مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 361 ـ 370
(361)
الذّلفاء ».
    فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده ، فاستأذن فأعلم فاذن له فدخل وسلم عليه ثمّ قال : يا زياد بن لبيد انّي رسول رسول اللّه إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرّها إليك ؟
    فقال له زياد : بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.
    فقال له جويبر : إنّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.
    فقال له زياد : أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا ؟
    فقال له : نعم ما كنت لأكذب على رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    فقال له زياد : إنّا لا نزوّج فتياتنا إلاّ أكفّائنا من الأنصار ، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فاخبره بعذري ، فانصرف جويبر وهو يقول : واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها فأرسلت إلى أبيها : ادخل إليّ ، فدخل إليها ، فقال ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً ؟
    فقال لها : ذكر لي أنّ رسول اللّه أرسله ، وقال : يقول لك رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.
    فقالت له : واللّه ما كان جويبراً ليكذب على رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بحضرته فابعث الآن رسولاً يرّد عليك جويبراً.
    فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد : يا جويبر مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.
    ثمّ انطق زياد إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقال له بأبي أنت واُميّ إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال : إنّ رسول اللّه يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء ، فلم ألن له بالقول ، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلا أكفّاءنا من الأنصار.
    فقال له رسول اللّه : « يا زياد ! جويبر مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة ، والمسلم كفؤ


(362)
للمُسلمة فزوّجهُ يا زياد ولا ترغب عنهُ ».
    فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقالت له : إنّك عصيت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وكفرت فزوّج جويبراً.
    فخرج زياد ، فأخذ بيد جويبر ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة اللّه وسنّة رسولهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وضمن صداقه (1).
    وروي أنّه جاء قيس بن مطاطيه [ وهو رجل منافق ] إلى حلقة فيها سلمان الفارسيّ وصهيب الروميّ وبلال الحبشيّ فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ؟
    وهو يقصد بالرجل النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ويقصد من مجموع كلامه أنّ الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنّه من قومه .. فما الذي يدعو الفارسيّ والروميّ والحبشيّ إلى أن ينصروه.
    فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثمّ أتى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فأخبره بمقالته ، فقام النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مغضباً يجرّ رداءه حتّى أتى المسجد ثمّ نودي : أنّ الصلاة جماعة وقالصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا أيُّها النّاس إنّ الربّ واحد والأب واحد وإنّ الدين واحد ، وليست العربيّة لأحدكم بأب ، ولا اُمّ ، وإنّما هي اللسان ، فمن تكلّم بالعربيّ فهو عربيٌّ ».
    فقام معاذ ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول اللّه ؟ قال : « دعهُ إلى النّار » فكان قيس ممّن ارتدّ في الرّدّة فقتل (2).
    وقد خطب الإمام عليّ بن أبي طالب وقال : « أيُّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً ، وإنّ النّاس كلُّهم أحرار و لكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً فمن كان له بلاء فصبر في الخير ، فلا يمنُّ به على اللّه عزّ وجلّ.
    ألا وقد حضر شيء ونحن مسّووُن فيه بين الأسود والأحمر ».
    1 ـ الكافي 5 : 340 ـ 342 والقصة مفصّلة وجديرة بالمطالعة.
    2 ـ تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا 11 : 258 ـ 259.


(363)
    فقال مروان لطلحة والزبير : ما أراد بهذا غيركما.
    قال الراوي فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير ، وجاء ـ بعد ـ غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصار : يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس ، تجعلنا وايّاه سواء ؟ فقال : « إنّي نظرتُ في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً ، إنّي لا أرى في هذا الفيء فضيلةً لبني إسماعيل على غيرهم » (1).
    وروي أنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه ، ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له : يا ابن رسول اللّه أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو أحوج إليك فقال (عليه السلام) : « عبد من عبيد اللّه ، وأخ في كتاب اللّه ، وجار في بلاد اللّه يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم (عليه السلام) وأفضل الأديان الإسلام » (2).
    هكذا نجد الإسلام على لسان نبيّه وأئمّته (عليهم السلام) يجعل الإيمان هو الرابطة الجامعة بين أفراد المسلمين والملاك الوحيد المكوّن للاُمّة الإسلاميّة دون سواه فيما ينفي كلّ ملاك آخر لكونه ملاكاً مزيّفاً وفرقاً غير فارق.
    وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : « لمّا ولي عليٌّ (عليه السلام) صعد على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال :
    أمّا إنّي واللّه ما أرزأكم من فيئكم هذه درهماً ما قام بي عذق بيثرب فلتصدّقكم أنفسكم ، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ، قال : فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال : فتجعلني وأسود في المدينة سواء ، فقال : اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو تقوى » (3).
    1 ـ الكافي 8 : 69.
    2 ـ تحف العقول : 305 (طبعة بيروت ) و : 413 (طبعة طهران).
    3 ـ وسائل الشيعة 11 : كتاب الجهاد (باب 39) نقلاً عن الكافي.


(364)
    ولعل من الجدير هنا أنّ نورد ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّ في هذا الصدد تحت عنوان : حدود الدولة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو المصطنعة :
    (لقد ألغى الإسلام فكرة الإنشعابات القوميّة ، ورفض أن يكون لها أثرها في تكوّن الاُمّة ، تلك الإنشعابات التي عاملها الأصليّ الحياة البدويّة والمعيشة القبائليّة العشائريّة أو اختلاف الوطن .. وهما أمران يجرّان ورائهما الاختلاف في الألسن والألوان ونشوء القبائل ، والشعوب ، ثم صارا سبباً لأن تحوز كلّ جماعة قطعة من الأرض وتخصّصها لنفسها ، وتسمّيها وطناً يألفونه ويذبّون عنه.
    وهذا وإن كان أمراً ساقهم إليه الحوائج الطبيعيّة التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّية تنافي ما يست ـ دعيه أص ـ ل الف ـ طرة الإنس ـ انيّة ، فإنّ الطبيعة تدع ـ و ـ بالضرورة ـ إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألفها وتقوّيها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غاياتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح.
    والانشعابات بحسب الأوطان (أو الألوان أو اللغات) تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الاُخرى ذات الأوطان الاُخرى فتصير جماعة واحدة منفصلة الجسم والروح عن المجتمعات الاُخرى ، فتنعزل الإنسانيّة عن التوحيد المطلوب والتجمّع المنشود وتصاب بالتفرّق والتشتّت الذي كانت تفرّ منه ، كما ويترتّب على ذلك أن يعامل هذا الجزء البشريّ بقية الأجزاء البشريّة الاُخرى كما يعامل الإنسان سائر الأشياء الكونيّة ، أي على أساس الاستثمار والاستخدام لا على أساس التعاون والتعايش والمعاشرة الإسلاميّة المطلوبة.
    وهذا هو السبب في إلغاء الإسلام للإنشعابات القوميّة والتميّزات الأرضيّة وبناء الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة والقوميّة والوطن ونحو ذلك ، حتّى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في العقيدة لا في المنزل والوطن مثلاً) (1).
    1 ـ تفسير الميزان 4 : 200 بتصرّف بسيط.

(365)
    إنّ رابطة الإيمان لا تجمع الأفراد الحاضرين الأحياء فقط ، وتشكّل منهم اُمّة واحدة متعاطفة متحابّة ، بل تجعل المؤمن يشعر بالاخوّة والعلاقة والرابطة حتّى بالنسبة إلى كلّ الذين سبقوه ، وتطهّر قلبه من أيّة ضغينة أو غلّ تجاههم كما يقول القرآن. ( وَالَّذينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لإخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيْمٌ ) (الحشر : 10).
    إنّ البحث حول الإشكالات الواردة على العناصر المكوّنة للاُمّة في نظر الحقوقيّين موكول إلى موضع آخر ، ونحن هنا نكتفي ببيان العنصر المعقول الصحيح الذي يبني عليه الإسلام مفهوم الاُمّة ويحقّق وجودها الخارجيّ الحقيقيّ وهو رابطة الإيمان ، ووحدة العقيدة.
    إنّ الإيمان هو الملاك الطبيعيّ لتكوّن الاُمّة في نظر الإسلام ، فهو الذي تترتّب عليه الحقوق ، وتبتني عليه علاقات الفرد المؤمن مع الفرد الآخر في الاُمّة الإسلاميّة ، وعلاقات الاُمّة مع غيرها من الطوائف والاُمم الاُخرى.
    إنّ التجارب التاريخيّة المسلّمة ، والوقائع المحسوسة أثبتت أنّ رابطة الإيمان أقدر من غيرها على تجميع الأفراد وتكوين الاُمّة الواحدة منهم ، وتوجيههم وجهة واحدة ودفعهم إلى حماية أنفسهم وكيانهم وبثّ روح التعاطف والتراحم والتواصل بينهم ، وإخراجهم اُمّة واحدة متماسكة بينما أثبتت التجارب والوقائع فشل الملاكات والعناصر التي ذكرها الحقوقيّون ، لتكوين مفهوم الاُمّة فضلاً عن تحقيق حقيقتها ووجودها على الصعيد الخارجيّ ، لأنّها عجزت عن إيجاد أيّة وحدة حقيقيّة وأيّ تعاطف حقيقيّ وأيّ تلاحم وتراحم ، وتعاون وتعايش ووئام وانسجام بين الأفراد.
    إنّ التجربة الماضية والحاضرة برهنت على عجز (العامل القوميّ) المرتكز على وحدة الأرض أو الدم أو اللغة ، أو التاريخ ، عن إثارة همم الأشخاص وعزائمهم ، ودفعهم إلى أن يفكروا معاً في مسيرهم ومصيرهم ويتعاونوا فيما بينهم كما يتعاون أعضاء العائلة الواحدة ، بينما برهنت التجربة قديماً وحديثاً على أنّ الرابطة العقيديّة في الإسلام


(366)
كانت سبباً للتضحيات الجسيمة وتغاضي الأفراد عن مصالحهم بل وحياتهم في سبيل إسعاد الجماعة.
    وهذا كلّه يدلّ على أنّ الملاك الوحيد القادر على صنع الاُمّة وتكوينها بحقيقتها وجوهرها هو الإيمان ووحدة العقيدة دون سواه ، بل وإنّ الأدلّة والوثائق الموجودة تدلّ على أنّ « القوميّة » كانت إحدى الأسلحة والوسائل الاستعماريّة لتفتيت وحدة الاُمّة الإسلاميّة وشقّ عصا المسلمين حيث فرّقوا الاُمّة الواحدة إلى قوميّة عربيّة وتركيّة وفارسيّة و كرديّة ، في حين كان العدو الإسرائيليّ يجمع أبناءه وأعضاءه تحت لواء الدين دون أن يفرّق بينهم بالنعرات القوميّة والدعوات الجنسيّة فجمع من أنحاء العالم كلّ من انتمى إلى الدين اليهوديّ دون النظر إلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وشكّل بذلك قوّة كبيرة عبّأها ضد العرب ، بينما راح العرب يطرحون القضيّة من وجهة قوميّة فابعدوا المسلمين عن أنفسهم وخسروا بذلك قوّة عظمى في الحرب والمواجهة مع إسرائيل.
    هذا بالإضافة إلى أنّ القوميّة أخّرت الاُمّة الإسلاميّة في كلّ المجالات لأنّها قتلت الكفاءات وأهدرت الطاقات في نزاعات جانبيّة وتخلّفت بذلك عن التقدم والرقيّ واللحاق بركب الحضارة (1).
    1 ـ راجع كتاب حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

(367)
3
خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها
المساواة أمام القان (1)
    « النّاسُ أمامُ الحقّ سواء » (حديث نبويّ)
    تتميّز الحكومة الإسلاميّة عن غيرها من الحكومات بأنّها لا تفرّق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانيين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقيّة ، والجزائيّة فلا تفرّق بين الغنيّ والفقير والراعي والرعيّة ، والحضريّ والقرويّ ، بل والبرّ والفاجر ، على العكس من الحكومات الاُخرى التي تعامل رعاياها على أساس من التمييز والتفريق الشديد أو الخفيف.
    وتعود هذه الخصيصة في الحكومة الإسلاميّة إلى طبيعة الدين الإسلاميّ أساساً
    1 ـ فيما كان هذا المقطع من كتابنا يهيّأ للطباعة (صبيحة 18 / محرم / 1402 هـ) ـ الطبعة الاُولى ـ فجع العالم الإسلاميّ بفقدان علم من أعلام الفقه والفكر هو آية الله العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيّ (قدّس سره) ذلك الرجل الذي كان ينطوي على كنوز عظيمة من العلم والمعنويّة ، والذي قام ـ طوال ثمانين سنة من عمره المبارك ـ بأعظم الخدمات إلى العالم الإسلاميّ حيث أسّس منهج (تفسير القرآن بالقرآن) متمثّلاً في تفسير الميزان وأشاع اُسلوب التفكّر الإسلاميّ على أساس التعقّل والكتاب والسنّة.
    ونحن إذ نعزّي العالم الإسلاميّ بهذه الفاجعة نهيب بالمسلمين أن يهتمّوا بما تركه هذا الرجل العظيم من تراث فكريّ غنيّ.


(368)
فإنّ الإسلام يتميّز ـ عن المباديء الوضعيّة ـ بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر ، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والسياسيّة ، وانتماءاتهم العشائريّة وتعود هذه التسوية الإسلاميّة إلى أمرين أساسيين :
    أوّلاً ـ اعتقاد الإسلام بوحدة بني الإنسان جميعاً ، في المنشأ والعنصر ، فماداموا جميعاً بشراً من آدم وحواء وهما من تراب وطين.
    وماداموا يشتركون في المشاعر والأحاسيس والحاجات والآمال والألام فكلّهم عباد اللّه تعالى على السواء وكلّهم مخلوقون له بدون استثناء ، فلماذا التمييز بين راعيهم ورعيّتهم وغنيّهم وفقيرهم ؟
    إنّ الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن ـ في نظر الإسلام ـ أن يكون عاملاً موجباً لتفضيل بعض على بعض ، وإخضاع بعض للقانون دون آخر.
    ثانيا ـ لأنّ التمييز في الأخذ بالقانون وتطبيقه والخضوع له ، وجعل طائفة من الناس فوق القانون ، واُخرى محكومة به ممّا يوهن موضع القانون ، ويقلّل من مهابته ، فينتفي الغرض المهم منه ، وهو تنظيم سلك المجتمع ، وإصلاح وضعه وتنسيق شؤونه.
    إنّ مكانة القانون ومهابته تظلّ محفوظة ومصانة ، ما دام يكون موضع الاعتراف والاحترام من الجميع فلا خارج عنه ، ولا مترفّع عليه ، ولا ناقض لأحكامه. ولو سمح الإسلام لأحد أن يخرج عن القانون ويجعل نفسه فوق أحكامه لعاد نقض القانون فخراً. وفي ذلك ما فيه من ضياع النظام وسقوطه ، وانعدام تأثيره.
    ولأجل ذلك مضى الإسلام يكافح ـ بدون هوادة وبكلّ قوّة ـ أيّ نقض للقانون حتّى في أبسط الصور مثل أن يكون لجماعة خاصّة محكمة خاصّة بهم نظراً لمكانتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بينما يكون لعامّة الناس محكمة اُخرى لأنّهم الطبقة الدنيا من المجتمع ، وإن كانت الأحكام السائدة في جميع هذه المحاكم المختلفة ، نوعاً واحداً.
    إنّ الخضوع والتسليم لهذا الأصل الإسلاميّ في التسوية بين جميع أفراد الاُمّة ، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء بلغ إلى حدّ أدّى بأن يعتبر الدين الإسلاميّ ،


(369)
الانقياد للقانون والتسليم له ، من شرائط تحقّق الإيمان وصدق ادّعائه إذ قال سبحانه :
     ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء : 65).
    ومن المعلوم أنّ المراد بتسليمهم للنبيّ هو التسليم لأحكامه والقوانين التي جاء بها والشرع الذي صدع به ، وهو يعني عدم التمييز.
    ولقد ذمّ اللّه سبحانه شرذمة من الناس يخضعون للقانون ويذعنون له ما دام يحقّق مصالحهم وينسجم مع رغباتهم فإذا وجدوه خلاف ذلك نبذوه وخالفوه وأعرضوا عنه ، يقول القرآن عن هؤلاء : ( وَإذَا دُعُوا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَينَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأتُوا إليْهِ مُذعِنينَ ) (النور : 48 ـ 49).
    وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْف فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا والآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) (الحج : 11).
    ولهذا وصف اللّه سبحانه (النسيء) بأنّه زيادة في الكفر وكان النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر .. وهو أمر كانت تفعله الجاهليّة فتؤخّر حرمة شهر المحرّم ـ إذا أهلّ وهم في القتال ـ إلى شهر صفر ، وقد كان سدنة الكعبة يرتكبون ذلك لقاء ثمن قليل يأخذونه من المعتدين والراغبين في القتال والعدوان في الأشهر الحرم فقال سبحانه : ( إنَّما النَّسِيءُ زِيَادةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامَاً وَيُحَرِّمُونَهُ عَامَاً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ) (التوبة : 37).
    كما ذمّ اللّه سبحانه أحبار اليهود على تحريفهم الكتاب جلباً لرضا الناس ولقاء أجر بخس حيث قال سبحانه عنهم : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) (النساء : 46).
    وقال تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ


(370)
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (البقرة : 79).
    وقال تعالى : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيْثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة مِنْهُمْ ) (المائدة : 13).
    ولقد ورد في ذيل قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِيْنَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِاَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله : « إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام ، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتّعصب الشّديد الذّي يفارقون به أديانهم ، وإنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا مالا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون الحرمات » (1).
    ولأجل ذلك رفض الإسلام بشدّة أيّ شفاعة في إجراء الحدود ، فالحدود يجب أن تجرى على الجميع بغض النظر عن مكانة المستحقّ ما دام مستحقّاً فقد وردت في هذا المجال طائفة كبيرة من الأحاديث ، كما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) حيث قال : « كان لاُمّ سلمة زوجة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أمة فسرقت من قوم ، فأتي بها إلى النّبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فكلّمته اُمُّ سلمة فيها. فقال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا أُمّ سلمة هذا حد من حدود اللّه لا يُضيعُ ، فقطعها رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم » (2).
    وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : « قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لاُسامة بن زيد : لا يُشفعُ في حدّ » (3).
    وعن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أيضاً قال : « كان أُسامةُ بن زيد يشفعُ في الشيء الذي لا حدّ فيه ، فاتي إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع لهُ أُسامةُ ، فقال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : لا تشفع في حدّ » (4).
    ولقد جسد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم هذه التسوية أمام القانون عملياً في قصة سوادة بن قيس.
    1 ـ إحتجاج الطبرسيّ (طبعة النجف) 2 : 262.
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : 332 ـ 333.
    3 ـ وسائل الشيعة 18 : 332 ـ 333.
    4 ـ وسائل الشيعة 18 : 332 ـ 333.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس