مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 371 ـ 380
(371)
فقد قال سوادة للنبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في أيام مرضه لمّا صعد المنبر وطلب من الناس أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ إن كان : يا رسول اللّه انّك لمّا اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فأمره النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أن يقتص منه ، فقال اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه فقال سوادة : أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك ، فأذن له ، فقال أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّهمن النار ، فقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « يا سوادة أتعفو أم تقتصّ » فقال سوادة : بل أعفو يا رسول اللّه ، فقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « اللهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد » (1).
    ولأجل هذا قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « الناس سواسيّة كأسنان المشط » (2).
    وأوضح نص في هذا المجال هو قول اللّه تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ) (المائدة : 45) ، فقد جعل اللّه النفس في مقابل النفس دون تمييز يعود إلى الغنى والفقر .. وما شابه ذلك.
    وقد اعتبر الإسلام أيّ تمييز بين الأفراد أمام القانون بحجّة الغنى والفقر ، أو القوة والضعف إيذاناً بالسقوط والهلاك والعذاب حيث نقل المحدثون عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قوله : « أيُّها الناس ... إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ » (3).
    كما أنّ أوضح دليل عملي على هذه المساواة هو ما فعله النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في حجّة الوداع ، فإنّه لمّا أبطل ما كان من الربا بين الناس بدأ بعمّه العباس فأبطل ما كان له في ذمّة الناس من الربا قائلاً : « إنّ ربا الجاهليّةُ موضوع وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العبّاس بن عبد المطلب » (4).
    وعندما وضع ماسبق من دماء الجاهلية بدأ بدم عامر بن ربيعة الذي كان من
    1 ـ وسائل الشيعة 18 : 156 ، سفينة البحار 1 : 671 ، وقد ذكر ابن الاثير في اُسد الغابة نظير هذه القصّة 2 : 374.
    2 ـ من لا يحظره الفقيه 4 : 272.
    3 ـ صحيح مسلم 5 : 114.
    4 ـ تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.


(372)
أقرباء النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فقال : « وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة وإنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن المطلّب » (1).
    وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق قال : « قال أمير المؤمنين (الإمام عليّ بن أبي طالب) (عليه السلام) لعمر بن الخطاب : ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ.
    قال : وما هنّ يا أبا الحسن ؟
    قال (عليه السلام) : إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب اللّه في الرّضا والسّخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.
    قال عمر : لعمري لقد أوجزت وأبلغت » (2).
    وقد جسّد الإمام عليّ (عليه السلام) هذه التسوية بين الأفراد عمليّاً وذلك لمّا حدّ النجاشيّ فغضب اليمانية فدخل طارق بن عبد اللّه عليه ، فقال : « يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتّت اُمورنا وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار ، فقال (عليه السلام) : « وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين ، يا أخا بني نهد ، وهل هو إلاّ رجل من المُسلمين انتهك حُرمة ما حرّم اللّهُ فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارتهُ ، إنّ اللّه تعالى قال : ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَن آنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) ».
    فلما جنّ الليل همس هو والنجاشيّ إلى معاوية (3).
    إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العمليّة على ذلك.
    وينشأ هذا الأصل الإسلاميّ العظيم من إهتمام الإسلام الأكيد بالعدالة الذي يعتبر في حقيقته خصيصة برأسها.
    1 ـ تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.
    2 ـ وسائل الشيعة 18 : 156.
    3 ـ البحار 41 : 9 و 10.


(373)
المساواة من ثمار العدل :
    فقد تميّز الإسلام بتركيزه الشديد على أمر العدل ، واهتمّ به أكثر من اهتمامه بأيّ شيء آخر ، حتّى عاد العدل أساس الإسلام وقاعدته الكبرى ، ومطلبه الرئيسيّ فلقد نادى الإسلام بالعدالة ، وطلب إجراءها ، وتنفيذها على الإطلاق بحيث تشمل جميع الأفراد من دون نظر إلى اختلافاتهم العنصريّة والاقليميّة والمذهبيّة.
    إنّ الإسلام إذ يعتقد وحدة الناس أباً واُمّاً خاطبهم جميعاً بقوله : أيُّها الناس ، وهو كما نلاحظ خطاب يعمّ كلّ بني الإنسان كافّة وقد بنى على هذا الأصل ما نشده من التسوية بين القويّ والضعيف والغنيّ والفقير ، والشريف والوضيع.
    إنّ تعميم العدل ـ في نظر الإسلام ـ ضرورة لا مندوحة منها ، وقد اعتبر العدول عن ذلك ناجماً عن اتّباع الهوى كما قال سبحانه : ( فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ) (النساء : 135).
    ورفض أن يكون أيّ شيء مانعاً من تطبيقه وإجرائه خصوصاً شن آن قوم على ذلك ومعاداتهم بسبب إجراء العدل فقال : ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَ آنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللّه ) (المائدة : 8).
    وقد اعتبره الإسلام أجمل مطلب يطمح إليه النوع الإنسانيّ إذ قال الصادق (عليه السلام) : « العدلُ أحلى من العسل » (1).
    وذلك لأنّ العدل طريق إلى تحقّق الأمن الاجتماعيّ ، فلولاه لما بقي من الأمن أثر ولا خبر. ولهذا كان أهمّ وظيفة من وظائف النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم هو إجراء العدل وبسطه في المجتمع إذ قال سبحانه : ( وَأُمِرْتُ لأِعْدِلَ بَيْنَكُمْ ) (الشورى : 15).
    وراح القرآن الكريم يقارن بين من يعدل وبين من لا يعدل ، ويستنكر التسوية بينهما إظهاراً لأهمّية العدل ، إذ قال : ( هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاط
    1 ـ سفينة البحار 1 : 166.

(374)
مُسْتَقِيم ) (النحل : 76 ).
    ولذلك أمر سبحانه جميع الناس بإجراء العدل وتطبيقه وصيانته قائلاً : ( إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بَالعَدْلِ والإِحْسَانِ ) (النحل : 90) وهو كما نلاحظ أمر مطلق غير مقيّد بزمان أو مكان خاصّ أو أفراد معينّين.

من نتائج العدل
    إنّ من أبرز نتائج العدل وثماره هو خروج القابليات إلى كمالها ، ونموّها وتكاملها لأنّ صاحب القابليات والمواهب إذا عرف أنّ جهده لا يضيع ، وأنّه لو أظهر نبوغه وعمل على ابراز قابليّته فاز بالمقام والتقدير دون حيف وجور ، اجتهدفي ذلك ، وأعطى من نفسه وراحته ما يحقّق تقدّمه وهذا بعكس ما إذا كان الملاك للتقدير في المجتمع هو العلاقات والخداع ، والدهاء فعندئذ تبقى المواهب والقابليات محبوسة في مواضعها خامدة جامدة.
    إنّ التعامل على أساس العدل وموافاة كلّ ذي حقّ حقّه ، وتقديم الضوابط على العلاقات يطمئنّ الناس إلى مصير سعيهم ونتيجة عملهم ويشجّعهم على الخير والاجتهاد فينطلق المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته.
    ولأجل هذا قال الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده المعروف للأشتر النخعيّ : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة » (1).
    ويكفي إظهاراً لأهمّية العدل وعظمة دوره في إسعاد المجتمع أنّ اللّه سبحانه جعل إقامة العدل ، الهدف النهائيّ لإرسال الرسل والأنبياء إلى البشريّة وإنزال الكتب عليهم إذ قال : ( لَقَدْ أرْسَلَنْا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) (الحديد : 25).
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.

(375)
إهتمام الإسلام بالعدل
    ولقد بلغ اهتمام الإسلام باجراء العدل أنّه نهى أن يقف المسلم موقف الحياد من الظلم والبغي ومن الظالم والباغي ، وفرض عليه أن يصلح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلا ، فرض عليه ذلك صوناً للعدل ومنعاً للظلم فقال : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ).
    وإذا بغت إحدى الطائفتين وتجاوزت حدودها ، ولم تخضع للصلح أوجب الإسلام محاربتها ، وإيقافها عند حدّها وإرجاعها إلى جادّة الحقّ والسلام إذ قال : ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ).
    على أن يكون الإصلاح بينهما بالعدل لا بالظلم وإبطال الحقّ وإحياء الباطل ، وسحق المظلوم ودعم الظالم ، وتشجيع المعتدي وتضييع المعتدى عليه : فقال سبحانه : ( فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (الحجرات : 9).
    ولأجل هذه الأهمّية البالغة صارت العدالة من الاُصول التي لا تقبل أيّ تخصيص.
    كما لأجل هذه الأهمّية البالغة نجد الإسلام الذي يدعو إلى السلم والصلح والتعايش السلميّ يجوّز الحرب والقتال دفعاً للظلم وردعاً للظالم ، وقد وعد اللّه سبحانه عليه بالنصر تثبيتاً لموقع العدل ، وإظهاراً للإهتمام به فقال سبحانه : ( اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ) (الحج : 39).
    واشترط الإسلام أن لا يتجاوز هذا القتال والحرب حدود العدل ، لأنّه لإقامة العدل فكيف يتجاوز حدوده ، ولذلك نهى عن الاعتداء على الطرف الآخر بمزيد من عدوانه واعتدائه إذ قال : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِين ) (البقرة : 194).
    إنّ العدل ـ في النظام الإسلاميّ ـ يمثّل أساس الأحكام والقوانين ، وميزان


(376)
التشريع وقسطاسه المستقيم فلا شيء في النظام الإسلاميّ إلاّ وينطلق من منطلق العدل ، ولا شيء فيه إلاّ ويهدف تحقيق العدالة في الحياة الإجتماعيّة ، ولقد أمر القرآن الكريم عامّة المسلمين أنّ يهتمّوا بإقامة القسط والعدل غاية الاهتمام فقال : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قُوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهِدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم ) (النساء : 135).
    ومن الواضح أنّ (قوّام) الذي هو صيغة المبالغة من (قائم) يوحي بشدّة التأكيد الإلهيّ على مسألة العدل ، وإجرائه فعلى المسلمين ـ لذلك ـ أن يبالغوا في تحقيق العدالة حتّى على الأغنياء فلا يحابوهم ولا يداروهم ، ولذا قال اللّه سبحانه في ذيل تلك الآية : ( أوِ الوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيْرَاً ) (النساء : 135).
    فإنّ غنى المحكوم يجب أن لا يقف سدّاً في طريق العدل ، وينبغي أن لا يكون سبباً للتخلّي عنه.
    فها هو الإمام عليّ (عليه السلام) يرى أنّ من أهمّ واجبات الحاكم هو إقامة العدل : « وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً » (1).
    إنّ العدل لا يشكل طريقاً للأمن الإجتماعيّ للاُمّة الإسلاميّة فقط ، بل يمثّل طريقاً طبيعياً لحفظ السلام العالميّ أيضاً ، فإذا أراد العالم أن يأمن الحرب ويتخلّص من التجاوز فما عليه إلاّ إجراء العدل والأخذ به في تعامله وتعايشه .. ولا يمكن ذلك إلاّ بالأخذ بالنظام الإسلاميّ.

أبعاد العدل ومجالاته
    إنّ للعدل أبعاداً ومجالات كثيرة ومفصّلة ذكرها القرآن الكريم ، نشير إليها هنا باختصار :
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 132.

(377)
1 ـ العدل في مجال الحكم
    لقد أكّد الإسلام على الأخذ بالعدل في مجال الحكم ، فاشترط أن يكون الحاكم عادلاً ، وفرض عليه العمل وفق سنن العدالة في كلّ مجالات الحكم والولاية قال سبحانه : ( إنَّ اللّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأماَناتِ إِلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعْدَلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِِهِ إنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيراً ) (النساء : 58). ( الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ ) (الحج : 41).
    ومن المعلوم أنّ إقامة المعروف هو أظهر مصاديق العدل كما أنّ النهي عن المنكر أظهر مصاديق ردع الظالم ودفع الظلم.

2 ـ العدل في مجال الأخذ بالقانون
    لقد حثّ الإسلام حثّاً أكيداً على إجراء العدل على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء فالكلّ أمام القانون سواء من دون فرق بين رئيس ومرؤوس ، وغنيّ وفقير ، وآمر ومأمور. قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « النّاس أمام الحقّ [ القانون ] سواء ».
    وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ولا يجري على أحد إلاّ جرى لهُ » (1).

3 ـ العدل في مجال الأقتصاد
    فلقد سنّ الإسلام برامجه الاقتصاديّة على اُسس عادلة ، وأوجب على الحاكم بسط العدل في مجالات الاقتصاد بكلّ الوسائل الممكنة ، فمنع من كلّ ألوان الظلم الاقتصاديّ كالربا والاحتكار وإعطاء الامتيازات لبعض دون بعض ، وشرّع لذلك
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 211 ( طبعة عبده ).

(378)
قوانين جزائيّة صارمة تضمن العدالة في هذه المجالات فقال سبحانه : ( وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (البقرة : 279).
    والجملة الأخيرة قاعدة كليّة في كلّ المجالات الاقتصاديّة وغيرها.
    كما أنّه يرى الحاكم مسؤولاً عن أموال الاُمّة حتّى لا يهضم حقّ أحد ففي هذا المجال يقول الإمام عليّ (عليه السلام) وهو يقصد من استولوا على أموال بيت المال في عهد عثمان : « واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك به الأماء لرددته فإنّ في العدل سعةً ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (1).
    وعن مسؤولية الحاكم اتّجاه العدالة الاقتصاديّة قال لمن أتاه يطلب منه مالاً في غير حقّ (أيضاً) : « إنّ هذا المال ليس ليّ ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين ، وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم » (2).

4 ـ العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة
    لقد سعى الإسلام غاية السعي إلى إقامة العلاقات الاجتماعيّة على قواعد العدل وأسسه بحيث لا يقع حيف من أحد على أحد في هذه العلاقات والروابط.
    ومن هنا سنّ حقوقاً للوالدين والجيران والصغار والنساء والأيتام والمرضى والمقعدين ... الخ (3).
    وأخيراً لقد اعتبر الإسلام العدل أفضل وأحسن م آلاً للمجتمع إذ قال : ( وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (الأسراء : 35).
    وإنّما يكون العدل خيراً وأحسن م آلا لأنّ الظلم إذا اجتمع جزء فجزء أوجب الانفجار والنقمة ، وآل بالبلاد والعباد إلى الفساد والشرّ.
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 14.
    2 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 227.
    3 ـ راجع رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين ّ ـ عليهما السلام ـ.


(379)
    إنّ المجتمع المهضوم حقّه الذي يتعرّض للظلم الاقتصادي والسياسيّ لايمكن أن يطول به الأمر دون أن ينفجر في الم آل ويثور في وجه حكّامه.
    إنّ الاستبداد والديكتاتوريّة وإن استطاعت أن تكبح جماح الشعوب لفترة من الزمن باستخدام العنف والقوّة والقهر والإرغام ، ولكنّ الظلم والحيف إذا اجتمعا شيئاً فشيئاً تحوّل إلى طوفان جارف ، وانفجار يأتي على كلّ شيء فلا يبقي ولا يذر .. ولهذا كان العدل خيراً وأحسن م آلاً .. والظلم بخلافه.
    وخلاصة القول أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون في الأنساب والألوان ، واللغات والأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات فدعاهم الإسلام إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة الجامعة وفرضها عليهم .. فدعا إلى الوحدات التالية :
    1 ـ وحدة الاُمّة.
    2 ـ وحدة الأجناس البشريّة.
    3 ـ وحدة الدين.
    4 ـ وحدة التشريع بالمساواة في الحقوق المدنيّة والتأديبيّة.
    5 ـ الوحدة بين المؤمنين.
    6 ـ وحدة الجنسيّة السياسيّة الدوليّة (1).
    وبذلك تكون الدعوة إلى الوحدة في هذه المجالات من خصائص الإسلام والحكومة الإسلاميّة وامتيازاتها.
    على أنّ ما ذكرناه من خصائص الحكومة الإسلاميّة إنّما هو مساواة المعتنقين أمام القانون لا مساواتهم في كلّ شيء حتّى في حيازة المناصب ، إذ هي تابعة للقابليّات والمؤهّلات وأهمّية الجهود وقلّتها وشدّتها.
    1 ـ تفسير المنار 11 : 255.

(380)
4
خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها
الإسلام بين الماديّة والمعنويّة
( وكذلك جعلناكُم أُمَّةً وسطاً ) (البقرة : 143).
    لا شكّ في أنّ الدين الإسلاميّ دعا إلى العبادة والأخذ بتقوى اللّه سبحانه ، إلى جانب الدعوة إلى الاستفادة من النعم الماديّة ، والتمتّع بلذائذ الحياة الدنيا ، وهو بهذا استطاع أن يخلق من الاُمّة الإسلاميّة ، اُمّة (وسطاً) حازت الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً. فهي ليست كالاُمم (الماديّة) التي تعتقد بأصالة اللذة فتلخّص الإنسانيّة والحياة البشريّة في مجرد الاستمتاع بلذائذ الدنيا ونعمها ، ومواهبها ، كما يشاء الأعداء أن يتّهموا الإسلام بذلك.
    كما ليست كالاُمم ذات الاتّجاه الروحيّ البحت ، التي لخّصت الحياة الإنسانيّة في الانسياق وراء الجوانب الروحيّة المحضة ناسية وراءها الدنيا وما فيها ، والجسد ومتطلباته ، بل الإنسان الكامل ـ في ظل النظام الإسلاميّ وبحكم طبيعته المزدوجة من الروح والجسد ـ هو الذي يتمتع بكلا الجانبين الماديّ والمعنويّ ، فيأخذ من الدنيا زاده ومتاعه ، ويتّجه إلى الآخرة هدفاً ومقصداً فيأخذ من هذا حظّاً ، ومن ذلك حظّاً غير
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس