مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 321 ـ 330
(321)
    وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه ووصف الحاكم بغير ما أنزل اللّه بالكفر والفسق والظلم (1) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.
    كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته ، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال : « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم و أعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] » (2).
    وعن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل اللّهُ ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ اللّهُ عليه في نار جهنّم و بئس المصير » (3).
    وعنه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أيضاً أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة ، أوربط لهُم كيساً ، أو مدّ لهُم مدّة قلم ، فاحشُرُوهُم معهُم » (4).
    وعنه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار » (5).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه » (6).
    وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي اللّه » (7).
    1 ـ المائدة : 44و45و47.
    2 ـ جامع الأصول 4 : 75 ، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.
    3 ـ وسائل الشيعة12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به حديث10.
    4 ـ وسائل الشيعة12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث11.
    5 ـ وسائل الشيعة12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث14.
    6 ـ وسائل الشيعة12 : 130 حديث12.
    7 ـ وسائل الشيعة12 : 134 ، حديث5.


(322)
    وعنه (عليه السلام) أنّه قال : « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين ... حشرهُ اللّهُ يوم القيامة حيراناً » (1).
    وعنه (عليه السلام) أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلُمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام » (2).
    وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه قال : « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ اللّه من الحساب » (3).
    وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث ، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة ، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادىء الكتاب والسّنة.
    ولو لم يكن في المقام إلاّ قول الإمام عليّ (عليه السلام) في خطبته : « ... وما أخذ اللّهُ على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلُوم ... الخ » (4).
    لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.
    1 ـ وسائل الشيعة 12 : 134 حديث6.
    2 ـ وسائل الشيعة 12 : 131 حديث15.
    3 ـ وسائل الشيعة 12 : 129 حديث6.
    4 ـ نهج البلاغة : الخطبة 3.


(323)
3
السلطة القضائيّة
دور القضاء والسلطة القضائيّة :
    يحتلّ القضاء ، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً ، ومكانة حسّاسة في أيّ مجتمع بشريّ ، لأنّ عليه و على كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع ، واستتباب الأمن ، واستقرار العدل ، وصيانة الحقوق والحريّات ، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.
    إنّ القضاء مرتبط بالعدالة ، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت ، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، وصلح أمر الدولة ، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد ، ولا يأمن الناس على أنفسهم ، فتضيع هيبة الدولة ، ويتقلّص سلطانها ، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.
    إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام ، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.


(324)
عوامل التنازع وأسبابه :
    لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده ، وقد شهد بذلك التاريخ ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة ، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلاّ من أمرين :
    1 ـ الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق ، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة ، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك ، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.
    2 ـ الاختلاف في تشخيص الحقّ ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص (الحق ّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.
    وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة ، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع ، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته; إذ قد يؤدي إلى العدوان ، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين ، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة ، وضاعتأغراض شريفة ليس إلاّ لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب.ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره منالجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال : ( وَاَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) (الأنفال : 1).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نقلاً عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه كان يقول :


(325)
« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام » (1).
    بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :
    إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة ، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله : (الحقُ لمن غلب) .. فيكون الغالب هو المحقّ .. ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.
    أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب ، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً ، .. وهو كذلك أمر يرفضه الدين.
    أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام .. وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها..
    أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة ، أو يخلّي أحدهما الآخر ، ليبطل الحقّ ، ويعود باطلاً ، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّ (عليه السلام) : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».
    ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً ، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع .. ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم ، والخضوع لقضائهم وحكمهم .. ليرتفع التنازع .. ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين ، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً ، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.
    ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام
    1 ـ نهج البلاغة : ـ قسم الكتب ـ 47.

(326)
الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة; حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها ، وعظيمة في محتوياتها.
    فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله ، وجزئياته ، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة للّه خاصّة
    ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلاّ للّه تعالى خاصّة; كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه ، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون ، ولهذا قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ اِلاَّ للّهِ يقُصُّ الحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الفَاصِلينَ ) (الأنعام : 57).
    وقال : ( إِنِ الحُكْمُ اِلاَّ للّهِ ) (يوسف : 40) (1).
    إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة (الشاملة للقضاء وغيره) باللّه سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.
    وقد عهد اللّه سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص ، أم بالرسم والوصف.
    فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام) له : « من تحاكم إليهم (2) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت ، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،
    1 ـ ولم نذكر الآية المشابهة (67) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.
    2 ـ المراد قضاة الجور.


(327)
لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وماأمر اللّهُ أن يُكفر به. قال اللّهُ تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَنْ يَكْفُرُواْ بِهِ ) (النساء : 60) ».
    ولمّا قال : فكيف يصنعان ؟ قال (عليه السلام) : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً و نظر في حلالنا و حرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرّادّ على اللّه وهو على حدّ الشّرك باللّه .. الحديث » (1).
    وما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » (2).
    هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج اللّه تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء ، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.
    ولذلك أنزل اللّه الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلَنَا رُسُلَنَا بِالبَينّاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَ المِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ ) (الحديد : 25).
    وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدَىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (المائدة : 44).
    وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق : ( يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاس (3) بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ اِنَّ الَّذِينَ
    1 ـ وسائل الشيعة 18 : باب11 من أبواب صفات القاضي/ الحديث (1).
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : باب1 من أبواب صفات القاضي/ الحديث (5) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب 11 / الحديث (6).
    3 ـ المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.


(328)
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (ص : 26).
    كما أمر اللّه تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ) (المائدة : 47).
    وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَ الإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهمْ وَمِنْ تَحتِ اَرْجُلِهِمْ ) (المائدة : 66).
    وقد أمر اللّهُ سبحانه نبيّه الأكرم محمّد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ اِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المقْسِطِينَ ) (المائدة : 42).
    وقال سبحانه : ( وَاَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنَاً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ اَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ) (المائدة : 48).
    ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال : ( إِنَّ اللّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ اِلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ اَنْ تَحْكُمُوا بالعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ اِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيرَاً ) (النساء : 58).
    وأمرها بأن لا يحملها شن آن قوم على التخلّي عن العدل ، والتقاعس عن إجرائه إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوا قَوَّامينَ للّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَن آنُ قَوْم عَلَى ألاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المائدة : 8).
    بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة ، حتّى في النطق والكلام إذ قال : ( وَاِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى ) (الانعام : 152).
    وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ


(329)
القضاء حقّ خاصّ باللّه سبحانه ، وقد عهد به إلى الأنبياء ، وأوصيائهم ، ومن أقاموه لذلك المنصب ، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم ، ليحكموا بما فيها ، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يمارس القضاء
    ولقد عهد اللّه بالقضاء إلى النبيّ محمّد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فيما عهد إليه ، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً ، وقد تولّى صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه ، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات ، قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « بعثني رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى اليمن قاضياً ، فقُلتُ يا رسول اللّه : تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟
    فقال : إنّ اللّه سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت م ـ ن الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.
    قال : فما زلت قاضياً. (أو) ما شككت في قضاء بعد » (1).
    كما قد بعث صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم معاذاً إلى اليمن وقال له : « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ » ، قال : أقضي بكتاب اللّه .. الى آخر الحديث (2).
    وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء ، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام ، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم (3) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام ، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة ، وما
    1 ـ جامع الاُصول 1 : 549 ، أخرجه أبو داود والترمذيّ.
    2 ـ جامع الاُصول 10 : 551 .
    3 ـ النظام السياسيّ : 129 ، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.


(330)
ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها ، فضلاً عن ذكر نصوصها (1).
    ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل .. فلاحظ الآيات 40 إلى 60 من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟
    إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع ، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.
    إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :
    1 ـ صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.
    2 ـ استقلاله الماليّ والسياسيّ.
    3 ـ رعايته لآداب القضاء.
    4 ـ أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها ، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

1 ـ صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء
    إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو
    1 ـ وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ 5 : 326 ، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول 10 : 565.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس