالعقل لا يسمح بإيكال أمر إلى من لا يعرف القيام به فكيف بالمسؤوليّة الاجتماعيّة وإدارة البلاد .. ولذلك قالوا : الحكمة هي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب .. ومن الحمق وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.
    1 ـ الكافي 1 : 47 و45 و44.
    2 ـ الكافي 1 : 47 و45 و44.
    3 ـ الكافي 1 : 47 و45 و44.


(314)
    على أنّ من التخصّص أيضاً معرفة الزمان وأهله وما يقتضيانه من التدبير والحيلة. ولذلك قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « العالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللّوابسُ » (1).
    وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) وهو يصف المسؤول الصالح ، والراعي الناجح : « يعملُ ويخشى ... رجلاً ، داعياً ، مشفقاً مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه مُستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدّ اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه » (2).
    إن قوله « مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه » إشارة إلى شرط التخصّص بجانبيه : معرفة الأمر ، ومعرفة الزمان و أهله.

2 ـ الوثاقة
    إنّ أهمّ شرط بعد شرط التخصّص هو : الوثاقة وكون المسؤول الحكوميّ أميناً ومأموناً على إدارته ومسؤوليّته فإنّ أكثر الم آسي الاجتماعيّة الناشئة من رجال الحكومات في الأنظمة البشريّة ترجع ـ في الحقيقة ـ إلى خيانة هؤلاء الرجال لما أوكل إليهم من مسؤوليّات ومهامّ ، فقاموا بها دون ورع ، وتصرّفوا فيما فوّض إليهم دون تقوى ولأجل ذلك يؤكد القرآن الكريم على تفويض الاُمور إلى الأمناء من الرجال ، المأمونين على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إذ يقول عن لسان ابنة شعيب : ( يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِىُّ الأمِينُ ) (القصص : 26).
    فإنّ كانت القوّة والأمانة شرطان ضروريّان في راعي شويهات وأغنام ، كان اشتراطهما في من يراد تسليطه على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم ضروريّاً بطريق أولى.

3 ـ الزهد والتعفّف
    والمراد من الزهد هو أن لايكون المرء متعلّقاً بالدنيا وحطامها ، وآخذاً بها على وجه
    1 ـ اُصول الكافي 1 : 27 و 39.
    2 ـ اُصول الكافي 1 : 27 و 39.


(315)
الغاية والهدف .. فإنّ من جعل الدنيا وزبارجها غايته وهدفه ، جعلها همّته ، ومن جعلها همّته تجاوز الحدود وضيّع الحقوق ، ونسي رعيّته وضيّع من ولي أمرهم .. فخسرهم ، وضيّع مودّتهم.
    إنّ على المسؤول الحكوميّ أن يجعل الزهد نصب عينيه فيأخذ من الدنيا ما يكفيه. ومن كان كذلك لم يمدّ عينيه إلى أموال الناس حبّاً في العاجلة ، وغفلة عن الآجلة .. وكان جديراً بأن يراعي أضعف الناس. . فلا يضيع منهم حقّاً ولا يغفل فاقة وفقراً ولذلك قال الإمام عليّ (عليه السلام) في كلام له : « إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدروا معيشتهم على قدر ضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرهُ » (1).
    ونجده يوبّخ أحد ولاته ـ وهو عثمان بن حنيف ـ لأنّه دعي إلى وليمة فأجاب لأنّ ذلك ـ في نظر الإمام عليّ يعرّض الوالي والمسؤول الحكوميّ لخطر الإنبهار بحطام الدنيا وبريقها وهو أمر فيه ما فيه من العواقب مضافاً إلى تضييع محتمل لحقّ الحاضر : « أمّا بعدُ يا بن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتن ـ قل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ ، وغنيُّهم مدعوّ .. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
    ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنورعلمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك فأعينوني بورع ، واجتهاد وعفّة وسداد ، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ولا حزت من أرضها شبراً ، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة » (2).
    إنّ الزهد الذي يتحلّى به الحاكم والمسؤول الإداريّ هو الذي يمنعه من أن يمدّ عينيه إلى أموال الناس وأشيائهم .. وهو الذي يجعله يحس بآلام الرعيّة وحاجاتها ،
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة (207).
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة(45).


(316)
ونواقصها .. وإنّ أسوأ ما يعاني منه عالمنا اليوم هو جشع الحكّام وحرصهم على الدنيا ، وتعلّقهم الشديد بحطامها ، الذي يسوّغون في سبيله كلّ حرام ويرتكبون كلّ معصية ، ويقترفون كلّ جريمة.
    إنّ الزهد هو العامل الفعال الذي يردع عن اقتحام الشبهات فضلاً عن نيل الحرام.
    هذه هي أهمّ الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء السلطة التنفيذيّة ، وهي مواصفات إن توفّرت فيهم سلمت هذه السلطة من الآفات الجسيمة التي تعاني منها أنظمة الحكم ، والحكومات الراهنة. وتتخلّص الشعوب من العناء والعذاب الذي تلقاه على أيدي الحكام والمسؤولين ، بدل أن تنال على أيديهم السعادة والخير والرفاه.
    ولا شكّ أنّ هذه المواصفات تتوفّر ـ في الأغلب ـ في المسلم المؤمن العارف بدينه ، ولذلك يتعيّن تقديمه على غيره في تفويض المسؤوليّات الحكوميّة إليه.
    غير أنّه لا بدّ من التنبيه ـ بعد ذكر هذه المواصفات ـ إلى نقطة هامة وهي : أنّ صلاحيّة المسؤول الحكوميّ وحدها لاتكفي في استقامة الاُمور وصلاح الرعيّة وعمارة البلاد وتقدمها ، بل لا بدّ إلى جانب ذلك من أن يتحلى المسؤول بالصفات الأخلاقيّة العليا كالحلم والصبر والأناة ، والعطف والشفقة .. وغير ذلك من نبيل الأخلاق.
    بيد أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو (طاعة الرعيّة للحاكم الصالح) والانقياد لأوامره ، لأنّ الحاكم غير المطاع لا يمكن أن يقيم أمناً ، أو ينشر عدلاً ، فلا رأي لمن لا يطاع كما قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وإليك مفصّل الكلام في هذا الأمر :

إطاعة الحاكم الصالح
    إنّ نفوذ السلطة التنفيذيّة ، يتقوّم بطاعة الناس لها. . وإلاّ صار وجود السلطة هذه لغواً ، لا فائدة فيه ولا أثر له ولذلك وردت عن النبيّ العظيم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والأئمّة الطاهرين أحاديث كثيرة تحثّ على طاعة الحاكم الصالح ، وصاحب السلطة العادل :


(317)
    قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « طاعة السُّلطان [ أي صاحب السلطة العادل ] واجبة ، ومن ترك طاعة السُّلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّ وجلّ » (1).
    وقد خطب النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ذات يوم في مسجد الخيف وقال : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
    ثلاثة لا يغلُّ عليهنّ قلب امريء مسلم :
    إخلاص العمل للّه..
    والنّصيحة لأئمّة المسلمين.
    واللّزوم لجماعتهم .. فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم : المسلمون اخوة تتكاتفأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (2).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم وعلى هذا فليكن تأسيس اُموركم والزموا هذه الطريقة » (3).
    وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق : « فأمّا حقٌّ سائسك بالسلطان فأن تعلم أنّك جعلت له فتنةً وأنّه مبتلى بك بما جعله اللّه له عليك من السُّلطان ، وأن تخلص له في النّصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه ... » (4).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقٌّ :
    فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا.
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 472.
    2 ـ الكافي 1 : 232 ـ 233 ، 235.
    3 ـ الكافي 1 : 232 ـ 233 ، 235.
    4 ـ مكارم الأخلاق للطبرسيّ : 187.


(318)
    وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (1).
    ولمّا سئل الإمام الباقر محمّد بن عليّ (عليه السلام) : ما حقّ الإمام على الناس؟قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا ».
    فقيل : فما حقُّهم عليه ؟ قال : « يقسّم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (2).
    وقال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : « إنّ السُّلطان العادل بمنزلة الوالد الرّحيم فأحبُّوا له ما تحبُّون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم » (3).
    وعن أبي سعيد الخدري ، قال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سُّلطان جائر » (4).
    إنّ طاعة الشعب للحكّام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكّل عاملاً أساسيّاً في نجاح الحكومة الإسلاميّة وموفقيّتها في إدارة البلاد على أحسن وجه.
    إنّ السلطة التنفيذيّة في الحكومة الإسلاميّة ليست جهازاً غريباً عن الشعب فليس أعضاؤها جماعة تسلّطت على الناس بالقهر والغلبة بل هم خزّان الرعيّة وخدّامها .. واُمناء الشعب على الحكم والسلطة .. وهذا يجعل طاعة الولاة واجباً مقدّساً مفروضاً على الناس .. يسألون عنه ويعاقبون على تركه وهذا هو سبب نجاح الحكومة الإسلاميّة وعلّة بقائها ، واستمرارها.
    هذا وإنّ الأحاديث التي ذكرناها في باب طاعة الرعيّة للولاة ، تدلّ بصورة ضمنيّة على ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ولزوم إيجادها أيضاً.
    إنّ ما ذكرناه لك من الأحاديث في باب طاعة الحاكم العادل والراعي الصالح
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة (33).
    2 ـ الكافي 1 : 334.
    3 ـ وسائل الشيعة 11 : 472.
    4 ـ رواه الترمذيّ 1 : 235 كما في جامع الاُصول ( الطبعة الاُولى).


(319)
والسلطة التنفيذيّة الصالحة; ما هو إلاّ قليل من كثير تجده في المجاميع الحديثيّة كما في أبواب الحجّة من اُصول الكافي ، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وسائل الشيعة .. ورسائل الإمام عليّ وعهوده في نهج البلاغة.

لا طاعة للحاكم الجائر
    ثمّ إنّ ها هنا أمراً لابدّ من التنبيه عليه وهو أنّه قد تُنقل أحاديث وروايات تدلّ على وجوب إطاعة مطلق الحاكم والخضوع لمطلق السلطات عادلة كانت أو ظالمة ، صالحة كانت أو جائرة وإليك فيما يأتي بعض هذه الروايات :
    1 ـ مارووه عن الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « لا تسبُّوا الولاة فإنّهُم إن أحسنُوا كان لهُم الأجر وعليكُمُ الشُّكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر ، وإنّما هم نقمة ينتقم اللّه بهم ممّن يشاء فلا تستقبلوا نقمة اللّه بالحميّة واستقبلوها بالاستكانة والتضرُّع » (1).
    2 ـ ما رووه عنه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أيضاً أنّه قال : « سيأتيكم ركب مبغوضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فاعطوهم ولا تسبُّوهم وليدعوا لكم » (2).
    3 ـ ما رواه سلمة عن النبيّ لمّا سأل النبيّ قائلاً : يا نبيّ اللّه أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم و يمنعونا حقّنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثمّ سأله فأعرض عنه ، ثمّ سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم » (3).
    4 ـ ما رواه ابن مسعود عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « إنّها ستكون بعدي إثرة واُمور تنكرونها » ، قالوا يارسول اللّه : كيف تأمر من أدرك ذلك منّا ؟
    1 ـ النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن الخراج لأبي يوسف.
    2 ـ النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن سنن أبي داود.
    3 ـ رواه مسلم .. ونقله جامع الاُصول 4 : 64.


(320)
    قال : « تؤدوُّن الحقّ الذّي عليكم ، وتسألون اللّه الذّي لكم » (1).
    إنّها إذن دعوة إلى السكوت على الظالم والرضا بما يفعل ؟ !!
    5 ـ وما رواه عوف عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّ قال : « شرار اُمّتكم الذّين تبغضونهم ويبغضونكم و تلعنونهم ويلعنونكم » ، قلنا يا رسول اللّه أفلا ننابذهم [ عند ذلك ؟ ].
    قال : « لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية اللّه فليكره ما يأتي من معصية اللّه ، ولا ينزعنّ يداً من طاعة » (2).
    6 ـ ما روته اُمّ سلمة عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « إنّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون ما تنكرون فمن كره فقد بريء ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع ».
    قالوا : أفلا نقاتلهم ؟
    قال : « لا ما صلُّوا » (3).
    وهكذا تبدو من هذه الروايات الدعوة إلى السكوت على فعل الظالم والحاكم الجائر والرضا بأفعاله المخالفة للدين والعدل ، والاكتفاء بالصلاة .. فهو ما دام يصلّي جاز له أن يفعل ما يفعل ، وأن يخالف كتاب اللّه وسنّة نبيّه .. !!!
    7 ـ ما رواه ابن عباس عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنّه من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً » (4).
    ولكن هذه الروايات وهذه الدعوة مردودة ومدفوعة بما ورد في الكتاب الكريم من النهي عن المنكر ، والردّ على الظالم ، والضرب على يده وعدم الركون إليه كقوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (هود : 113).
    1 ـ جامع الاُصول 4 : 64 ، نقلاً عن مسلم والترمذيّ.
    2 ـ جامع الاُصول 4 : 67 ، نقلاً عن مسلم.
    3 ـ جامع الاُصول 4 : 68 ، نقلاً عن مسلم وأبي داود والترمذيّ.
    4 ـ جامع الاُصول 4 : 69 ، نقلاً عن البخاريّ ومسلم.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس