مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 391 ـ 400
(391)
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « استرشدُوا العاقل ولا تعصوهُ فتندمُوا » (1).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « لا مُظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتّدبير » (2).
    ولما سئل النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عن الحزم ما هو؟ قال : « مُشاورةُ ذوي الرأي واتّباعُهُم » (3).
    وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « فلا تكُفّوا عنّ مقالة بحقّ أو مشُورة بعدل » (4).
    وقال (عليه السلام) أيضاً في وصية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة : « اضمُم آراء الرّجال بعضها إلى بعض ، ثُمّ اختر أقربها من الصواب ، وأبعدها من الارتياب ، قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (5).
    وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّ (عليه السلام) : « من لا يستشيرُ يندم » (6).
    وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : « لن يهلُك امرء من مشُورة » (7).
    وقال (عليه السلام) أيضاً : « استشر العاقل من الرّجال الورع ، فإنّهُ لا يأمرُ إلاّ بخير وإيّاك والخلافُ فإنّ مُخالفة الورع العاقل مفسدة في الدّين والدُّنيا ».
    وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في نصح المستشير قال : « وأمّا حقُّ المستشير فإن حضرك لهُ وجهُ رأيّ جهدت لهُ في النصّيحة وأشرت عليه بما تعلمُ أنّك لو كُنتمكانهُ عملت به وذلك ليكُن منك في رحمة ولين ، فإنّ اللين يُؤنسُ الوحشة ، وإنّ الغلظ يُوحشُ موضع الانس وإن لم يحضرك لهُ رأيٌ وعرفت لهُ من تثق برأيه ، وترضى به لنفسك دللتهُ عليه ، وأرشدتهُ إليه فكُنت لم تأله خيراً ، ولم تدّخر نُصحاً ، و لا حول ولاقوّة إلاّ باللّه.
    وأمّا حقّ المشير عليك فلا تتّهمهُ فيما وافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنّما هي الآراءُ وتصرُفُ النّاسُ فيها واخنلافهم ، فكُن في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيهُ ، فأمّا
    1 ـ وسائل الشيعة 8 : 224.
    2 ـ وسائل الشيعة 8 : باب 9 أبواب أحكام العشرة : 409.
    3 ـ وسائل الشيعة 8 : 224.
    4 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 214.
    5 ـ وسائل الشيعة 8 : 429 ، 424.
    6 ـ وسائل الشيعة 8 : 429 ، 424.
    7 ـ وسائل الشيعة 8 : 429 ، 424.


(392)
تُهمتهُ فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقُّ المشاورة ، ولا تدعُ شُكرهُ على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحُسن وجه مشُورته ، فإذا وافقك حمدت اللّه وقبلت ذلك من أخيك بالشّكر ، والإرصاد بالمُكافأة في مثلها إن فزع إليك ولا قوّة إلاّ باللّه » (1).
    وقد جمعت الأحاديث المرتبطة بالشورى الحاثة عليها ، والمشيرة إلى نتائجها الطيّبة ، في أبواب « العشرة » من كتاب وسائل الشيعة للحرّ العامليّ ... وهي كثيرة .. ذكرنا منها هنا غيض من فيض وقليلا من كثير (2).
    وقد نقل أهل السنّة أحاديث عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حثّ فيها على المشاورة منها قوله : « المُستشارُ مُؤتمن فإذا استُشير فليُشر بما هُو صانع لنفسه ».
    وقوله : « إذا استشار أحدكُم أخاهُ فليُشر عليه ».
    وقوله : « ما ندم من استشار ».
    وقوله : « من استشار أخاهُ فأشار عليه بغير رُشده فقد خانهُ ».
    وقوله : « ما يستغني رجُل عن مشُورة ».
    وقوله : « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الاُمُور ».
    وعندما نزل قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قال النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أما ، إنّ اللّه ورسُولهُ لغنيّان عنها ولكن جعلها اللّهُ رحمةً لاُمّتي ، من استشار منهُم لم يعدم رُشداً ، ومن تركها لم يعدم غيّاً » (3).
    ثمّ إنّه إذا اختلف أصحاب الشورى في الرأي فبماذا يعالج الأمر ؟ فالمعروف هو أنّه يعالج فيما إذا كانا موافقين للإسلام بتقديم الأكثريّة على الأقليّة ، ولكن ذلك الترجيح يتمّ إذا لم يكن هناك رئيس نافذ منتخب من جانب الاُمّة ، إذ الطريق عند عدم وجود مثل هذا الرئيس ، ينحصر لا محالة في تغليب رأي الأكثريّة على رأي الأقليّة.
    1 ـ تحف العقول : 296.
    2 ـ وسائل الشيعة 8 : 426.
    3 ـ هذه الأحاديث السبعة وغيرها وردت في كتاب الشورى بين النظريّة والتطبيق : 27 ـ 30.


(393)
    وأمّا إذا اختارت الاُمّة رئيساً نافذاً كامل الصلاحيات فله أن يتدخّل في الأمر ويأخذ بما هو مطابق للإسلام ، وإذا كان كلاهما مطابقين مع الموازين الإسلاميّة فللرئيس أن يختار ما هو أصلح لحال الاُمّة ، وأنفع لها سواء أيّدته الأكثريّة أو الأقليّة.
    ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) المشير إلى أنّ صاحب القرار الأخير هو الرئيس فهو الذي يعزم ويقصد في مجال الأخذ بالآراء المتضاربة كما في قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (آلعمران : 159).
    فإنّ الآية تتضمّن أمرين :
    الأوّل : ايصاء النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بالمشاورة مع المسلمين ، والاستماع إلى آرائهم فإنّ المشاورة واحتكاك الرأي بالرأي الآخر يفيد تلاقح الأفكار ، والوصول إلى النتيجة الناضجة ، والرأي الصواب ، كما يفيد احتكاك الأسلاك الكهربائيّة انبثاق النور والحرارةولذلك يجب على الحاكم الإسلاميّ ـ على الإطلاق ـ المشاورة ، وتجنّب الاستبداد والتفرّد بالرأي وإلى هذه الوظيفة الحساسة يشير قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ).
    الثاني : إنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى بعد المشاورة والاستماع إلى الآراء المختلفة ويقلّب وجوه الرأي ، أن يقيّمها بتعمّق ثم يختار ما هو الأصلح بحال الاُمّة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ (أي بعد التشاور والعزم على الرأي الأصلح) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ونفّذه ، وأوكل الأمر إليه سبحانه ليمدّك ويعينك في المشاكل.
    فالخطاب في (عزمت) يدلّ على أنّ صاحب القرار ومن بيده الأمر هو نفس (النبيّ) بعد المشاورة.
    وبتعبير آخر : إنّ هذا يكشف عن أنّ وظيفة الاُمّة اتّجاه النبيّ الأكرم هو مجرّد الإدلاء بالرأي وإبداء النظر ، وأمّا القرار النهائيّ فله صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ومن شأنه وحده ، ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام عليّ (عليه السلام) حيث قال لابن عباس في إحدى الوقائع وقد اشار ابن


(394)
عباس على الإمام ما لم يوافق رأيه : « لك أن تُشير عليّ وأرى ، فإن عصيتُك فأطعني » (1).
    إذن فلرئيس الدولة الأعلى أن يختار عند اختلاف الآراء ما هو أصلح لحال الاُمّة وأقرب إلى الموازين الإسلاميّة ، وإلاّ انحصر الطريق في تغليب الأكثريّة على الأقليّة لما ذكرنا.
    وأمّا سيرة الرسول في الشورى فلم يظهر منه أنّه قدّم الأكثريّة على الأقليّة إطلاقاً ، بل الظاهر أنّه بحكم أنّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان مفوّضاً إليه الأمر على الإطلاق في التصميم واتّخاذ القرار والاستنتاج كما هو الظاهر من خطابه سبحانه إليه ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) أنّ يقدّم ما هو الحقّ والصلاح أو الأحقّ والأصلح على غيره سواء أوافق نظرية الأكثرين أم خالفها.
    هذا وللرسول الأعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عدة مشاورات ضبطها التاريخ مبثوثة في طيّات الكتب والمؤلّفات ونحن نجمعها في مكان واحد حتّى تتبيّن كيفيّة استشارته.
    إنّ للرسول الأعظم مشاورات خمس حسبما وقفنا عليها وإليك توضيحها :
    الاُولى/في غزوة بدر ، قبل أن يواجه العدو ، فاستشار الناس ، وأخبرهم بأمر قريش فقام أبو بكر وقال : يا رسول اللّه إنّها واللّه قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلّم عزّها أبداً فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته ، وتكلّم بمثله أيضاً عمر ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال يارسول اللّه : امض لأمر اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها : ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُوُنَ ) (المائدة : 24) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.
    فقال له رسول اللّه خيراً ودعا له بخير ثم قال رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاسُ » وإنّما يريد رسول اللّه الأنصار وكان يظنّ أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، وذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول اللّه : « أشيروا عليّ ».
    1 ـ نهج البلاغة : باب الحكم (الرقم 321) وقد مرّ في الصفحة 391و 392 ما يدلّ على ذلك أيضاً.

(395)
    فقام سعد بن معاذ وقال : أنا اجيب عن الأنصار كأنّك يار س ـ ول اللّه تريدنا ، قال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أجل » ، قال : إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره وإنّا قد آمنا بك وصدّقناك ... فامض يا نبيّ اللّه ، فو الذي بعثك بالحقّ ، لو استعرضت هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ، ما بقي منّا رجل وصل من شئت واقطع من شئت ... إلى آخر ما قاله سعد بهذا المنوال ... فلمّا فرغ سعد قال رسول اللّه : « سيرُوا على بركة اللّه فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطّائفتين ، واللّهُ لكأنّي أنظُر إلى مصارع القوم » ، قال : وأرانا رسول اللّه مصارعهم يومئذ (1).
    وممّا قاله رسول اللّه في ذيل كلامه من أنّ اللّه وعده احدى الطائفتين ، حتّى أراهم مصارع القوم يعلم أنّه قدّم نظرية مندوب الأنصار ، لأنّه وقف على صحّتها عن طريق الوحي (2).
    الثانية/في غزوة اُحد ، وذلك عندما سمع رسول اللّه نزول قريش عند مشارف المدينة ، فشاور الرسول اصحابه في الخروج أو البقاء.
    فقالصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « فإن رأيتُم أن تُقيمُوا بالمدينة وتدعُوهُم حيثُ نزلُوا ، فإن أقاموُا ، أقامُوا بشرّ مقام وإن هُم دخلُوا علينا قاتلناهُم فيها » وكان رسول اللّه يكره الخروج ، فقال رجال من المسلمين : يا رسول اللّه أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا ، فقال عبد اللّه بن أُبيّ : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لا تخرج إليهم.
    فلم يزل الناس برسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ، الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم ، حتّى دخل رسو ل اللّه بيته فلبس لاُمّته ، ثمّ خرج عليهم وقد ندم الناس ، وقالوا استكرهنا رسول اللّه ، قالوا : يارسول اللّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا.
    فقال رسول اللّه : « ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لاُمّتهُ أن يضعها حتّى يُقاتل » (3).
    ونقل الواقدي في مغازيه صورة المشاورة بوجه أبسط وقال : وكان رأي رسول اللّه
    1 ـ المغازي للواقدي المتوفّى عام (207) 1 : 48 ـ 49 بتلخيص.
    2 ـ سيرة ابن هشام 1 : 615.
    3 ـ سيرة ابن هشام 2 : 63 بتلخيص.


(396)
مع رأي ابن اُبيّ وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار.
    فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى عدوّهم ورغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو : أخرج بنا إلى عدوّنا.
    وقال رجال من أهل السنّ والنبه منهم حمزة بن عبد المطلّب ، وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك من الأوس والخزرج : إنّا نخشى يا رسول اللّه ، أن يظنّ عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم ، فيكون هذا جرأة ، ورسول اللّه لما يرى من إلحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتسامون كأنّهم الفحول.
    وقال مالك بن سنان : يا رسول اللّه نحن واللّه بين إحدى الحسنيين ، إمّا أن يظفرنا اللّه بهم ، أو يرزقنا اللّه الشهادة ، وقال حمزة بن عبد المطّلب : والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجادلهم بسيفي خارجاً من المدينة.
    وتكلّم آخرون بمثل ما تكلّم به طلاّب الشهادة والخروج.
    فلما أبوا إلاّ الخروج ، صلّى رسول اللّه الجمعة بالناس ثمّ وعظ الناس وأمرهم بالجدّ والجهاد (1).
    فالناظر فيما نقله الواقديّ حول هذه المشورة يرى تسليم النبيّ للطائفة الثانية لما رأى منهم من الحرص والولع إلى الشهادة ، ورأى أنّ مخالفة هذه الجماعة تميت فيهم روح الحماسة والشجاعة ، ولعلّه يستتبع ردّ فعل سيّء ، فخرج معهم ، وأخبرهم أنّ النصر لهم ما صبروا.
    الثالثة ـ في غزوة الأحزاب (الخندق) ، لمّا وقف رسول اللّه على أنّ قريشاً قد وصلوا مع حلفائهم إلى مشارف المدينة ، أمر بحفر الخندق ، وأشار به سلمان الفارسيّ وكان أوّل مشهد شهده مع رسول اللّه ، وهو يومئذ حرّ (2).
    وقال الواقدي : وشاور رسول اللّه أصحابه في أمرهم بالجدّ والجهاد ووعدهم
    1 ـ المغازي للواقديّ 1 : 210 ـ 214 وقد أخذنا موضع الحاجة منه.
    2 ـ تاريخ الكامل لابن الاثير 2 : 122.


(397)
النصر إن هم صبروا وكان رسول اللّه يكثر مشاورتهم في الحرب فقال : « أنبرز لهم من المدينة أم نكون فيها أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل » ، فاختلفوا فقالت طائفة : نكون ممّا يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف وقال قائل : ندع المدينة خلوفاً ... فقال سلمان يا رسول اللّه إنّا إذ كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق ، فأعجب رأي سلمان المسلمين وذكروا حين دعاهم النبيّ يوم اُحد أن يقيموا ولا يخرجوا فكره المسلمون الخروج وأحبّوا الثبات في المدينة.
    ومن المعلوم أنّ تقديم نظريّة سلمان مع أنّه كان واحداً بين المشاورين كان لأجل كونه رأياً رصيناً ونظريّة صائبة ، وكان مصداقاً لقوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ).
    الرابعة ـ في غزوة الخندق أيضاً ، عندما اشتد على الناس البلاء بعث النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا حتّى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلاّ المراوضة في ذلك ، فلمّا أراد رسول اللّه أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه ، فقال له : يا رسول اللّه أمراً نحبّه فنصنعه ، أم شيئاً أمرك اللّه به أم شيئاً تصنعه لنا ، قال : « بل شيء أصنعهُ لكُم ، واللّهما أصنعُ ذلك لأنّي رأيتُ العرب رمتكُم عن قوس واحدة » فقال له سعد بن معاذ : يا رسول اللّه قد كنّا نحن وهؤلاءالقوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان لا نعبد اللّه ولا نعرفه وهم لايطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قرى أو بيعاً ، أفحين اكرمنا بالإسلام ، وهدانا له وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ... قال رسول اللّه : « فأنت وذاك » ، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب (1).
    الخامسة ـ ماورد في غزوة الطائف ما يشبه المشاورة ، وذلك عندما مضى رسول اللّه حتّى نزل قريباً من حصن الطائف ، فضرب عسكره هناك ، فساعة حلّ رسول اللّه
    1 ـ المغازي للواقديّ 2 : 444 ـ 445.

(398)
وأصحابه جاءه الحبّاب بن المنذر فقال يا رسول اللّه : إنّا قد دنونا من الحصن فإن كان عن أمرنا سلمنا ، وإن كان عن الرأي فالتأخّر عن حصنهم .. قال : فأَسكت رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    وينقل الواقدي عن عمرو بن أميّة أنّ رسول اللّه دعا الحباّب بن منذر فقال : « أُنظُر مكاناً مُرتفعاً مُستأخراًعن القوم » فخرج الحبّاب حتّى انتهى إلى موضع مسجد الطائف فجاء إلى النبيّ فأخبره فأمر رسول اللّه أصحابه أن يتحوّلوا (1).
    وأنت إذا عطفت النظر على المشورتين الرابعة والخامسة تقف على أنّ قبول النبيّ لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل وهو حفظ كيان الأنصار وصون دمائهم وأموالهم بعد أن رأى أنّ العرب تألّبت عليهم ، وقصدت رميهم عن قوس واحدة فلمّا تكلّم مع رئيس الأوس سعد بن معاذ ورأى فيهم قوّة قلب ورباطة جأش وإصراراً على المواجهة والتفدية والتضحية انقلب الموضوع فنزل عند رأيهم وطلب منهم على مواصلة الحرب.
    كما أنّ النزول عند اقتراح من اقترح تغيير المعسكر لم يكن إلاّ تقديراً لاقتراح المقترح مع كون النزول في المعسكرين سواسية.
    فالناظر في تلكم المشاورات يجد أنّ النبيّ لم يكن يقدّم رأياً ويؤخّر اُخرى لأجل الأقليّة والأكثريّة ، بل لإنّه كان يستمع لجميع الأراء والاقتراحات ثم يختار ما هو الأصوب.
    ولأجل ذلك نرى أنّه ربما كان يعارض رأي الجماعة .. كما في صلح الحديبيّة فإنّ أكثر الأصحاب ممّن كان يعبأ بقوله ورأيه كانوا يخالفونه في عقد الصلح مع المشركين في الحديبية ومع ذلك كلّه فقدعقد الصلح ، وأمضاه ، راجع تفصيل ذلك كلّه في السير والتواريخ (2).
    وأوضح من ذلك قصّة اُسامة بن زيد حيث عقد رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم اللواء له وفعل
    1 ـ المغازي للواقديّ 3 : 925 ـ 926.
    2 ـ سيرة ابن هشام 2 : 316 ـ 317.


(399)
ذلك بيده الشريفة تحريكاً لحميّتهم وإرهافاً لعزيمتهم وقال : « سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهُم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش » ، لكن الصحابة تثاقلت هناك فلم يبرحوا مع ما وعوه ورعوه من النصوص الصحيحة في وجوب إسراعهم ، وطعن قوم منهم في تأمير اُسامة ، كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه.
    ولكن هذه المخالفة لم تثن عزيمة النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ولم ترده عن رأيه فصعد المنبر فقال : « أيُّها النّاسُ ما مقالةً بلغتني عن بعضكُم في تأميري أُسامة ولئن طعنتُم في تأميري أُسامة لقد طعنتُم في تأميري أباهُ من قبله ، وأيمُ واللّه إن كان لخليقاً بالإمارة وإنّ ابنهُ من بعده لخليق بها » (1).
    ولعلّه يؤيّد ما ذكرنا من أنّ قبول النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لقول المشاورين كان من باب الأخذبالأحقّ والأصلح في مجال العمل لا الأخذ بالأكثريّة بداعي الأكثريّة ما قاله صاحب المنار : إنّ النبيّ رجّح في أحد رأي الأكثرين مخالفاً لرأيه ورجّح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثريّة ظاهريّة فيجب أن يراعي الإمام ذلك ولا مجال في هذا للتفريق والخلاف (2).
    وحصيلة القول : انّ الإمام المفترض طاعته سواء أكان معصوماً أم غيره إذا استشار يجب عليه أن يتحرى الأصلح والأحقّ ولا يخضع للأكثريّة بما هي أكثريّة ولا يوجب رأي الأكثريّة إلزاماً على الإمام أن يختاره ، نعم ربما تقتضي المصلحة الأخذ برأي الأكثريّة كما فعل الرسول في موقف اُحد.
    نعم مسألة الاستشارة في الاُمور تختلف عن مسألة انتخاب الحاكم أو النائب الأصلح فإنّه يؤخذ فيه بالأكثريّة حسماً لمادّة النزاع والاختلاف لا أنّ الحلّ منحصر في هذا الاسلوب لا غير بخلاف ما إذا كان هناك حاكم إسلاميّ مفروغ السلطة آخذاً بالزمام تحت الضوابط السالفة ، فعندئذ إذا استشار جماعة ، في مشاكل الاُمور ، وطلب آراءهم ، لم تكن آراء المشيرين ملزمة له وحجّة عليه ، إذا رأى الحقّ في خلافهم.
    1 ـ راجع طبقات ابن سعد 2 : 190.
    2 ـ المنار 5 : 191.


(400)
6
خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها
ضمان الحريّات المعقولة
( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (الأعراف : 157)
    لم تزل الحريّة (أعزّ) ما تنشده البشريّة قديماً وحديثاً ، وتبذل من أجلها النفوس والدماء ، ولذلك فالحريّة كلمة مقدّسة تهفو إليها الشعوب والجماعات وخاصّة المستضعفة والمضطهدة منها وتسعى لتحقيقها بكلّ وسيلة ولكنّها قليلاً ما تنالها وتصل إليها رغم ما تبذل من دماء ، وتقدّم من ضحايا في سبيلها.
    فلا تزال شعوب وجماعات إلى اليوم ترزح تحت ضغط الاستبداد والديكتاتوريّة وتعيش بين مخالب الاستعباد والاستعمار.

ما هي الحريّة ؟
    لقد عرّف الحقوقيّون (الحريّة) بتعاريف مختلفة فعرّفها مونتسكيو بأنّ (الحريّة هي حقّ صنع جميع ما تبيحه القوانين ، فإذا استطاع أحد أن يصنع ما تحرّمه القوانين فقد
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس