مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 421 ـ 430
(421)
داخل النفوس البشريّة ، وإثارتها من مكامنها ، وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ ( عليه السلام ) وهو يصف مهمّة الأنبياء : « فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (1).
    ولأجل ذلك أيضاً أمر اللّه سبحانه نبيّه محمّداً صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بأن يذكّر الناس بما خلقوا وفطروا عليه فقال : ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (الغاشية : 21).
    ولقد أشبعنا الكلام ـ في الجزء الأوّل ـ عند البحث عن المعرفة الفطريّة ، وقلنا بأنّ الدين ، واُصول فروعه الكليّة مركوزة في النفس البشريّة ، وهو شيء أشار إليه قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيْفاً فِطْرَتَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (الروم : 30).
    فما هو المفطور عليه البشر هو الدين بمعناه الوسيع الشامل للعقيدة والأخلاق والقيم والسجايا وقد روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم قوله : « ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. ثُمّ قال : ( فِطْرَةِ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) » (2).

عوامل تكوين الشخصيّة
    وتتلخّص عوامل تكوين الشخصيّة وأجواء التربية في ثلاث اُمور أساسيّة هي :
    1 ـ الوراثة.
    2 ـ التعليم.
    3 ـ البيئة.
    ولقد اهتم الإسلام بهذه الاُمور الثلاثة اهتماماً بالغاً ، ورسم لها برامج ومناهج
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة الاُولى.
    2 ـ تفسير البرهان 3 : 361 ، التاج الجامع للاُصول 4 : 180



(422)
دقيقة ورصينة ليمكن تكوين الشخصيّة الإنسانيّة المتكاملة والنفسيّة البشريّة الفاضلة; وإليك تفصيل القول في كلّ واحد منها :

1 ـ عوامل الوراثة
    يرى علماء التربيةوالنفس للابتداء في تربية النشء مبدءاً معيّنا في عمر الإنسان ، يعتقدون أنّه الوقت المناسب للتهذيب والتربية ... بيد أنّ الإسلام لا يرى ذلك بل يعتقد أنّ العناية بأمر الطفل يجب أن تبدأ منذ اللقاء الأوّل بين والديه ، ومنذ انعقاد نطفته بل وقبل ذلك. لأنّ الإسلام يرى أنّ أكثر ما ينطوي عليه الأبوان من أخلاق وصفات تنتقل ـ بالوراثة ـ إلى أبنائهم ، وتؤثّر على شخصيّتهم ، ومسيرهم ومصيرهم ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلميّة بالكناية البليغة ، والاشارة الحسيّة اللطيفة حيث قال : ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) (الأعراف : 58).
    إنّ اللّه سبحانه لم يكن يريد أن يقرّر للناس ماهم عارفونه ، ومطّلعون عليه من ظواهر الطبيعة من أنّ الأرض الطيبة يكون نباتها طيباً ، والخبيثة لا يُخرج منها إلاّ النكد ، بل كان يريد الإشارة إلى الدور الحسّاس الذي يلعبه عامل الوراثة وأخلاق الأبوين في المولود. وإلى ذلك يشير شيخ الأنبياء نوح (عليه السلام) حيث يدعو اللّه سبحانه أن لا يبقي من قومه الكفرة أحداً في الأرض لأنّهم إن بقوا لا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً إذ قال اللّه عنه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً * إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّارَاً ) (نوح : 26 ـ 27).
    وهي تكشف عن أنّ صلاح الوالدين يهيّء الأرضيّة لصلاح الولد كما أنّ فسادهما يهيّء الأرضيّة لفساده وانحرافه. كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « حُسنُ الأخلاق بُرهانُ كرم الأعراق » (1).
    1 ـ غرر الحكم : 379.

(423)
    وإلى هذا الناموس الطبيعيّ (الوراثة ) أشارت جملة كبيرة من الأحاديث ، والمناهي الواردة عن النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وأهل بيته المعصومين.
    فقدنهى الإسلام عن التزوّج بالمرأة الحمقاء تجنّباً لمساوئ هذا الزواج إذ قال النبيّ الكريم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء ، وولدُها ضياع » (1).
    كما نهى صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عن تزويج الفاسق : « من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه » (2).
    ولتأثير الوراثة على الشخصيّة الإنسانيّة نرى أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يأمر عامله الأشتر في عهده بالاتّصال بذوي المروءات وأصحاب الأحساب الكريمة حيث يقول : « ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسّوابق الحسنة ثمّأهل النجدة والشّجاعة والسّخاء والسّماحة فإنّهُم جماع من الكرم وشعب من العُرف » (3).
    وذلك لما في هذه الناحية من الأثر الطيّب على فكر الإنسان وسلوكه وشخصيّته ونفسيّته.
    ونهى عن تزويج الزانية والزاني إذ قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا تزوّجوا المرأة المستعلنة بالزّنا ولا تزوّجوا الرجل المستعلن بالزّنا إلاّ أن تعرفوا منهما التّوبة » (4).
    ثمّ أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية اُخرى إلى تأثير الزنا في نفسيّة الطفل المتولّد من الزنا بقوله : « ثانيهما : أنّه يحنّ إلى الحرام الّذي خُلق منهُ ، وثالثُها : الاستخفافُ بالدّين ... » (5).
    ولعلّه يكون لولد الزنا هذه الحال لأنّ والديه حينما يقومان بالزنا ، يشعران بأنّهما ينقضان القانون ، وهي صفة تنتقل إلى وليدهما ـ بالوراثة ـ فيكون الولد المتولّد منهما
    1 ـ وسائل الشيعة 14 : 56.
    2 ـ الكافي 1 : 54.
    3 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب ( الكتاب 53).
    4 ـ مكارم الأخلاق : 104.
    5 ـ سفينة البحار 1 : 560.
    ومن أراد الوقوف على بقيّة الروايات في هذا الباب وتأثير الوراثة على الطفل فليرجع إلى الجزء الرابع عشر من الوسائل من الصفحة 47 إلى الصفحة 57.


(424)
مهيّئاً لنقض القانون ، ويسهل ذلك عنده.
    ولهذا حثّ الإسلام حثّاً شديداً على اختيار الزوجة الصالحة فقال النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس » (1).
    وقال : « إيّاكم وخضراء الدّمن »
    قيل : وما خضراء الدمن ؟
    قال : « المرأة الحسناء في منبت سوء » (2).
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « طوبى لمن كانت اُمّه عفيفةً » (3).
    وقال الحسين بن بشّار الواسطي كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّ لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء قال : « لا تزوّجه إن كان سيّء الخلق » (4).
    وأنت إذا تصفّحت الأحاديث المرويّة في هذا المجال لوجدت أنّ الإسلام اعتبر صلاح الوالدين اللبنة الاُولى في صلاح الولد واستقامته. وقد صار هذا القانون معروفاً بين الناس حتّى عاد شاعرهم يقول :
    ينشأ الصغير على ما كان والده إنّ الاُصول عليها تنبت الشجر
    ولابدّ من القول بأنّ ما ذكر حول عامل الوراثة ، وأثره في تكوين شخصيّة الطفل; لا يعني أنّ ما يرتسم في شخصيّة الطفل من أبويه ـ بالوراثة ـ لا يتغيّر ولا يخضع للتبدّل والتحوّل بحيث لا يمكن أن تؤثّر فيه عوامل اُخرى تقضي على ما ورثه من كريم السجايا وشريف الأخلاق أو سيّئها ، بل يعني أنّ الوراثة ، وصلاح الأبوين يعتبر عاملاً مقتضياً لصلاح الطفل وأرضيّة مناسبة لتنشئته نشأة صالحة مستقيمة ، ما لم يمنع مانع ، ولم يطرأ طارىء ، كما حدث لولد نوح وغيره ، وكذا العكس.
    وهكذا يكون عامل الوراثة وصلاح الوالدين أوّل مدرسة للتربية السليمة ،
    1 ـ غرر الحكم : 379.
    2 ـ المحجّة البيضاء 2 : 52 ، بحار الأنوار 22 : 54.
    3 ـ بحار الأنوار 23 : 79.
    4 ـ وسائل الشيعة 14 : 54.


(425)
وتكوين الشخصيّة الصالحة. نعم إنّ صلاح الوالدين من حيث الصفات الذاتيّة وحده لا يكفي في نشأة الولد نشأة صالحة ، بل يفرض الإسلام على الأبوين أن يتعاهدا ولدهما بالتربية العمليّة ، والأدب السليم فقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) : « وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره وشرّه وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب ، والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة على طاعته فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه » (1).
    وقال الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « الرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم » (2).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب » (3).
    وحيث أنّ الكتب الأخلاقيّة الإسلاميّة قد تكفّلت بالبحث المفصّل والعميق في وظيفة الوالدين ، فقد طوينا الكلام عنها في هذا الباب خاصّة ، وفي مجالات التربية عامّة.
    وفي الحقيقة يكون ما ذكرناه هنا دراسة عابرة للإشارة إلى وجود منهج التربية في الحكومة الإسلاميّة ، والتفصيل موكول إلى الكتب المعدّة لذلك ، ويكفي لمعرفة أهميّة التزكية والتهذيب ، ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) : « أحبّ إخواني من أهدى إليّ عيوبي » (4).

2 ـ التعليم (5)
    عندما تتكوّن اُسس الشخصيّة وقواعدها في نفسيّة الطفل ـ بالوراثة ـ يأتي دور المعلّم ، الذي يمثّل المدرسة التربويّة الثانية بعد مدرسة الأبوين وعامل الوراثة. فعلى
    1 ـ وسائل الشيعة 3 : 135 ، ورسالة الحقوق في آخر كتاب مكارم الأخلاق.
    2 ـ مجموعة ورّام 1 : 6.
    3 ـ غرر الحكم : 393.
    4 ـ تحف العقول : 366.
    5 ـ سوف يوافيك أنّ الحكومة الإسلاميّة يجب أن تقوم بمسؤوليّة التعليم والتثقيف الصحيح السليم.


(426)
يدي المعلّم الصالح والمربّي الطيّب تنمو السجايا والصفات الحسنة ، وتتكامل التربية لدى الطفل ولهذا يكون دور التعليم ـ في مصير الطفل ـ دوراً حسّاساً بالغ الخطورة جداً.
    ففي هذه الفترة ـ بالذات ـ تتّخذ الشخصيّة شكلها الكامل تقريباً ، ومن هنا حرص الدين الإسلاميّ على أن يكون جوّ التعليم جوّاً سليماً طاهراً وصالحاً للغاية ، وذلك لأنّ قلب الطفل أسرع قبولاً لما يلقى فيه ، فهو يتقبّل كلّ شيء من معلّمه ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ولذلك قال الإمام عليّ لولده الحسن ( عليهما السلام ) : « وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك » (1).
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي جعفر الأحول حينما بعثه للتبليغ والتعليم : « عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ الخير » (2).
    إنّ هذه الفترة من أخطر الفترات وأكثرها حسّاسية في حياة الطفل ولذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » (3).
    ولقد كان للتربية الصالحة والتعليم السليم آثاراً جليلة في التاريخ البشريّ فهاهو عمر بن عبد العزيز سليل الشجرة الملعونة على لسان النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم تتغيّر طباعه وتتحوّل سجاياه إذ يتولاّه معلّم صالح بتربية صالحة فينشأ على خلاف ما نشأ عليه آباؤه وأسلافه ويفعل عكس ما يفعلوه.
    قال عمر بن عبد العزيز : (كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمرّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وزدي ، فلمّا رآني قام فصلّى وآطال في الصلاة شبه المعرض عنّي حتّى أحسست منه ذلك فلمّا انفتل من صلاته كلح في وجهي.
    فقلت له : ما بال الشيخ ؟
    1 ـ مستدرك الوسائل 3 : 71.
    2 ـ الكافي 6 : 93 ، 47.
    3 ـ الكافي 6 : 93 ، 47.


(427)
    فقال لي : يا بنيّ أنت اللاعن عليّاً منذ اليوم ؟!
    قلت : نعم.
    قال : فمتى علمت أنّ اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟
    فقلت : يا أبت ، وهل كان (عليّ ) من أهل بدر ؟
    فقال : ويحك! وهل كانت بدر كلّها إلاّ له ؟
    فقلت : لا أعود.
    فقال : اللّه إنّك لا تعود.
    قلت : نعم.
    فلم ألعنه بعدها.
    ثمّ كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذ أمير ، فكنت أسمع أبي يمرّ في خطبته تهدر شقاشقه حتّى يأتي إلى لعن عليّ (عليه السلام) فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك.
    فقلت له يوماً : يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتّى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييّاً ؟
    فقال : يا بنيّ أنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتّبعنا منهم أحد. فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلّمي أيام صغري فأعطيت اللّه عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لاُغيرنّه ... فلمّا منّ اللّه عليّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه ( إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَ يَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْي يَعِظُكُمْ لََعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) وكتبت إلى الافاق فصار سنّة (1).
    1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 58 المتوفّى (655).

(428)
3 ـ البيئة
    إنّ للبيئة والمحيط أثراً كبيراً في تربية الشخصيّة البشريّة وتكوينها فالبيئة الصالحة الطاهرة تساعد على النشأة الصالحة ، وعلى العكس تكون البيئة الفاسدة.
    ويضرب القرآن الكريم لنا مثلاً عن تأثير البيئة في شخصيّة الإنسان وسلوكه ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم إذا ضرب مثلاً على أمر اختار نموذجاً كبيراً ومثلاً بارزاً جدّاً فهو يمثل لمن أثّرت البيئة الفاسدة في سلوكه ومصيره بامرأتي لوط ونوح إذ قال : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرأَتَ نُوح وَآمْرأَتَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنَ فَخَانَتاهُمَا فَلَمْ يَغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئَاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (التحريم : 10).
    ولذلك حرص الإسلام على طهارة المجتمع وسعى في تطهيره من كلّ فساد وانحراف; فأكّد مثلاًعلى اختيار الصديق الصالح لما له من الأثر على شخصيّة صديقه وخلقه وسلوكه قال الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « من أراد اللّه به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » (1).
    وقال صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أيضاً : « اسعد النّاس من خالط كرام النّاس » (2).
    وقد ورد عنه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : أيضاً أنّه قال : « المرء على دين خليله وقرينه » (3).
    وقال الإمام عليّ (عليه السلام) : « واحذر صحابة من يفيل رأيه وينكر عمله فإنّ الصّاحب معتبر بصاحبه » (4).
    وقال (عليه السلام) : « لا تصحب الشّرّير فإنّ طبعك يسرق من طبعه شرّاً وأنت لا تعلم » (5).
    وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « من يصحب صاحب السّوء لا يسلم » (6).
    1 ـ بحار الأنوار 15 : 51.
    2 ـ بحار الأنوار 15 : 51.
    3 ـ وسائل الشيعة 4 : 207.
    4 ـ غرر الحكم : 723.
    5 ـ ابن أبي الحديد 20 الكلمة 147ص272.
    6 ـ مستدرك الوسائل 2 : 65.


(429)
    وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم فكلّ قرين بالمقارن مُقتدي ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
    ولأجل ذلك قرّر الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي من شأنهما تطهير المجتمع ... كما منع من التجاهر بالمعصية لأنّ ذلك يهوّن الذنب ويزيل قبحه ، ويجرّ إلى الانحراف الأخلاقيّ وإلى ذلك أشار الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بقوله : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبدُ سرّاً لم يضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل بها علانيةً ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » (1).
    ثمّ انّ الإسلام لم يكتف بتوجيه العناية إلى الاُمور الثلاثة المذكورة ، وتقوية ما فطر عليه الإنسان ، بل جعل له روادع وزواجر اُخرى فأكّد دور :
    1 ـ العقل.
    2 ـ الأنبياء وأوصيائهم.
    واعتبرهما حجّتين ملزمتين ، قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) : « إنّ للّه على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول » (2).
    وأمّا العقل فقد حثّ الإسلام على إحيائه والاهتمام بنداءاته والأخذ بإرشاداته لأنّه قادر على تمييز الخير عن الشرّ إذ قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رُشدك » (3).
    ومنع من كلّ ما يميت العقل ويقضي على نوره ، ويعطل أثره ... فمنع عن شرب الخمر وتعاطيه مثلاً إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأزْلامُ
    1 ـ وسائل الشيعة 11 : 407.
    2 ـ الكافي 1 : 11.
    3 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ( الرقم 421).


(430)
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَا جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (المائدة : 90).
    وأمّا الأنبياء (عليهم السلام) فقد جهزهم سبحانه بكلّ ما يمكنّهم من تربية الناس تربية صالحة من برامج وتعاليم في هذا المجال.
    والجدير بالذكر أنّ الإسلام اتّخذ طريقين حيويين ليجعل تعاليمه أكثر نفوذاً في النفوس وأكثر توفيقاً ونجاحاً في مجال التربية والتزكية وهما :
    أوّلاً : إنّه بيّن للناس فلسفة الأحكام والتعاليم وعللها النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والصحّية ... ولم يكتف بتقديم النصائح الجافّة ، وذلك ليقف الناس بأنفسهم على المفاسد التي تكمن في المناهي وأضرار المعاصي وإلى هذا يشير ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) : « إن قال قائل : لم أمر اللّه تعالى العباد ونهاهم ، قيل : لأنّه لا يكون بقاؤهم وصلاحهم إلاّ بالأمر والنّهي والمنع من الفساد والتغاصب » (1).
    وكنموذج من هذه العلل نذكر ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) : « حرّم اللّه الخمر لفعلها وفسادها لأنّ مدمن الخمر تورّثه الإرتعاش وتذهب بنوره ، وتهدم مروّته وتحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم وسفك الدّماء ، وركوب الزّنا ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك ولا يزيد شاربها إلاّ كلّ شرّ » (2).
    ولذلك علّل القرآن الكريم تحريمه للخمر والميسر بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (المائدة : 91).
    وقد ألّف علماء الإماميّة ـ رحمهم اللّه ـ كتباً متعدّدة نظّموا فيها ما روي عن النبّي وأئمّة أهل البيت ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حول فلسفة الأحكام وعللها ونخصّ بالذكر كتاب
    1 ـ عيون أخبار الرضا : 101.
    2 ـ وسائل الشيعة 17 : كتاب الأطعمة والأشربة : 244.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس