مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 351 ـ 360
(351)
الإنسان مبدأ ومصيراً .. ووحدتهم أصلاً ونهاية ، وتنهي كلّ ألوان التمييز العنصريّ ، والقوميّ وكلّ دواعيه الخياليّة ، فالإسلام لا يقر الحدود والأجناس والقوميّات والعنصريّات كعوامل واُمور تسوّغ التفريق بين أبناء البشر ، وترفع جماعة وتضع اُخرى.
    وبهذا يرسي قواعد حكومة عالميّة واحدة ذات نظام إلهيّ توحيديّ واحد تدار فيها جميع المجتمعات البشريّة بمجموعة واحدة من القوانين الالهيّة المطابقة للفطرة الإنسانيّة والطبيعة البشريّة ، ويخضع العالم برمّته ـ في ظلالها ـ لا قتصاد واحد وسياسة واحدة وقضاء واحد ومحكمة واحدة ، ومعتمداً على جيش قويّ واحد .. ويستفيد جميع أبناء البشر من جميع المواهب الالهيّة الطبيعيّة بصورة متساويّة ، لا أن يحتكر بلد صغير جداً موارد طبيعيّة ضخمة وهائلة تكفي لأن يعيش بها عشرات الملايين بل ومئاتها ، بينما يرزخ كثير من الناس في البلاد الاُخرى تحت حال يرثى لها من الحرمان والبؤس والفقر المدقع ، ويعانون من الجوع والجهل ، والعري والمرض ويموت منهم كلّ يوم عشرات الآلاف بل مئات الآلاف نتيجة الفقر ، ونقصان المواد الغذائيّة ، وما شابه ذلك.
    وبذلك نعرف أنّ الدعوات القائمة ـ اليوم ـ باسم القوميّة ، والعنصريّة والطبقيّة ما هي إلاّ خطوات مضادّة لاطروحة الحكومة العالميّة الموحّدة التي سبق الإسلام إلى المناداة بها والدعوة إليها بإصرار.
    لقد شجب الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في خطابه التاريخيّ عند عودته من حجّة الوداع ، كلّ ألوان التمييز والتفرقة بين أبناء البشر وقال : « لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأعجميّ على عربيّ إلاّ بالتّقوى » (1).
    وقال : « كلّكم من آدم وآدم من تراب » (2).
    وقال : « أيّها الناس أنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا انّكم من آدم وآدم من طين » (3).
    1 ـ تحف العقول : 34 ، وسيرة ابن هشام 2 : 414.
    2 ـ تحف العقول : 34 ، وسيرة ابن هشام 2 : 414.
    3 ـ سيرة ابن هشام 2 : 412.


(352)
    وقال : « ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثّل أسنان المشط لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (1).
    وقال : « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقيٌّ كريم على اللّه ، أو فاجر شقيٌّ هينٌّ على اللّه ».
    وقال : « ألا أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه » (2).
    وقال : « ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام ، إنّما هم فحم من فحم جهنّم. أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بانفها النتن » (3).
    وقال عليّ (عليه السلام) : « أصل الإنسان لبُّه و عقله و دينه ومروّته حيث يجعل نفسه ، والأيام دول والنّاس إلى آدم شرع سواء » (4).
    إنّ مثل هذا الموقف الإنسانيّ الصحيح من البشريّة يمكن أن يكون قاعدة فكريّة أساسيّة لتشكيل حكومة عالميّة موحّدة تقضي على كلّ ألوان الصراع والتشاحن ، وتزيل أسباب الحروب الدامية ، وينعم في ظلالها جميع البشريّة بالسعادة والعزّة والاستقرار والثبات ، ويستفيد فيها الجميع من النعم الإلهيّة والمواهب الطبيعيّة على قدم المساواة ، دونما تفضيل أو تمييز ، ودونما إجحاف أو ظلم.
    قال عليّ (عليه السلام) : « أفضل النّاس ـ أيُّها النّاس ـ عند اللّه منزلةً وأعظمهم عند اللّه خطراً أطوعهم لأمر اللّه وأعلمهم بطاعة اللّه ، واتبعهم لسنّة رسول اللّه وأحياهم لكتاب اللّه ، فليس لأحد من خلق اللّه عندنا فضل إلاّ بطاعة اللّه وطاعة رسوله واتباع كتابه وسنّة نبيّه ، وهذا كتاب اللّه بين أظهرنا وعهد نبيّه وسيرته فينا لا يجهلها إلاّ جاهل مخالف معاند عن اللّه عزّ وجلّ يقول اللّه : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَ اُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) (ا لحجرات : 13) فمن اتقى اللّه فهو الشريف المكرم المحبُّ كذلك أهل طاعته وطاعة رسوله » (5).
    1 ـ الفقيه 2 : 27 باختلاف يسير ، والكافي 2 : 246.
    2 ـ سنن أبي داود 2 : 625.
    3 ـ سنن أبي داود 2 : 624.
    4 ـ أمالي الصدوق : المجلس 42.
    5 ـ تحف العقول : 183.


(353)
2
خصائص الحكومة الإسلامية ومميّزاتها
الإيمان ملاك تكوّن الاُمّة الإسلاميّة
( إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92).

بماذا تتكون الاُمّة ويتحقّق مفهومها :
    إنّ أوّل مسألة تطرح نفسها عند الحديث عن الحكومة الإسلاميّة ، هو السؤال عمّا به تتكوّن الاُمّة الإسلاميّة ، وما يكون ملاكاً لأن يكون الفرد بسببه جزءاً من هذه الاُمّة أو لا يكون ، وبالأحرى ، ما هي العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة وتستحقّ بها إطلاق عنوان الاُمّة عليها ، فإنّ الملاك الذي يجعل الفرد جزءاً من الاُمّة الإسلاميّة أو يخرجه عنها هو الذي يكون موضوعاً للحقوق ، ومناطاً لها وهو الذي يقرّر ما له وما عليه في إطار الاُمّة الإسلاميّة التي ينتمي إليها بسبب ذلك الملاك.
    إنّ الملاك الذي يحقّق مفهوم الاُمّة وبموجبه يقوّم كيانها هو الذي يحدّد نوع


(354)
العلاقات بين أفراد الاُمّة الواحدة أنفسهم ونوع العلاقات بينهم وبين الخارجين عن إطار هذه الاُمّة : فما هو إذن ذلك الملاك (الملاك) الذي يحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة ويصنع حقيقتها ويستتبع حقوقاً وواجبات خاصّة .. وما هي الرابطة التي تجعل الفرد جزءاً من هذه الاُمّة أو تخرجه من إطارها ، ويفترض وجودها نمطاً واحداً من المقرّرات ؟

مكوّنات الاُمّة عند الحقوقيّين
    إنّ العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة وتكوّن واقعها الخارجيّ ـ في نظر الحقوقيّين ـ وتميّز جماعة عن اُخرى هي عبارة عن وحدة أفراد تلك الجماعة في إحدى هذه الاُمور أو جميعها :
    1 ـ الأرض.
    2 ـ الدم والعنصر (أو الجنس والأصل).
    3 ـ اللغة.
    4 ـ التاريخ.
    5 ـ المصلحة المشتركة (1).
    فهذه العناصر كلّها أو بعضها إذا توفّرت لدى جماعة ، كانوا بذلك (اُمّة) خاصّة تختلف عن الاُمم الاُخرى ، وقد بنى دعاة القوميّة أساس دعوتهم على هذه الوحدات ، وميّزوا بها شعوبهم عن غيرها.
    ولكنّ هذه العناصر ، التي اعتبرها بعض الحقوقيّين ملاكات لتحقيق مفهوم الاُمّة ووجودها ، وإن كان لها بعض التأثير في تمييز جماعة بشريّة عن اُخرى إلاّ أنّها لا يمكن أن تكون صانعة لمفهوم الاُمّة ، وواقعها الخارجيّ. لأنّها عناصر خارجة عن إرادة الإنسان وحدود اختياره. ومن المعلوم أنّ الاجتماع الحاصل عن ملاكات خارجة عن إطار الاختيار والإرادة لا تشكّل اجتماعاً حقيقيّاً يستحقّ صفة الاُمّة.
    1 ـ راجع الاُمّة والعوامل المكوّنة لها لمحمّد المبارك.

(355)
    إنّ هذه العناصر وإن كانت تجمع جماعة من الناس ، فإنّ هناك اُموراً اختياريّة تفرّقهم ، وتبدّل هذا الاجتماع إلى الفرقة فلا تتحقّق ـ عندئذ ـ الاُمّة التي تعني وحدة الجماعة على اُسس جامعة لا تقبل تفكّكاً ولا تنالها أيدي التمزيق.
    إنّ (الاُمّة) هي الجماعة التي يلتقي أفرادها على رابطة جامعة حقيقيّة وهي لا تكوّن إلاّ ما يشترك فيه الأفراد اشتراكاً اختيارياً اراديّاً ، ويكون قادراً على جمعهم حول محور واحد ، ودفعهم في مسير واحد بحيث يحسّ البعض باحساس الآخر ويتألم لتألمّه ، ويطلب للغير ما يطلبه لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه وهذا لا يحصل بالاتّحاد في المولد أو الاشتراك في الدم أو اللغة أو التاريخ وهم لا يشتركون في تلك الرابطة الجامعة الحقيقيّة.
    وبتعبير آخر : انّ المجتمع الذي ينطوي على تباين في الاُسس الفكريّة ، واختلاف في الاتجاهات المسلكيّة ، وتنوّع في الآمال والمطاليب كيف يمكن أن يجتمع أفراده في وحدة متماسكة ، وتكون مجموعة بشريّة خاصّة تستحقّ إطلاق صفة الاُمّة عليها ؟
    لاشكّ أنّ مثل هذه الاُمّة المختلفة في آرائها ، وأهوائها تؤول ـ لا محالة ـ إلى التفرّق ، وينتهي آخر أمرها إلى التفكّك إذ لا جامع حقيقيّ يجمعهم ، ولا رابط واقعي يربط بينهم.
    إنّ مجرد الاتحاد والوحدة في الاُمور الخارجة عن الاختيار والإرادة كالملاكات التي ذكرها بعض الحقوقيّين لتكوّن مفهوم الاُمّة مع وجود الاختلاف والتباين في الآراء والأهواء ، وفي النظريّات والعقائد التي يقدسها الأفراد ويعتبرونها أعزّ الأشياء ويضحّون في سبيلها بالغالي والرخيص ، لا يجدي نفعاً في تشكيل الاُمّة الواحدة ، وتكوين الجماعة المتميّزة عن غيرها إلى درجة تستحقّ إطلاق الاُمّة عليها.
    لنفترض مواطنين ولدا على أرض واحدة أو يعيشان عليها ، وينتميان إلى عرق واحد ، ويشتركان في اللغة والتاريخ ، ولكنّهما يختلفان في العقيدة والمسلك فيعتقد أحدهما بأصالة الفرد ، ويرى إعطاءه الحريّة المطلقة في كلّ المجالات ، بحجّة أنّ ما هو


(356)
الموجود والمؤثّر حقيقة هو الفرد وليس للمجتمع حقيقة وراء الأفراد .. فلا بدّ أن تضمن مصالح الفرد فقط ويجوز للفرد بسبب ذلك أن يفعل ما يريد لتحقيق غاياته الماديّة فيشعل نيران الحروب لكي يبيع على المتحاربين أسلحته ومعداته ، وقع ما وقع من الم آسي والويلات !!.
    بينما يعتقد المواطن الآخر نقيض هذا الرأي فيرى بحكم اعتقاده بأصالة المجتمع إعطاء الأولويّة للمجتمع ومصالحه ومسائله باعتبار أنّ بقاء الفرد ببقاء المجتمع فلا بدّ أن يخضع الفرد للمجتمع خضوعاً كاملاً ويضحّي بكلّ مصالحه في سبيل مصالح المجتمع ، فلا يأخذ من نتاج يده إلاّ ما يسدّ رمقه .. لينتعش المجتمع ، وتأمن مصالحه.
    لنفترض هذين المواطنين المختلفين في الرأي والمسلك ، هل يمكن أن توحّدهم رابطة الدم أو التاريخ أو اللغة أو الميلاد على أرض واحدة ؟
    وهل يكمن أن يتكوّن منهما ـ والحال هذه ـ اُمّة ذات طابع خاصّ ، ووحدة متميّزة ، وضمير واحد وإحساس واحد وعلاقة واحدة.
    إنّ العناصر التي ذكرها الحقوقيّون وإن كان لها تأثير ما في تجميع الأفراد على صعيد واحد ، إلاّ أنّها ما لم تنضم إليها العوامل الإراديّة الاختياريّة لا يؤول توفّرها في جماعة إلى تكوّن الاُمّة بحقيقتها وجوهرها. فإنّ هذه العناصر ما لم تنضمّ إلى عامل الوحدة العقائديّة الاختياريّ ، الذي بإمكانه أن يهدم فقدانه أيّة وحدة ناشئة من الدم أو اللغة أو التاريخ أو الأرض ، لا تحقّق (الاُمّة) ولو تحقّقت لا تتجاوز حقيقتها عن اجتماع الأبدان مع التفرّق في الأهواء.
    من هنا لا يكون ما جاء في البند الأوّل من وثيقة حقوق الإنسان من أنّ (أبناء الإنسان إخوة من دون أي تمييز حتّى في الدين) وجيهاً فكيف يكون رجلان إخوة وبينهما غاية التباعد والتباين في المسلك والفكر ، أم كيف يمكن أن تحصل الاُخوّة والحال هذه؟
    إنّ وحدة الأفراد وتحقيق مفهوم الاُمّة الواحدة رهن بأن يكون الأفراد مختارين في انتخاب (شركاء) حياتهم ، ومن يتّحدون معه وهو أمر لا يحصل إلاّ إذا كان بين


(357)
الشريكين وحدة الفكر ، فماذا تجدي وحدة الأرض أو اللغة وفي مقدور (الاختلاف الفكريّ) أن ينسف تلك الوحدة الناشئة من الأرض أو اللغة في أي لحظة من اللحظات؟ ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يقيّم الاخّوة على أساس الإيمان فيصف المؤمنين بالإخوة قائلاً : ( إنَّمَا المؤْمِنُونَ إخْوَةٌ ) (الحجرات : 10).
    فاتّحاد الفكر والإيمان وحده هو القادر على جمع الأفراد ، لا وحدة الأرض مع اختلاف الرأي ، ولا وحدة اللغة مع اختلاف العقيدة ولا وحدة الدم مع اختلاف الاتّجاه.
    فقد نقل أنّه كان أوّل من طرح فكرة بناء الاُمّة على العناصر والروابط المذكورة الخارجة عن نطاق الاختيار هو « جوبينو » حيث طرح وحدة العنصر أساساً للقوميّة الواحدة وجعل الاتحاد في العنصر مقوّماً من مقوّمات الاُمّة الواحدة ذات الصفة الخاصّة ، ولقد صارت هذه النظريّة أساساً للسياسات الخشنة التي تبنّاها موسوليني وهتلر ، وكانت أبرز عامل لوقوع الحرب العالميّة الاُوّلى التي جرّت على البشريّة أسوء الويلات.

المِلاك الإسلاميّ للاُمّة
    ولكنّ الإسلام يجعل العامل المكوّن للاُمّة والذي يترتّب عليه التعامل والتعايش الخاصّ شيئاً آخر هو الوحدة في الإيمان ، فإنّ وحدة الناس في العقيدة والإيمان (وهو أمر اختياريّ وله كلّ التأثير في الحياة الاجتماعيّة) هي التي تصلح أن تكون أساس اجتماع الناس واتفاقهم بحيث يصحّ إطلاق وصف الاُمّة عليهم .. كما أنّ عدمها يوجب تفرّقهم وبطلان وصف الاُمّة في شأنهم.
    إنّ لفظة الاُمّة تنطوي على وحدة الهدف الذي يقصد ، والغاية التي تؤم (1) ولاريب أنّ وحدة الأيديولوجيّة والعقيدة هي التي تجعل الجماعة المعتنقة لتلك العقيدة ذات هدف واحد ، وغاية واحدة ومقصد واحد .. ولذلك فهي أجدر من غيرها (من العناصر
    1 ـ خصوصاً إذا جعلنا الاُمّة مأخوذة من أمّ بمعنى قصد.

(358)
المذكورة لتكوّن الاُمّة) على تكوين مفهوم الاُمّة ، وحقيقتها على الصعيد الخارجيّ.
    وإلى هذا يشير القرآن ويرى أنّ الملاك الجامع بين أفراد المجتمع ، الصانع منهم اُمّة واحدة ليس هو إلاّ وحدة الإيمان باللّه إذ قال :
    أ ـ ( إِنَّمَا المؤْمِنُونَ إخْوَةٌ ) (الحجرات : 10).
    ب ـ ( إِنَّ هذهِ اُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92).
    ج ـ ( وَإِنَّ هذِهِ اُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتَّقُونِ ) (1) (المؤمنون : 52).
    د ـ ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بالمعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنْكَرِ وَتؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (آل عمران : 110).
    ه ـ ( فإِنْ تَابُوا وَأَقامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ ) (التوبة : 11).
    إنّ الناظر إلى هذه الآيات القرآنية الكريمة يلاحظ أنّ اللّه سبحانه جعل الاُمّة الإسلاميّة موضع خطابه بما هم مؤمنين وجعل ملاك الاخوة والاجتماع هو الإيمان ، ووحدة العقيدة. وقد صرّحت الأحاديث المرويّة عن النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بهذا الموضوع في أكثر من موضع ، حتّى أنّ الأمر قد أصبح من أوضح الواضحات فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلاّ بالتقوى » (2).
    1 ـ من الجدير بالذكر أنّ الآية 92 من سورة الأنبياء خطاب للمسلمين ، بينما الآية 52 من سورة المؤمنون خطاب للرسل واُممهم ممّا يعني أنّ الملاك الإسلاميّ القرآنيّ المعتبر لتكوّن الاُمّة هو الإيمان ووحدة العقيدة ، لم يكن بالنسبة للاُمّة الإسلاميّة فقط بل كان بالنسبة لاُمم الرسل السابقين على النبيّ الأكرم والاُمّة الإسلاميّة أيضاً وإليك الآية :
( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنْ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحَاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيْمٌ * وإِنَّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَّا رَبُّكُُّمْ فَاتَّقُونِ ).
    2 ـ تحف العقول : 30 من خطبة الوداع.


(359)
وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أيضاً : « أيّها الناس أنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا أنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه.
    أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصّر به عمله لم يبلغه حسبه » (1).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في خطبة حجة الوداع : « اسمعوا قولي واعقلوه تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم ، وأنّ المسلمين إخوة » (2).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » (3).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبيّنا وشهد شهادتنا دخل في ديننا وأجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام ليس لأحد فضل على أحد إلاّ بالتقوى.
    ألا إنّ للمتقين عند اللّه أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمثاب » (4).
    وورد عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قوله : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم [ وتوادّهم ] بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر » (5).
    وقال الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) : « المسلم أخو المسلم وحقُّ
    1 ـ الكافي 8 : 246 ، ومشكاة الأنوار للطبرسيّ : 59.
    2 ـ الأموال : 268.
    3 ـ السيرة النبويّة لابن هشام 4 : 604.
    4 ـ بحار الأنوار 15 : 182 ونقل أيضاً هكذا :
    قال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إنّ اللّه تعالى جعل الإسلام دينه وجعل كلمة الإخلاص حسنا له فمن استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا ، وأحلّ ذبيحتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا » نوادر الراونديّ : 21 ، وبحار الأنوار 68 : 288 ، وراجع الخراج لأبي يوسف : 141.
    5 ـ سفينة البحار 1 : مادة أخ ، ونقله أيضاً البخاريّ ومسلم حيث نقلاه بصيغة مماثلة : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى » راجع التاج 5 : 17 ورواه أحمد بن حنبل في 4 : 7.


(360)
المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه ولا يروى ويعطش أخوه ، ولا يكتسي ويعرى أخوه فما أعظم حقُّ المسلم على أخيه المسلم » (1).
    وقال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « المسلمون [ إخوة ] تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويردُّ عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم » (2).
    ولم يقتصر الإسلام على اعتبار الإيمان ملاكاً للانخراط في سلك الاُمّة الإسلاميّة ، بل نفى كلّ ما سوى ذلك من العناصر التي ربّما يتمسّك بها الناس للتفريق بين جماعة واُخرى كاللون أو اللغة أو ما شابه ذلك.
    وقد قام النبيّ الأكرم باتخاذ هذا الموقف عمليّاً في عدة قصص; منها قصة جويبر فإنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه فقال له : « يا جُويبر لو تزوجت امرأةً فعففت بها فرجك وأعانتك على دُنياك وآخرتك »
    قال جويبر : ـ يا رسول بأبي أنت واُمّي من يرغب فيّ ، فواللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال فأيّة امرأة ترغب فيّ ؟
    فقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا جويبر إنّ اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها فالناس اليوم كلُّهم ، أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإنّ آدم خلقه اللّه من طين وإنّ أحبّ النّاس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له ، وأتقاهم وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لمن كان أتقى للّه منك وأطوع » ثمّ قال له : « انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنّه من أشرف بني بياضة [ قبيلة من الأنصار ] حسباً فيهم فقل له : إنّي رسول رسول اللّه إليك وهو يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك
    1 ـ سفينة البحار 1 : مادة أخ.
    2 ـ المجازات النبويّة للشريف الرضيّ : 17 ، وأخرجه أبو داود وابن ماجة مع فارق بسيط جداً ووسائل الشيعة 19 : 55.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس