مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 401 ـ 410
(401)
الحريّة (وسلبها) وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما صنع) (1).
    وعرّفها آخرون بأنّ الحريّة تعني أن لا يكون أمام الإنسان أيّ مانع من التفكّر والعمل الحسن ، وعرّفها آخرون باُمور وتعاريف اُخرى ، ولكنّنا نرى أنّ التعريف الجامع هو : أنّ الحريّة تعني أن يكون الجو الاجتماعيّ بنحو يستطيع فيه كلّ فرد من أفراد المجتمع من إخراج مواهبه وقابليّاته إلى منصّة الظهور دون أن يمنعه مانع ، أو يحجزه حاجز يقف دون ظهور المواهب ، ويمنع من نمو الاستعدادات.
    وقد جاء الأنبياء والمرسلون لمثل هذه المهمة الكبرى ، فهم جاؤوا ليرفعوا جميع الموانع والحواجز من بين أيدي البشريّة ، ويخلقوا بيئة حرّة لا مكان فيها للسدود والقيود حتّى يستطيع كلّ فرد أن يصل إلى كماله المنشود ، وينمّي مواهبه وقابليّاته دون مانع.

أقسام الحريّات ومجالاتها
    تنقسم الحريّة إلى أقسام كثيرة نشير إلى أهمّها وهي :
    1 ـ الحريّة الشخصيّة.
    2 ـ الحريّة الفكريّة والعقيديّة.
    3 ـ الحريّة السياسيّة.
    4 ـ الحريّة المدنيّة.
    وإليك تفصيل الكلام في هذه الحريّات.

1 ـ الحريّة الشخصيّة
    وتعني أنّه لا سيادة لأحد على أحد بالأصل والفطرة ، فكلّ إنسان حرّ بالذات
    1 ـ روح الشرائع 1 : 226 ، طبعة دار المعارف بمصر ترجمة عادل زعيتر (عام1953 م).

(402)
وليس بمملوك لأحد أو مستعبد لآخر.
    والحريّة بهذا المعنى حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان ، لا أنّه أمر خاضع للوضع والجعل ليمكن إعطاؤه أو منعه ، خلاف ما اعتقده بعض الفلاسفة الذين مضوا حيث كانوا يعتقدون بأنّ اللّه خلق الناس صنفين عبيداً وأحراراً. وأنّ السود هُم العبيد الذين زودهُم اللّه بقوة أكبر لخدمة الأحرار وأنّهم محرومون من كلّ ما يتمتّع به الأحرار من امتيازات وحقوق.
    وقد اعترف الإسلام بهذه الحريّة لكلّ إنسان ونادى بها ، ودعا إلى احترامها وحمايتها قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « لا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّهُ حُرّاً » (1).
    وألغى كلّ الفوارق المزعومة بين الناس وردّ الجميع إلى أصل واحد حيث قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « أيُّها النّاسُ أنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمةً وإنّ النّاس كُلُّهُم أحرار » (2).
    وهذا هو أصل نادت به جميع الرسالات الإلهيّة من قبل ، فها هو القرآن الكريم يحدّثنا كيف اعترض موسى (عليه السلام) على فرعون استعباده لبني إسرائيل لمّا منّ فرعون على موسى بتربيته له ، وعنايته به مذ كان صغيراً وقال : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَليدَاً ) (الشعراء : 18) فقال موسى : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تُمَنُّها عَلَيَّ أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرائيْل ) (الشعراء : 22).
    وهذا يعني أنّ النعم مهما كانت كبيرة وعظيمة لا تساوي شيئا إذا سلب الإنسان حريّته.
    ولأجل ذلك يوبّخ اللّه سبحانه أهل الكتاب على خضوعهم لأحبارهم ورهبانهم واتّخاذهم أربابا وأسياداً من دون اللّه إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيح ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِدَاً لا إِلهَ إلاّ هُوَ سُبحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة : 31).
    1 ـ روضة الكافي : 9.
    2 ـ مرّ مصدر هذا الحديث.


(403)
    لأنّ ذلك يعني تخلّي أهل الكتاب عن حرّيتهم الطبيعيّة ، وإعطاء مصيرهم في التحليل والتحريم والتشريع والتقنين إلى بشر أمثالهم وهو أمر مرفوض في منطق الدين ، الذي يرى بأنّ اللّه خلق الناس أحراراً ، وأراد لهم أن يعيشوا كذلك ولا تكون لأحد على أحد سلطة التشريع إلاّ للّه سبحانه.
    وقد دعا الإسلام أهل الكتاب إلى نبذ هذه الأرباب والأسياد البشريّة وتحرير الإنسان من كلّ قيد ظالم فقال : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَواْ إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضَاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آلعمران : 64).
    ولقد دفع الإسلام اتباعه إلى الدفاع عن حريّتهم ، وزرع فيهم روح العزّة والإباء والاعتلاء إذ قال : ( وَلِلّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (المنافقون : 8).
    وقال سبحانه : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِيْنَ ) (آلعمران : 139).
    ورفض أن يذلّ المؤمنون أنفسهم ويتخلّوا عن حريّتهم وعزّتهم فقال عليّ (عليه السلام) : « إنّ اللّه تبارك وتعالى فوّض إلى المُؤمن كُلّ شيء إلاّ إذلال نفسه » (1).
    وقال الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) في الرد على من أرادوا له الخضوع ليزيد : « لا اعطينّكُم بيدي إعطاء الذّليل ولا اقّرُ لكُم إقرار العبيد » (2).
    بل وليس الإيمان باللّه ورفض الشركاء والأنداد الذي دعا إليه الدين إلاّ الخروج من عبوديّة العباد إلى جوّ الحريّة الكريمة اللائقة بالإنسان المتوفّرة في العبوديّة للّه وحده.
    فجملة لا إله إلاّ اللّه من أعظم الشعارات التي نادى بها الإسلام لتحرير الإنسان وإخراجه من أيّة عبوديّة وخضوع لأحد إلاّ للّه سبحانه.
    1 ـ وسائل الشيعة 6 : 424.
    2 ـ بلاغة الحسين : 43.


(404)
    نعم ربّما يتسبّب الإنسان نفسه في عبوديّته إذا تخاذل وخنع ، وتهاون في حفظ شخصيّته ، وترك الآخرين يستعبدونه ويسلبون حريّته ، ويستعلون عليه ويسترقّونه ولم يدافع حقّ الدفاع عن حريّته وكرامته ، قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « الناسُ كُلُّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعُبُوديّة » (1).
    ولكنّ الإسلام حارب كلّ ألوان الخضوع والتبعيّة لغير اللّه .. ووصف هدفه بأنّه جاء ليضع عن الناس كلّ الأغلال قال سبحانه : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (الأعراف : 157).
    كما حارب الإسلام بشدّة كلّ ألوان الرقّ الذي كان متعارفاً زمن الجاهليّة ولا زال العالم الحديث يعاني منه قليلاً (2).
    ومن حقّ الحريّة الشخصيّة هذه أن يصبح كلّ إنسان آمناً على حريّته فلا يحبس ولا يعتقل إلاّ بقانون صحيح (3).

2 ـ الحريّة الفكريّة والعقيديّة :
    وهي من أهمّ أقسام الحريّة (بعد الحريّة الشخصيّة) وتعني : بأن يكون لكلّ إنسان الحقّ في اختيار ما يراه من عقيدة ، واعتناق ما يريده من فكرة دون أن يجوز لأحد إجباره على غيره ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم إذ قال : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) (البقرة : 256).
    1 ـ وسائل الشيعة 3 : 243.
    2 ـ لقد ذكرنا لك فلسفة الرقّ الذي يعترف به الإسلام أثناء الحرب في الفصل الرابع الصفحة : 257 من هذا الكتاب.
    3 ـ ليس للسجون في النظام الإسلاميّ مجال واسع كما هو الحال في الأنظمة الوضعية ، نعم هناك بعض الموارد يضطرّ فيها الحاكم إلى حبس الأفراد وهي نادرة مذكورة في الفقه ، وسنذكر إجمال القول فيها في آخر هذا الفصل.


(405)
    وقد وصف اللّه سبحانه مهمّة نبيّه محمّد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بأنّها مهمّة التذكير والإرشاد لا القهر والإجبار فقال : ( فَذَكِّرْ إِنّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر ) (الغاشية : 21 ـ 22).
    وستعرف ـ في الفصول القادمة ـ مدى تسامح الإسلام مع أصحاب الشرائع الاُخرى وما قرّره للأقلّيات الدينيّة من حريّات وحقوق.
    فلأجل هذه الحريّة لا يجوز أن يجبر كافر (كتابيّ أو غير كتابيّ) على إعتناق الإسلام ، أو يمنع الوثني إذا أراد أن يعتنق إحدى الشرائع الكتابيّة الاُخرى أو أراد أن ينتقل من وثنيّة إلى وثنيّة اُخرى ، أو يتحوّل يهوديّ إلى النصرانيّة أو نصرانيّ إلى اليهوديّة.
    نعم لا يحقّ للمسلم أن يبدّل دينه إلى غير الإسلام لأنّ في ذلك إهانة للدين وجرحاً للعقيدة الإسلاميّة وإضعافاً لموقع المسلمين ولذلك يقتل المرتدّ إذا كان معانداً ، إلاّ إذا كان شاكّاً إشتبه عليه الأمر فوجب رفع شبهته وتبديد شكّه ، فإن عاند ـ بعد ذلك ـ قتل ، وتقبل توبة المرتدّ الفطريّ إذا كان إرتداده عن شبهة حصلت له ، واعترضت سبيل اعتقاده.
    بيد أنّ الارتداد الجماهيريّ لا يكون سبباً لتطبيق حكم الارتداد ، وهو لا يكون غالباً عن تغيير طبيعيّ و جذريّ في الاعتقاد ، إذ يكون عادة بسبب الجوّ الفكريّ أو الدعاية الكبرى التي ينحرف بسببها الكثيرون ولا يؤمن معها على انحراف عقيدة وتبديل دين.
    على أنّ الإسلام لا يترك الناس دون توجيه وارشاد وتبيين الرشد من الغيّ ، ومن هذا الباب ، نفيه لكلّ العوامل والأمور التي تمنع من التفكّر الصحيح.
    فقد عمل الإسلام على إزالة كلّ الموانع أمام الرشد الفكريّ السليم التي توجب انحراف العقيدة وتقييد الفكر البشريّ عن النمو والانطلاق وهذه الموانع هي :
    1 ـ الإبقاء في الجهل والعمى.
    2 ـ التفتيش عن العقائد.


(406)
    3 ـ نشر الخرافات وتعميمها.
    4 ـ إلهاب الغرائز الجنسية والأهواء الفاسدة.
    أمّا ابقاء الناس في الجهل والعمى (وهو الذي يسعى إليه المستعمرون فيمنعون من بثّ الثقافة والعلم بين الشعوب المغلوبة حتّى يبقى النّاس في تأخّر وانحطاط. فها هي الجزائر أيام الاحتلال الفرنسيّ لم يتجاوز المتعلّمون فيها (1000 شخص) ، فقد قابله الإسلام باشاعة الثقافةوتعميم العلم ودعوة الناس إلى اكتساب المعرفة ، كما سنعرف ذلك مفصّلاً في الفصول القادمة.
    وأمّا التفتيش عن العقائد وملاحقة كلّ من يخالف اعتقاده عقيدة الجماعة فهو أمر طالما عانت منه البشريّة في ظل بعض الشرائع المحرّفة ، فقد مارست الكنيسة هذا الأمر اتّجاه كلّ المتدينين بغير دينها ، وأقامت محاكم التفتيش هنا وهناك وأح ـ رق ـ ت وقتلت جم ـ اع ـ ات كبي ـ رة من الناس له ـ ذا السبب حتّى أنّ وي ـ ل دورانت ذكر في تاريخه : أنّ عدد من قتل حرقاً بين عام 1480 و 1488 بلغ 8800 شخصاً ومن حكم عليه بالأحكام الشاقّة بلغ 96494 (1).
    وقدرفض الإسلام هذه الرقابة وهذا التفتيش حيث دعا إلى التفكّر الصحيح للوصول إلى الحقيقة ولهذا عدّه من أفضل العبادات.
    قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعلَمُونَ ) (الزمر : 9).
    وقال سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (الزمر : 17 ـ 18).
    وقال الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في حديث مشهور : « تفكُّرُ ساعة أفضلُ من عبادة سنة ».
    كما وأكّد على دور العقل والتعقّل ومن ذلك ما قاله عليّ (عليه السلام) : « أفضل العبادة إدمانُ التفكُّر » وقال : « ونبّه بالتّفكُّر قلبك » (2).
    1 ـ قصة الحضارة : ويل دورانت الجزء 18.
    2 ـ راجع الكافي 1 كتاب العقل والجهل : 54 ـ 55 و 224 ، وسفينة البحار 2 : 382.


(407)
    وكمثل بسيط نذكر لك قصّة صفوان بن اُميّة الذي كان يعادي النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم فخرج هارباً ، فأمّنه النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأعطاه عمامته التي دخل فيها مكّة كوثيقة للأمان فلمّا اطمأن ورجع حتّى وقف على رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قال : إنّ هذا يقول : إنّك قد أمنّتني ، قال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « صدق » قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
    قال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « أنت بالخيار فيه أربعة أشهُر » (1).
    وهكذا نجد النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يخيّر هذا المشرك ويمهله أربعة أشهر ليفكّر ويختار الإسلام عن قناعة وقبول.
    ولعلّ أوضح دليل في هذا المجال هو قوله سبحانه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ) (التوبة : 6).
    وهنا لا بدّ أن نسجّل أنّ هذه الآيات والمواقف الصريحة في حريّة الاعتقاد تكذّب الاتّهام القائل بأنّ الإسلام انتشر بالسيف ، فالإسلام انتشر بالتبليغ الحسن ، والدعوة الخالصة ورغبة الشعوب فيه.
    وهذه هي حقيقة يعترف بها الأجانب قبل الأصدقاء ، فهذا هو غوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب يقول :
    (إنّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن فقد ترك العرب المغلوبين على أمرهم أحراراً في أديانهم ولم ينشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقت الشعوب التي قهرت العرب مؤخّراً كالترك والمغول ، وأدرك الخلفاء السابقون أنّ النظم والأديان ليست ممّا يفرض قسراً فعاملوا أهل كلّ قطر استولوا عليه بلطف عظيم ، فالحقّ أنّ الاُمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب(المسلمين) ولا ديناً سمحاً مثل دينهم) (2).
    1 ـ سيرة ابن هشام 2 : 417 ـ 418.
    2 ـ روح الشرائع 2 : 178 ـ 179 نقله عادل زعيتر في هامشه عليه.


(408)
    ولتوفّر مثل هذه الحريّة الفكريّة والعقيديّة في ظلّ الإسلام ، نرى أنّ الملاحدة والزنادقة الذين كانوا يحملون عقائد مضادة للإسلام كانوا يعيشون في الأوساط الإسلاميّة في القرون الاُولى أحراراً ودون أن يمسّهم أحد بسوء ... بل وطالما كانوا يناقشون أئمة المسلمين كما نلاحظ ذلك من مناظراتهم واحتجاجاتهم مع النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم والإمام علي (عليه السلام) والباقر و الصادق ( عليهما السلام ) (1).
    أمّا منع كتب الضلال وتحريم اقتنائها وتداولها الذي نجده في الفقه الإسلاميّ; فهو خاصّ بمن يتضرّر فكريّاً بهذه الكتب ، فإنّ كتب الضلال بمنزلة الدواء الضارّ فكما لا يصحّ السماح لكلّ أحد حتّى الأطفال باقتناء الدواء الضارّ; كذلك لا يجوز لغير العالم الراسخ في عقيدته تناول هذه الكتب تجنيباً للمجتمع من أخطارها وأضرارها.
    وأمّا الخرافات المانعة من التفكّر الصحيح; فقد حاربها الإسلام محاربة لا هوادة فيها ، فمن جانب دعا إلى التأمّل والتدبّر والتفكّر الصحيح ومنع من التقليد الأعمى ، ومن جانب آخر منع بشدّة من الاعتقاد بالخرافات واعتناقها ... وكافحها مكافحة قويّة ، فهو ينكر على الوثنيّين عبادتهم للأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع فيقول سبحانه : ( أَتَعْ ـ بُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) (الصافات : 95).
    كما نرى النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يوصي معاذاً حينما يبعثه إلى اليمن قائلاً : « وأمت أمر الجاهليّة » (2).
    ويقول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في صراحة كاملة : « كُلّ مأثرة في الجاهليّة تحت قدميّ » (3).
    ولما قبض ابراهيم ابن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم جرت في موته ثلاث سنن ، أمّا واحدة فإنّه لمّا قبض انكسفت الشمس فقال الناس : إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول اللّه المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : « أيُّها الناسُ إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره مُطيعان لهُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا
    1 ـ راجع لمعرفة هذه الاحتجاجات والمناظرات كتاب الاحتجاج وعيون أخبار الرضا ( عليه السلام ).
    2 ـ تحف العقول : 29 ، وسيرة ابن هشام 3 : 412.
    3 ـ تحف العقول : 29 ، وسيرة ابن هشام 3 : 412.


(409)
انكسفا أو أحدُهُما صلُّوا ».
    ثمّ نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف فلما سلّم قال : « قُم يا عليّ جهّز ابني » (1).
    وأمّا مسألة الغرائز الجنسيّة ، التي تعمد السلطات غير الشرعيّة في الأنظمة الوضعيّة إلى إلهابها وتفجيرها لصرف الناس عن التفكير الجدّي في حياتهم من أجل استعبادهم فقد اتّخذ الإسلام من هذه الغرائز موقفاً معقولاً ومنطقيّاً ....
    فإنّ الغرائز الجنسيّة وما شابهها حيث تعتبر من الاُمور الضروريّة لحياة الإنسان وبقائه لم يمكن إلغاءها وحذفها بالمرّة بل وجب تعديلها ووضعها في الموضع الصحيح والاستفادة منها بالقدر اللازم (2).
    إنّ الغرائز حسب منطق الإسلام حاجة ضروريّة لبقاء النوع الإنسانيّ فلم ينكرها كما فعلت الكنيسة التي دعت إلى الرهبنة وتجاهل العواطف والغرائز ولكنّ التمادي فيها والإفساح لها أكثر من الحاجة; يفسد العقل والفكر ويهدم الحياة والاستقرار ويعود الإنسان كالأنعام بل أضلّ ، ولذلك عدّ لها الإسلام ووضع لها برامج صحيحة ، وحدود معقولة.
    بينما عارض الأهواء الفاسدة والمشتهيات الرخيصة المضلّة ، واعتبر ذلك من قبيل عبادة الهوى فقال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْم ) (الجاثية : 23).
    وقال علي (عليه السلام) : « إنّ أخوف ما أخافُ عليكُم اتّباعُ الهوى وطُولُ الأمل » (3).
    وقال (عليه السلام) في شجب اتّباع الشهوات الكاذبة : « عبدُ الشّهوة أشدُّ من عبد الرّقّ » (4).
    1 ـ بحار الأنوار 22 : 155.
    2 ـ راجع أحكام الزواج والأطعمة والأشربة من كتب الفقه الإسلاميّ وكتب الأخلاق والآداب ككتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ.
    3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 41.
    4 ـ غرر الحكم : 498.


(410)
3 ـ الحريّة السياسيّة
    وهي تعني أنّ لكلّ فرد أن يشغل المناصب الإداريّة ويساهم في الاُمور السياسيّة ولا يمنعه عن ذلك مانع ... وهذا حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان فليس لفرد أو جماعة خاصّة أن يستأثر بإدارة البلاد دون اشراك الآخرين في ذلك حسب منطق الإسلام. بينما كان النظام في الشعوب والملل السابقة نظاماً طبقيّاً يقسّم الناس إلى طبقات مختلفة متفاوتة من حيث الحقوق والامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، فكان الحكم والإدارة والسياسة من حقّ الطبقة الخاصّة وكان على بقيّة أفراد الشعب أن يكدحوا ويعملوا ولا يتدخّلوا في الاُمور السياسيّة فلا دور للكفاءات ولا مجال للإسهام السياسيّ مطلقاً.
    وقد كان هذا الوضع سائداً قبل الإسلام في اليونان وإيران والهند وغيرها.
    وربّما كان بعض الشعوب والاُمم كاليهود تقيّم استحقاق المناصب على أساس الغنى والثروة فكانوا يعطون حقّ الملك والسلطنة لمن كان غنيّاً صاحب ثروة ولهذا لما نصب اللّه تعالى طالوت ملكاً على بني إسرائيل اعترضوا بأنّه فقير متجاهلين المؤهّلات والصفات القياديّة الاُخرى (1) ، إذ قالوا : ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ ) فقال اللّه تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) (البقرة : 246) ، مشيراً إلى أنّ طالوت يتمتع بالكفاءات القياديّة وهو المهم في أمر القيادة والولاية والسياسة والإدارة.
    وإلى هذا الملاك (ملاك الكفاءة السياسيّة) يشير النبيّ يوسف (عليه السلام) لمّا يطالب عزيز مصر بأن يسلّمه خزائن البلاد وأمر الاقتصاد فيقول : ( ... اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (يوسف : 55).
    إنّ الإسلام يعتبر الكفاءة واللياقة هو الملاك الأساسيّ للسياسة والإدارة وليس التقسيمات الطبقيّة أو الاعتبارات الماديّة ، وإلى هذا أشار الرسول الأعظم في قوله : « من
    1 ـ بحار الأنوار 13 : 435 ، وتاريخ الطبريّ 2 : 547.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس