مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 341 ـ 350
(341)
حقّه حرّم اللّه عليه بركة الرزق إلاّ أنّ يتوب » (1).
    وحول شروط الشهادة والشاهد جاءت روايات وأحاديث كثيرة مثلما :
    عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : « لا تشهد بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (2).
    بل واشترط الإسلام أن تكون الشهادة عن يقين وعلم كما يعرف ذلك من الأحاديث الناصّة على ذلك ومنها قوله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وقد سئل عن الشهادة : « هل ترى الشّمس؟ على مثلها فاشهد أو دع » (3).
    وعن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أيضاً لمّا سئل عمّن لا تقبل شهادته قال : « الظنّين و المتّهم ».
    فلما قيل : والفاسق والخائن؟ قال : « ذلك يدخل في الظّنين » (4).
    وقال (عليه السلام) أيضاً : « لا تجوز شهادة ولد الزّنا » (5).
    وقال (عليه السلام) : « لا تقبل شهادة شارب الخمر ولا شهادة الّلاعب بالشّطرنج والنّرد ولا شهادة المقامر ولا ذي غمز على أخيه ولا السّائل بكفّه لأنّه لا يؤمن على الشهادة وذلك لأنّه إذا أعطي رضي وإن منع سخط » (6).
    إلى غير ذلك من الروايات.

لا استئناف ولا تمييز
    هذا وحيث أنّ الإسلام يساوي بين جميع أفراد البشر ، ويسوّي بينهم أمام القانون لم يكن في القضاء الإسلاميّ أيّة امتيازات.
    1 ـ وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : الباب (20) من أبواب الشهادات الحديث (3).
    3 ـ وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
    4 ـ وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
    5 ـ وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
    6 ـ وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.


(342)
    فليس في الإسلام محاكم خاصّة بالعسكر ، واُخرى عاديّة ، واُخرى خاصّة بأصحاب الرتب العالية ، والمناصب الرفيعة.
    ثمّ بما أنّ الإسلام يشترط في تعيين القضاة شرائط معيّنة لا تتوفّر إلاّ في الصالحين العدول الأتقياء من الرجال ، لا يوجد هناك في القضاء الإسلاميّ استئناف ولا تمييز إذ على القاضي الصالح أن لا يحكم إلاّ بعد أن يحصل على الأدلّة والإثباتات الكافية للحكم فيندر لذلك وقوع الخطأ .. بل قد ينعدم أصلاً .. هذا مع العلم أنّ المبرّر لوجود الاستئناف في المحاكم الراهنة هو كثرة وقوع الخطأ في أحكامها لخلوّها عن الشرائط الدقيقة التي اعتبرها الإسلام.
    نعم إذا تبيّن لقاض آخر خطأ القاضي في حكمه جاز له نقضه والحكم بما يقتضيه الحقّ.
    قال صاحب الشرائع : « كلّ حكم قضى به الأوّل وبان للثاني فيه خطأ فإنّه ينقضه » (1).
    وقال صاحب الجواهر في شرح الشرائع : « إنّ الحكم ينقض في موردين :
    الأوّل : إذا خالف الحكم الأوّل دليلاً علميّاً لا مجال للاجتهاد فيه ، أو دليلاً أجتهاديّاً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلاّ غفلة أو نحوهما.
    الثاني : إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى وقبول حكم الحاكم الثاني ، ولا ينقض في غير ذلك » (2).
    على أنّ ما ذكرناه لايمثّل إلاّ جوهر القضاء الإسلاميّ ، والخطوط العريضة لهذه السلطة وبرامجها ووظائفها وغاياتها ، أمّا اختيار الترتيبات والأشكال التي تحقّق هذا الجوهر ، وكيفيّة الأجهزة التي تقوم بهذه المهمّة الخطيرة فمتروك لمقتضيات الحاجة والزمن.
    1 ـ شرائع الإسلام : كتاب القضاء و آدابه.
    2 ـ جواهر الكلام 4 : 79.


(343)
الفصل السادس
حول أهمّ
خصائص الحكومة الإسلاميّة
    قد تبيّن ممّا ذكرنا سلفاً لون وصيغة الحكومة الإسلاميّة وتركيبتها ، وأنّها تختلف عن سائر الحكومات الرائجة قديماً وحديثاً من ملوكيّة استبداديّة أو دستوريّة أو ديمقراطيّة ، أو غيرها من أشكال الحكومات التي سبق الإلماع إليها.
    ولا شكّ أنّ هذا الاختلاف الجوهريّ يستتبع الاختلاف في الآثار والخصائص والمعطيات; إذ ليس من المعقول أن تختلف الحكومة الإسلاميّة عن سائر الحكومات في الصيغة والجوهر ، ولا تختلف عنها في الآثار والخصائص والمعطيات.
    فللحكومة الإسلاميّة مميّزات ذاتيّة تتعلّق بجوهرها ، ووصفيّة تتعلّق بآثارها ومعطياتها.
    ولا بدّ من القول بأنّها تمتاز بخصائص يفتقر إليها أيّ نظام آخر غير نظام الحكم الإسلاميّ.
    ولمعرفة هذه الخصائص والمميّزات عقدنا الفصل التالي ، وهي ليست ـ في الحقيقة ـ إلاّ بعض الخصائص.


(344)
1
خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها
الحكومة الإسلاميّة حكومة عالميّة
    بينما كان البعض ـ في آواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ينادي بإحياء فكرة القوميّة عند الشعوب ، وكان هناك من يعمل لها ويدافع عنها بقوّة تحت أسماء وعناوين مختلفة وتبريرات متنوّعة برزت فجأة فكرة « الاُمميّة العالميّة » وراجت الفكرة القائلة بضرورة تشكيل حكومة عالميّة واحدة تتقوّى وتشتدّ في نظر المفكرين الغربيين كحلّ للتخلّص من المطاحنات والحروب والمذابح التي كان العالم يشهدها باستمرار.
    وقد ساعدت نتائج الحربين العالميتيّن الاُولى والثانية على تأكيد هذه الضرورة ، وترسيخ هذه الفكرة ، فقد أدرك اُولئك المفكّرون ومن تبعهم بأنّ الحدود والفواصل المصطنعة بين الشعوب والاُمم هي السبب الوحيد والعامل الأساسيّ لظهور الحروب والمشاحنات الدامية ، وأن لا مخلص من هذه الحروب والم آس ـ ي ـ حسب نظرهم ـ إلاّ بزوال تلك الحدود والفواصل وانضواء الجميع تحت راية حكومة واحدة.
    إنّ الحرب كانت ولا تزال أمراً جديراً بأن تخشاه البشريّة وتتجنّبه وتتقيه ، ولكن


(345)
الحربين الكونيتين الاُولى والثانية زادت من قلق الإنسان وخوفه واستيحاشه وعمّقت لديه النفرة والخشية من الحرب ، لأنّهما كانتا ـ بحقّ ـ أشدّ جميع الحروب ضراوة ووحشيّة في تاريخ البشريّة !!! وكانتا سبباً لمقتل ملايين عديدة من البشريّة الأبرياء على أيدي البشر أنفسهم ، وكانتا سبباً لإهدار ملايين الملايين من ثرواته بحيث بلغت الأضرار البشريّة في الحرب العالميّة الاُولى وحدها ما يقارب (9) ملايين قتيل و(22) مليون مُقعد ومعوّق حرب و (10) ملايين من مفقودي الأثر !!!
    وأمّا خسائر الحرب العالميّة الثانية فقد كانت ـ بحكم كونها أشدّ ضراوة ووحشيّة ـ أضخم من الاُولى بحيث قدر عدد الأرواح التي زهقت بثلاثين مليوناً فيما قاربت الخسائر الماديّة المليارد دولاراً على وجه التقريب !!!
    كلّ هذه المذابح الرهيبة والخسائر الجسيمة في الأرواح والمعدّات التي أفرزتها الحرب الاُولى ، سببّت ظهور هيئة دولية باسم « عصبة الاُمم » التي تأسّست في أعقاب تلك الحرب واتّحد فيها 26 دولة ليمنعوا ـ في ظل هذا الاتحاد والتجمّع ـ من إراقة المزيد من الدماء ، ويتمكّنوا في ظل هذه المنظمة الدوليّة من حلّ المشكلات العالميّة عن طريق المفاوضات لا الحروب ، وعن طريق المنطق المبرهن لا السلاح المدمّر ، بيد أنّ تأسيس هذه المنظمة حيث كان ناقصاً وفاقداً لبعض الاُمور والشرائط لذلك لم تستطع تجنيب العالم من شرور حرب اُخرى .. فقد تورّطت البشريّة في حرب أكثر دماراً ، وفناء هي الحرب العالميّة الثانية (1) التي أنهكت البشريّة بنيران دباباتها وقنابلها وأسلحتها الفتّاكة المدمّرة وانتهت بمذبحة عظيمة ، ومفجعة ، ورهيبة وإلى تحول سياسيّ وانقلاب فكريّ في كثير من القيم الحضاريّة والمعايير والأفكار السائدة آنذاك.
    وفي خلال الحرب الثانية ـ هذه ـ تأكّدت فكرة تأسيس منظمة عالميّة ، ومجمع دولي على اُسس أكثر واقعيّة ، وفي إطار أكثر شموليّة فبرزت ـ إلى الوجود ـ « هيئة الاُمم المتّحدة » التي وضعت نواتها في ديسمبر عام 1943 واستطاعت منذئذ أن تحول دون
    1 ـ يراجع كتاب الحرب العالمية الاُولى والثانية.

(346)
وقوع حروب عالميّة خطيرة بين الدول كما حدث في السابق.
    وقد شرحت أهداف وغايات هذه المؤسسة العالميّة الكبرى في ما يسمى بـ : ميثاق الاُمم المتحدة.
    ويعتبر تأسيس هاتين المنظّمتين العالميتين ـ في الحقيقة ـ خطوة عمليّة وإيجابيّة في سبيل تحقيق ما تمنّاه الإسلام ونادى به منذ أربعة عشر قرناً مع ما بين الأمرين من الفروق في الوسائل والأساليب والأهداف ، فقد تمنّى الإسلام منذ ذلك الزمن السحيق أن تنسى البشريّة خلافاتها ، وتضرب صفحاً كلّ الحدود والفواصل المصطنعة الموهومة بينها وتتّحد تحت لواء الأخوة والوحدة ، وتنضوي تحت حكومة واحدة تراعي مصالح الجميع وتحفظ كرامة الجميع ، وتصون أمن الجميع بلا تفرقة ولا تمييز .. وحينئذ فلا تكون مطاحنات ولا حروب ولا مشاحنات ولا م آسي ولا ويلات.
    لقد توصّل العالم إلى تأسيس منظمة الاُمم المتحدة ويتكهّن المفكّرون الكبار والسياسيّون العالميّون بأن تصبح هذه المنظمة التي هي بمثابة « برلمان عالميّ موحّد » مركزاً لحكومة عالميّة موحّدة ، وأن يتحوّل أصدقاء البشريّة من المناداة بالقوميّة ، والدعوة إليها ، إلى الوحدة العالميّة ، أو بالأحرى إلى الحكومة العالميّة الموحّدة ، التي تحقّق توحيد كلّ شعوب الأرض وتحقّق تساويهم.
    ولكن ما هو الطريق الطبيعيّ السليم إلى تحقيق هذه الاُمنيّة المحبّبة ، وهذا الأمل العالميّ المرغوب وهل يمكن أن تصل هيئة الاُمم المتحدة إلى هذا الهدف ، فهو بحث طويل ومفصل لا بدّ من إفراد مجال مستقلّ له بيد أنّ الدلائل والشواهد الراهنة والصراعات الحامية الدامية المبعثرة هنا وهناك والأحداث الأليمة المرّة التي يعاني منها العالم كلّه بل والاختلافات التي تشهدها أروقة هيئة الاُمم المتّحدة نفسها وما تعاني منه هذه المؤسّسة من تنفيذ قراراتها وتطبيق أحكامها يجعلنا نقطع بأنّ هذه الهيئة ليست قادرة على إقرار السلام والأمن والاستقرار في المستوى العالميّ ، فالوقائع تشهد بأنّ العالم يعيش الآن على كفّ عفريت ، وأنّ مبدأ توازن القوى هو الذي يكبح جماح الدول لا


(347)
منطق الفكر ومبادىء الاخوة الإنسانيّة ... ومن يدري ماذا سيحلّ بالبشريّة لو اختلّ توازن القوى ... ومن يدري ماذا ستكون أبعاد الانفجار البشع ، ومدى ويلاته وم آسيه ...
    إنّ عجز هيئة الاُمم عن تحقيق السلام والاستقرار العالميين دفع ببعض المفكّرين والاجتماعيين إلى طرح فكرة الحكومة العالميّة الواحدة التي يكون العالم بموجبها ذا تشكيلات سياسيّة واحدة ، بأن يكون للمجتمع الدوليّ برمّته :
    1 ـ سلطة تشريعيّة واحدة.
    2 ـ سلطة تنفيذيّة واحدة.
    3 ـ سلطة قضائيّة واحدة.
    وقد ذكروا لتبرير هذه الفكرة وتوجيهها بما جاء في بيانهم الذي نشروه في مؤتمرهم بطوكيو عام 1963م :
    (إنّ السلام الدائم والشامل لا يتحقق بتوقيع المواثيق وتبادل الوعود بين القادة السياسيّين فلا بدّ للحصول على السلام الواقعي والدائم والشامل من أن نتوسّل بحكومة عالميّة واحدة تعتمد على برلمان ومحاكم وجيش عالميّ موحّد ، إذ في ظلّ هذه الحكومة العالميّة الموحّدة فقط يمكن أن نحصل على الاستقرار والثبات).
    وتدعو هذه الفكرة بالتفصيل إلى إيجاد وتأسيس الاُمور التالية :
    1 ـ برلمان عالميّ; يشترك في عضويته جميع الشعوب العالميّة ، ويكون لكلّ واحد منها حقّ الرأي والعضويّة بنسبة عدد نفوسها ، فيكون للشعوب الأكثر أفراداً ، حظاً أكثر من العضويّة والرأي.
    2 ـ مجلس أمن يشترك في عضويّته عدد أكثر من الدول والأعضاء ولا يقتصر على الدول الخمس كما هو الحال في مجلس الأمن الفعليّ ، ويتولّى هذا المجلس تنفيذ مقرّرات البرلمان العالميّ المذكور ، ويكون مسؤولاً اتّجاه البرلمان.
    3 ـ جيش عالميّ; يكون في حقيقته جيش سلام ، ويكون تابعاً لإرادة مجلس الأمن


(348)
للقيام بحفظ السلام والاستقرار العالميّين.
    4 ـ مكتب عدل دوليّ يتولّى تفسير قوانين البرلمان ومقرّراته وملاحقة التخلّفات والتجاوزات ، بما لديه من محكمة دوليّة وأجهزة مختصّة.
    هذه الفكرة وما سواها ممّا يطرحها المفكّرون ، وطلاّب السلام والاستقرار في العالم ، رغم أنّها قد تبشّر بإمكان قيام مثل هذا التكتل العالميّ الواحد والحكومة الواحدة المنشودة إلاّ أنّها محكوم عليها بالفشل ـ مسبقاً ـ لأسباب عديدة أهمّها فقدان أصحاب هذه الفكر والاطروحات لحسن النوايا ، والفضائل الأخلاقيّة الإنسانيّة التي يجب توفّرها لدى أمثالهم.
    هذا مضافاً إلى عدم وجود عامل أهمّ وهو ما يضمن استقامة هذه الحكومة ـ لو فرض تحققّها ـ بحيث لا تتحوّل إلى غطاء لأهداف الدول العظمى التوسعيّة ونواياهم ومطامعهم الاستعماريّة ، وتؤول إلى ما آلت إليه عصبة الاُمم وهيئتها من قبل ، وتصبح أداة طيّعة بيد تلكم الدول لتظليل الدول الصغار وخداعها .. كما هو شأن كلّ المنظمات الفعليّة المنادية بالدفاع عن حقوق الإنسان !!
    إنّ فقدان هذه الضمانات هو أهمّ ما سبّب فشل المنظمات القديمة .. ويسبّب فشل المنظمات الاُخرى أيضاً.
    إنّ أصحاب هذه المؤسّسات والمنظمات العالميّة ما لم يطهّروا أنفسهم من حبّ الذات وعبادتها وما لم يخلصوا نواياهم من العجب والمكر ، وما لم يؤمنوا بالإنسان وحقوقه بصدق وإخلاص لم تطمئنّ إليهم الشعوب ، ولم يطمئنّ إلى منظماتهم مستضعفوا البشر.
    وهكذا الحال بالنسبة إلى أصحاب فكرة الحكومة العالميّة الواحدة والدعاة إليها.
    إنّ أصحاب هذه النظريّة ما لم يعشقوا الإنسان بإخلاص وصدق ، وما لم يحبّوا البشريّة حبّاً يلمس شغاف القلوب ، وتمسّ حرارتها عمق الضمير فلن تلق فكرتهم


(349)
قبولاً من الشعوب التي طالما جرّبت هذه الدعوات ولم تجد فيها خيراً ولا صدقاً ولا نفعاً ، إذ كيف يمكن القبول بدعوة من لا تتوفّر فيه الصفات الإنسانيّة ولا يكون كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) وهو يكتب إلى واليه على مصر : « ولا تكُن عليهم (على الرعية) سبُعاً ضارياً ، تغتنمُ أكلُهم ، فإنّهُم صنفان :
    إمّا أخ لك في الدّين
    وإمّا نظير لك في الخلق » (1).
    إنّ للإسلام ـ بما هو دين متكامل وشريعة خالدة ـ نظاماً اجتماعيّاً وسياسيّاً شاملاً يكفل كافّة الاحتياجات البشريّة ولو طبّق كما هو; لعمّ الخير الحياة كلّها ، ولسادت الاخوة كلّ بني آدم بجميع ألوانهم ، وأشكالهم ، وجنسيّاتهم وقوميّاتهم ، وتحقّق ما يسعى إليه المفكّرون المهتمّون بالسلام والاستقرار في العالم من الوحدة والألفة والاجتماع.
    إنّ أهمّ دليل يدلّ على أنّ الإسلام يسعى إلى تحقيق هذه الوحدة العالميّة هو أنّه لم يحصر دعوته على جماعة دون جماعة ، وقوميّة دون اُخرى ، بل وجّه نداءه إلى جميع البشريّة منذ البداية للأخذ به وبشرائعه بوصفها أكمل الشرائع وأفضلها إذ قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً وَنَذِيراً ) (سبأ : 28).
    وقال : ( قُلْ يَاأيُّها النَّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إليْكُمْ جَميعاً ) (الأعراف : 158).
    وقال : ( هَوَ الَّذي أَرسَلَ رَسُولَهُ بالهُدى وَدِينِ الحقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) (التوبة : 33).
    لقد وسّع النبيّ الكريم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في العام السادس والسابع من الهجرة ، نطاق دعوتهالمباركة وبدأ دعوته العالميّة بمراسلة ملوك عصره ورؤسائه في الجزيرة العربيّةوخارجها يدعوهم إلى الانضمام إلى دعوته ، والانضواء تحت راية الإسلام الحنيف
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل (53).

(350)
كافّة (1) ، وإنّ مراجعة واحدة لمجموعة الرسائل والمكاتيب النبويّة وسيرة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وسيرة أصحابه وما تحقّق من فتوحات على أيدي المسلمين تكشف عن أنّ الإسلام بدأ في صورة دعوة إلى حكومة عالميّة تعيش في ظلّها الشعوب المختلفة جنباً إلى جنب بلا فوارق ولا فواصل ودونما مطاحنات أو مشاحنات ولكن سعي الإسلام هذا كان مبتنياً على اُسس معقولة ومنطلقاً من حقائق يكون التنبيه إليها ضماناً لتحقيق ما أراده الإسلام ، ولم تكن دعوة الإسلام مجرّد ادّعاء ودعوة فارغة لا تقوم على شيء فما هي هذه الاُسس ؟

الاُسس الفكريّة للحكومة العالميّة
    إنّ الإسلام يقيم دعوته إلى حكومة عالميّة واحدة على سلسلة من الاُسس والمبادىء الفكريّة الضامنة للوحدة بين شعوب الأرض ، وهي عديدة أهمّها وأبرزها : « المساواة بين جميع أبناء البشر » فالإسلام ينبه البشر إلى أنّهم متساوون في الخلق فكلّهم من آدم و حواء وكلاهما من تراب وهم متساوون في الإنسانيّة والمشاعر البشريّة ومتساوون في المصير فكلّهم راجعون إلى اللّه تعالى وإذا كانوا كذلك فلماذا يختلفون في القوميّة ، ولماذا يتميّز بعضهم على بعض بالعنصر ، أو الأرض ، أو غير ذلك من ألوان التمييز الظالم ودواعيه الوهميّة و إلى هذا يشير قول اللّه تعالى : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَ اُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات : 13) (2).
    وقوله سبحانه : ( إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعَاً ) (المائدة : 48).
    إنّ هاتين الآيتين وماشابههما من الآيات القرآنيّة تعلن بصراحة عن وحدة أبناء
    1 ـ راجع كتابي : الوثائق السياسيّة ، ومكاتيب الرسول ، وسيوافيك قسم من هذه الكتب في الجزء الثالث من موسوعتنا هذا ، عند البحث عن كون دعوة الرسول دعوة عالميّة لاإقليميّة.
    2 ـ إنّ الملاحظ أنّ القرآن وجّه أكثر دعواته إلى الناس فقال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ولم يوجهها إلى طائفة خاصّة فلم يقل يا أيّها القريشيّون أو يا أهل مكّة ، أو يا أهل الحجاز أو أيّها البيض أو أيّها العرب.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس