مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 381 ـ 390
(381)
مهمل جانب الروح ، أوناس جانب الجسد ، ويتجلّى هذا المنطق وهذا المنطلق في موقف القرآن الكريم من الدنيا والآخرة ، فهو يرسم لنا كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع كلّ واحد من هذين الجانبين ، ولهذا يتعيّن علينا ـ قبل أيّ شيء ـ أن نلقي نظرة فاحصة على ما ذكره القرآن في هذا الصعيد.
    ورغم أنّ هذا البحث حول (الدنيا والآخرة) في القرآن يعتبر من أهمّ البحوث وأوسعها لكثرة الآيات الواردة فيه ، إلاّ أنّه ربّما غفل البعض عن موقف القرآن الحقيقيّ في هذه المسألة ، فخرج بتفسيرات وتوجيهات بعيدة عن هدف الإسلام ، وروح تعاليمه الجامعة.
    لقد نظر القرآن الكريم في آياته نظرة شاملة جامعة إلى الدنيا والآخرة ، ولكن فريقاً من الناس لم يلاحظ إلاّ الآيات التي تحث على الاستفادة من النعم الدنيويّة فوصف (الإسلام) بأنّه دين ماديّ المنزع يسعى لضمان الجانب الماديّ فحسب ، في حين لاحظ فريق آخر تلك الآيات الذامة للدنيا والآخذين بها ، والتي تصفها بأنّها (متاع قليلٌ) ولذلك وصف الإسلام بأنّه يخالف الدنيا ، وأنّه دين الآخرة ليس إلاّ ، في حين أنّ النظرة الشاملة لجميع الآيات الواردة حول هذه المسألة تهدينا إلى غير ما ذهب إليه هذا ، أو ذاك الفريق. فهي تقودنا إلى معرفة الموقف القرآني الحقيقيّ اتّجاه الدنيا والآخرة ، واتّجاه الماديّة والمعنويّة.
    ولمّا كان هذا البحث بحثاً قرآنياً مفصّلاً ومستقلاً فإنّنا نكتفي هاهنا بعرض المسألة إجمالاً ، ونشير إلى بعض الآيات تاركين تحقيق المطلب إلى موضع آخر.
    إنّ الناظر إلى آيات القرآن الكريم حول الدنيا يجدها على طوائف ثلاث :
    1 ـ طائفة مادحة للدنيا.
    2 ـ طائفة ذامة لها.
    3 ـ طائفة حاثّة على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ومشيرة إلى أنّ الدنيا الملهية هي المذمومة دون غيرها.


(382)
    وبما أنّ الآيات في كلّ طائفة ، كثيرة جداً نكتفي بسرد بعضها :

الآيات المادحة للدنيا
    وأمّا الطائفة التي تمدح الحياة الدنيا فهي كثيرة منها ما تأمر بتحصيل المواهب الماديّة والنعم الدنيويّة كقوله سبحانه : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ ) (الجمعة : 10).
    وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (الملك : 15).
    ومنها ما تصفها بأنّها خير كقوله : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ ... ) (البقرة : 215).
    ومنها ما تعد الدنيا فضلاً من فضل اللّه سبحانه كقوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) (البقرة : 198). ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) (الإسراء : 12).
    أو تعدّها رحمة وجزاء للمحسنين كقوله تعالى : ( ... نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) (يوسف : 56).
    ومنها ما نصّت على أنّ الدنيا ومواهبها ونعمها خلقت لعباد اللّه كقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعَاً ) (البقرة : 29).
    أو أنها زينة لهم ومتاع جميل كقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيا خَالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ ) (الأعراف : 32).
    ومنها ما تصفها بكونها حسنة ورحمة كقوله سبحانه : ( وَإِذَا أَذَقْنا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنَا ) (يونس : 21).
    وقوله سبحانه : ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) (الأعراف : 156).


(383)
    وغير ذلك من الآيات التي تمدح الدنيا والنعم الدنيويّة وتحثّ الناس والمؤمنين خاصّة على الأخذ والتمتع بها.

الآيات الذامّة للدنيا
    وهي التي تذم الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها كقوله سبحانه : ( لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزوَاجَاً مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (الحجر : 88).
    ومنها ما تصفها بأنّها عرض زائل كقوله سبحانه : ( وَلاَ تَقُوْلُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنيَا ) (النساء : 94).
    أو تصفها بأنّها متاع الغرور إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاّ مَتَاعُ الغُرُورِ ) (آل عمران : 185).
    أو تصرّح بأنّها لا تجتمع مع الآخرة ، فهما على طرفي نقيض كقوله لنساء النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : ( يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لاَِزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنيا وَزِيْنَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَ ـ هُ وَالدَّارَ الآخِرَةِ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرَاً عَظِيماً ) (الأحزاب : 28 ـ 29).
    وكقوله سبحانه : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُريدُ حَرْثَ الدُّنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَالَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيب ) (الشورى : 20 ).
    أو تصفها بأنّها لهو ولعب إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيا إلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلْدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنعام : 32).
    أو تعتبر الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها وإلى أنعمها ولذائذها موجباً للإعراض عن الآخرة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَ بِجَانبِهِ ... ) (الإسراء : 83).
    إلى غير ذلك من الآيات التي تشتمل على ذمّ الدنيا ، وذمّ الآخذين بها.


(384)
    وأمّا الطائفة الثالثة فهي التي تدعو إلى الأخذ بالدنيا والآخرة معاً كقوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا ) (القصص : 77).
    والتي يستفاد منها أنّ أصل الدنيا بما هي ليست مذموماً بل المذموم هو حبّ الدنيا والانخداع بها ، والوقوع في فخاخها ، والفرح بها فرحاً صارفاً عن الآخرة ومن هذه الآيات قوله سبحانه : ( زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَ القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المسَوَّمَةِ والأنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ ) (آل عمران : 14).
    فقد أصبحت الدنيا وما فيها من متع ونعم مذمومة لأنّها حجبت الإنسان عن الآخرة وأوجبت نسيان طاعة اللّه والابتعاد عن العمل الصالح.
    أو كقوله سبحانه : ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) (القيامة : 20 ـ 21). ( إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَة وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ) (الإنسان : 27).
    وقوله تعالى : ( وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إلاّ مَتَاعٌ ) (الرعد : 26).
    وخلاصة القول ، أنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين المادحة للدنيا والذامّة لها ، هو ما ذكرته الطائفة الثالثة من أنّ الدنيا ليست في حدّ ذاتها مذمومة بل ما كان منها ملهياً عن الآخرة وصارفاً عن ذكر اللّه وطاعته.
    ولذلك وصف اللّه سبحانه الرجال الذين لا تلهيهم الدنيا عن التوجّه إلى الآخرة ، فقال : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) (النور ـ 37). ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ ) (المنافقون : 9).
    إنّ الدنيا ليست مذمومة في نظر القرآن إلاّ إذا شغلت عن الآخرة ، كما صرّح بذلك القرآن بقوله : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ


(385)
وَأَمُوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَها وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إليْكُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ) (التوبة : 24).
    ولا تكون مذمومة إلاّ إذا أدّى حبّها والتعلّق بها إلى شرائها بالآخرة ، إذ قال سبحانه : ( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوا الحَياةَ الدُّنيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَهُمْ يُنْصَرُونَ ) (البقرة : 86).
    ولا تكون مذمومة إلاّ إذا آل الرضا بالدنيا إلى نسيان الآخرة ، كما يقول سبحانه : ( ... أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاّ قَلِيلٌ ) (التوبة : 38).
    ولكن إذا كانت الدنيا عوناً على الآخرة فنعمت الدنيا ، عندئذ ، ونعمت العون والوسيلة : ( إنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (التغابن : 17).
    وإلى هذا أشار الحديث النبوي الشريف المشهور « الغنى نعم العون على الآخرة ».
    ولهذا حثّ القرآن على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ، ولا يجد بينهما تبايناً لو كان الانتفاع بالدنيا من هذا الباب ، كما في قوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَتَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (القصص : 77).
    ومن هنا يتبيّن أن ّ حاصل الجمع بين الآيات المادحة للدنيا ، والذامّة لها هو أنّ الدنيا محبوبة ومرغوب فيها إذا كانت وسيلة لكسب الآخرة ، والتوصّل إلى المقامات المعنويّة ، ومذمومة ومرغوب عنها إذا كانت هدفاً بنفسها ، وغاية لذاتها.
    والكلمة الجامعة في الجمع بين الآيات ما أشار إليه الإمام عليّ (عليه السلام) في كلامه في صفة الدنيا حيث قال : « ومن أبصر بها بصّرتهُ ومن أبصر إليها أعمتهُ » (1).
    فمن جعلها وسيلة للحياة وطريقاً إلى الآخرة كما يتّخذ الإنسان المرآة وسيلة لرؤية
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 97.

(386)
نفسه وتشخيص ما في وجهه من آثار وأشياء بصّرته ، ومن جعلها هدفاً واشتغل بها بما هي مطلوبة بالذات لا مطلوبة للغير فإنّها تعمي عن كلّ خير فيها.
    وللإمام عليّ (عليه السلام) في وصف الدنيا كلمات يتفق مضمونها مع ما ذكرناه فلاحظ من خطبه الكثيرة خصوص الخطبة رقم (204) طبعة عبده.
    إنّ الدنيا محبوبة في ـ ن ـ ظر الإسلام ـ إذا كانت وسيلة لعمل الخيرات وبلاغاً إلى الآخرة لأنّها حينئذ ليست إلاّ مطيّة كما صرّح بذلك الحديث النبويّ القائل : « الدُنيا مطيّة المؤمن ».
    وتكون مذمومة مبغوضة إذا كانت سبباً لتناسي فعل الخيرات ، وترك المعنويّات وهجرانها ، ومن هنا نكتشف أنّ كلّ طائفة من هاتين الطائفتين : المادحة ، والذامّة ناظرة إلى جهة خاصّة وعنوان خاصّ ، وليست مطلقة.
    ومن هنا أيضاً نعرف ، أنّ الإسلام يقيم توازناً فريداً بين الماديّة والمعنويّة ، بين الدنيا والآخرة ، فلا يرجح شيئاً ويترك آخر وهو موقف تفرضه طبيعة الكينونة الإنسانيّة وتتطلّبه حقيقة الفطرة البشريّة.
    ولأجل هذا يجب أن تكون الحكومة الإسلاميّة في تركيبها ، ومنهاجها متصّفة بهذا اللون ومتّسمة بهذه الكيفية ، فلا ينصرف همهّا إلى توفير الظروف الماديّة وتتجاهل الجوانب الروحيّة والمعنويّة بل عليها أن تسعى إلى إقامة ذلك التوازن بين الجانبين ، في حياة الاُمّة الإسلاميّة فلا تدع جانباً يطغى على جانب آخر ، ولا تدع شيئاً يأتي على حساب شيء آخر.
    إنّ الحكومة الإسلاميّة تتميّز عن سائر الحكومات بأنّ وظيفتها لا تنحصر فقط في توفير الظروف الماديّة للناس ، ولا يقتصر واجبها على تهيئة وسائل الاستفادة المطلقة من أنواع اللذائذ الماديّة كيفما كان ، وبأيّة وسيلة كانت ، بل هي مسؤولة عن العناية بكلا الجانبين على قدم المساواة ، فعليها أن تعتني بالجانب الروحيّ وتعمل جهدها على إصلاحه وإنعاشه كما تعتني بالجانب الماديّ وتهيّء الظروف المعيشيّة الماديّة بأفضل شكل.


(387)
    إنّ الحكومات غير الإسلاميّة حيث لا تنطلق من أيديولوجيّة جامعة للروح والجسد والمادّة والمعنى ولا ترى لنفسها من وظيفة إلاّ توفير الحاجات الماديّة وتلبية النداءات الجسديّة للناس فقط ، ترى من واجبها أن تهيّء لشعوبها كلّ ما يرضيهم في هذا الجانب فلا تأل جهداً في توفير وسائل الاستمتاع واللذة من دون النظر إلى ماهيتها وآثارها وعواقبها السيّئة. فهي تخصّص الميزانيات الضخمة والأموال الطائلة لبرامج الترفيه ، واللهو والتسلية ، ولكي تسد هذه النفقات وتوفّر هذه الميزانيات الهائلة تحصل المال من كلّ سبيل حرام كالتجارة بالخمور ، ووضع الضرائب على البغاء ، والفحشاء والقمار ، وغير ذلك من الموارد المحرّمة التي لو عمدت إلى حذفها لأختلت ميزانيّاتها ، وأصيبت بالنقص والشلل والعجز.
    ولكن الحكومة الإسلاميّة حيث تنطلق من المنطلق الإسلاميّ الذي يوفّق بين الجانب الماديّ والمعنويّ تسعى جهدها في الاهتمام بالجوانب الروحيّة إلى جانب النواحي الماديّة فلا تضحّي بمعنويات الشعوب واخلاقهم ، وهي لذلك لا تفعل ما تغعله الحكومات الاُخرى من تحصيل مواردها من الطرق والسبل الماديّة المحّرمة فلا تعتمد على عائدات القمار والخمور والبغاء وغير ذلك.
    لقد حرّم الإسلام كلّ هذه المكاسب وحرّم ما يحصل منها من أموال ، وحظرها على الاُمّة الإسلاميّة في حين تشكّل هذه المكاسب أهم الموارد الاقتصاديّة للحكومات غير الإسلاميّة ولقد حرّم هذه المكاسب لأخطارها على الجانب المعنويّ والأخلاقيّ للاُمّة ولما لها من تبعات سيّئة في حياتها الروحيّة.
    إنّ العناية والاهتمام بالجانب الروحيّ ليست فقط إحدى الوظائف التي تضطلع بها الحكومة الإسلاميّة بل هي أهمّ وظيفة من وظائفها إذ في ظل استقامة هذا الجانب يستقيم الجانب الماديّ ، ويسعد البشر في الحياة الدنيويّة (1) ، ولهذا كان النبيّ يوصي
    1 ـ ونعم ما قال القائل :
    وإنّما الاُمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمو ذهبت أخلاقهم ذهبوا



(388)
عمّاله الذين يعهد إليهم إدارة المناطق أن يركّزوا اهتمامهم على تربية الناس وتزكيتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلاميّة ... فها هو صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عندما يولّي معاذ بن جبل يوصيه بأن يهتم بتربية الناس وتثقيفهم وتنمية معنوياتهم إذ يقول : « يا معاذُ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهُم على الأخلاق الصّالحة ... وأمت أمر الجاهليّة إلاّ ما سنّهُ الإسلامُ ... » (1).
    هذا والحديث مفصل.
    كما ويكتب لعمرو بن حزم حينما ولاّه نجران بأن يبالغ في تربية الناس إذ يقول : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ ) عهد من رسُول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كلّه فإنّ اللّه مع الذين اتّقُوا والذين هُم محسنُون ، وأمرهُ أن يأخُذ بالحقّ كما أمره اللّهُ وأن يبشّر الناس بالخير ويأمُرهُم به ويُعلّمُ الناس القُرآن ، ويفقّههم فيه وينهى الناس فلا يمسُّ القُرآن إلاّ وهُو طاهرُ إنسان ، ويخبرُ الناس بالذي لهم والذي عليهم ، ويلين لهُم في الحقّ [ أيّ ينشر الحقّ بينهُم وينفذه بأساليب ليّنة تستهويهم ] ويشتدّ عليهُم في الظلم فإنّ اللّه كره الظُلم ونهى عنهُ ، وقال ( ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِميْنَ ) ويُبشّر الناس بالجنة وبعملها ويُنذر الناس النار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ، ويُعلّم النّاس معالم الحجّ وسُننه وفرائضه » (2).
    إلى غير ذلك من الوصايا التي كان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يوصي بها من يولّيهم شؤون البلاد وإدارة المناطق المختلفة ، ويدعوهم فيها إلى الاهتمام بالجوانب الروحيّة والمعنويّةوالأخلاقيّة ، إلى جانب اهتمامهم بالجوانب الاقتصاديّة الماديّة.
    1 ـ تحف العقول (طبعة بيروت) : 27.
    2 ـ تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك للسيوطيّ 1 : 157 ، والطبريّ 2 : 388 ، والبداية والنهاية 5 : 76 ، وسيرة ابن هشام 4 : 595 ومصادر اُخرى هذا والحديث مفصّل وفيه تعاليم اقتصاديّة وإداريّة واجتماعيّة مفصّلة.


(389)
5
خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها
الشورى
( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (قرآن كريم)
    تمتاز الحكومة الإسلاميّة بأنّها تعتمد على مبدأ الشورى في إدارة البلاد ، ومعالجة مشكلاتها بعيداً عن الديكتاتوريّة ، والاستبداد ، والتفرّد بالرأي ، وقد كان الإسلام أوّل من أتى بمدأ الشورى في مجال الحكم في عصر كان العالم يخضع فيه للحكومات الديكتاتوريّة والملكيّات المستبدة ، وقد سمّيت سورة كاملة في القرآن باسم الشورى تعظيماً لهذا المبدأ ، وإيذانا بأهمّيته الإجتماعيّة.

القرآن والشورى :
    إنّ القرآن الكريم يصف المجتمع الإسلاميّ بأنّه يعالج أُموره ومشاكله عن طريق التشاور وتبادل الرأي فيقول : ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا


(390)
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (الشورى : 37 ـ 38).
    إنّ على المجتمع الإسلاميّ طبقاً لهذه الآية أن يعالج مشاكله ، بالشورى وتبادل الرأي وذلك فيما يتعلّق بكيفيّة العيش وطريقة الحياة .. ويخطّط بالتشاور لما يحتاج إليه من برامج لترفيع مستوى الثقافة والتعليم ، وتوسيع نطاق العمران والانتاج الاقتصاديّ وكيفيّة التوزيع وتأسيس الجيش والحرس ، وتنظيم شؤون الدفاع وما سوى ذلك من برامج لمختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، وذلك لما في الشورى من نتائج طيبة لا تحصل إلاّ بها.
    وتبلغ أهمّية الشورى في الاُمور بحيث يأمر اللّه نبيّه (المعصوم من السهو والخطأ) أن يتشاور مع أصحابه في بعض الاُمور ، ويتّخذ الطريق الصحيح ، والرأي الأصوب ، بعد تبادل الرأي والاستماع إلى جميع وجهات النظر حيث يقول : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) (آل عمران : 159).
    ولقد ذكر المؤرّخون نماذج عديدة من مشاورة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم مع أصحابه في طائفة من الشؤون العسكريّة كما وقع منه في الخروج إلى بدر حيث جمع أصحاب ـ ه وقال : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاس » فيظهر أصحابه أراءهم بحريّة كبيرة ، ويختار النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ما اقترحه الأنصار (1).

الأحاديث والشورى
    ولم يرد ذكر الشورى في القرآن فقط ، بل ورد في شأنها ما لا يحصى من الأحاديث نذكر طائفة منها هنا :
    قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم « إذا كانت أُمراؤُكُم خيارُكُم وأغنياؤُكُم سُمحاؤُكُم وأمُورُكُم شُورى بينكُم فظهرُ الأرض خير من بطنها » (2).
    1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 615.
    2 ـ سنن الترمذيّ كتاب الفتن : 78.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس