مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: 451 ـ 460
(451)
والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات (1).
    ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي ، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.
    ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم ، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل; رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة ....
    فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق ، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل ، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها ، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.
    وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.
    ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :
    1 ـ أبو رافع; مولى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.
    2 ـ عبيد اللّه بن أبي رافع; كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال ، ترجم من أصحاب الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من شهد منهم حروب أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل وصفين.
    1 ـ راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » 1 : 82 ـ 88 ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

(452)
    3 ـ عليّ بن أبي رافع; كاتب أمير المؤمنين (عليه السلام) صنف كتاباً في فنون من الفقه : الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.
    4 ـ ربيعة بن سميع; صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.
    5 ـ أبو صادق سليم بن قيس الهلالي; صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.
    6 ـ الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.
    7 ـ أبو عبد اللّه سلمان الفارسي; له كتاب (خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.
    8 ـ أبو ذرّ الغفاريّ; له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.
    هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عصر العسكري (عليه السلام) لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث ، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.
    كلّ ذلك يشهدعلى مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية ، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد ، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.


(453)
    وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك ... وهذا كتاب اللّه سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه (1) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر ، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة؟
    حول الحديث الموضوع
    وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من أنّه قال : « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه » (2) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال : استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا (3).
    وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت : جمع أبي الحديث عن رسول اللّه فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب ، قالت فغمّني كثيراً ، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلّما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها ، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك (4).
    وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول اللّه من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول اللّه أحد أمرين أو كليهما :
    إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّ (عليه السلام) دون سائر الصحابة ، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام ، فحاول أعداؤه ومناؤوه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين ، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.
    1 ـ سورة البقرة 2 : الآية (282) آية الدين.
    2 ـ رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.
    3 ـ صحيح الترمذيّ 2 : 91 (طبعة الهند).
    4 ـ جمع الجوامع للسيوطيّ 2 : 147.


(454)
    وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في فضل عليّ (عليه السلام) وعظم شأنه ، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار ، لأدّت إلى ظهور الإمام (عليه السلام) على سائر الصحابة ، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.
    فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.
    ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره ، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير اللّه شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له فقال : إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه وإنّي واللّه لا أشوب كتاب اللّه بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً (1).
    والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم عن كتابة الحديث كان لخوفه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من اختلاط الحديث بالقرآن.
    ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد ، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل ، واللّه سبحانه يقول : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذِا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرَاً ) (الإسراء : 88).
    وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، لا يشبه كلام الإنسان من حيث
    1 ـ رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص 43.

(455)
الصياغة والانسجام ، والحديث وحي بمعناه دون لفظه ، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.
    وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال : يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع ، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حتّى كان يكره كثرة السؤال ، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلاّ شيئاً طفيفاً إذ القارىء الكريم أعرف بحالها ، إذ أيّ صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة ، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّ صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.
    على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية ، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع ، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.
    ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة ، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم.
    وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال ، فاللّه يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة : انظر من حديث رسول اللّه فاكتبه ، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1).
    1 ـ صحيح البخاريّ 1 : 27 كتاب العلم.

(456)
2
برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها
الحكومة الإسلاميّة
والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة
    حاجة المجتمعات إلى الحقوق
    بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة ، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة ، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر ، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع ، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.
    وقد كان هذا الحلّ يتمّ ـ في العصور السابقة ـ بالقوّة ، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو (الحقّ لمن غلب) ، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة ، والسلاح ، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق ، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد ، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً ، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.


(457)

    وبعبارة اُخرى; إنّ الحقوق عبارة عن (مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ ، ويكون شعبة من الفقه).
    ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية(؟) وأسّست مجالس الاُمّة ، وسنّت القوانين الجديدة ، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون ، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب ، خسر المسلمون ـ بسبب ذلك ـ العدل والرحمة ، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق
    لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق (1) إلى :
    أ ـ داخليّة; تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.
    ب ـ خارجيّة; تختص بالعلاقات المتقابلة بين الاُمم والدول المختلفة.
    وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة ، وعامّة ، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ ـ الحقوق الداخليّة
    والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :
    الاُولى ـ القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد ، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة ... فهو بمثابة (الاُسس الكليّة لأي
    1 ـ ليس المراد بالحقوق ـ هنا ـ هو المعنى الخاصّ له ، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

(458)
نظام).
    الثانية ـ القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها ، وما يحدّد علاقات الأفراد (موظّفين ومراجعين) بها.
    الثالثة ـ الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم ، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.
    وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :
    الاُولى ـ الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة ، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.
    الثانية ـ القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.
    الثالثة ـ القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب ـ الحقوق الخارجيّة (الدوليّة)
    والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول ، والحكومات مع الحكومات ، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.
    والخاصّة ، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.
    هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق
    لقد حظيت الحقوق ـ في الفقه الإسلاميّ ـ بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ ، وأمتن الحقوق ، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك ـ مضافاً إلى ذلك ـ خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة


(459)
الوضعيّة هي :
    أوّلاً : انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها ، وجزئياتها من (الوحي الإلهيّ ) ، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل ، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير ... والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.
    ثانياً : أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير ، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت ، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر ، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله ، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ماتنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.
    نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً ، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة (1).
    ثالثاً : إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.
    وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أيّ دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلاّ بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون ، وخوفاً من سلطات الدولة.
    ولا يخفى على أيّ ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.
    ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة
    1 ـ راجع هذا البحث في الجزء الثالث من هذه المجموعة القرآنيّة تحت عنوان (معالم النبوّة في القرآن الكريم).

(460)
بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان ، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.
    أمّا النظام الإداريّ (وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرمصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وسنّته الشريفة ، وسيرة الإمام عليّ وكلماته (عليه السلام) وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ ، ويمكن للقارىء الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :
    1 ـ الراعي والرعيّة للفكيكيّ.
    2 ـ نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.
    وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات ... هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.
    وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة ـ قديماً ـ تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.
    وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.
    وأمّا ما يرجع إلى (العلاقات التجاريّة) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية : التجارة ، الخيار ، السلف ، المفلس ، الحجر ، الضمان ، الصلح ، العارية ، الوديعة ، الشركة ، المضاربة ، المزارعة ، المساقاة ، الإجارة ، الوكالة ، الوقف ، السبق والرماية.
مفاهيم القرآن ـ الجزء الثاني ::: فهرس